1069028
1069028
المنوعات

لا أتهافت على ترويج منتجي ولا أحمل حقيبة بمؤلفاتي الشعرية

27 يوليو 2017
27 يوليو 2017

الشاعر شعبان يوسف لـ «عمان»:-

القاهرة - حسن عوض:-

يعد الكثيرون الشاعر المصري الكبير شعبان يوسف خازن أسرار وحامل مفاتيح الحياة الثقافية المصرية، عبر أكثر من خمسة وثلاثين عاماً قدم شعبان كثيرا من الأدباء من خلال «ورشة الزيتون» التي يشرف عليها حتى الآن، وصار كثير من الأدباء الذين قدّمهم نجوماً، وتصدروا الساحة الثقافية.

شعبان يوسف الذي أصدر سبعة دواوين هي بالترتيب «مقعد ثابت في الريح، معلومات، كأنه بالأمس فقط، تظهر في منامي كثيراً، أكثر من سبب للعزلة، أحلام شيكسيبرية، معاودات وليس معلومات» يرى أن الزمن لو عاد به لن يتراجع عن رسالته التي حملها على عاتقه، وهي الإسهام في نشر الثقافة والتعريف بالكتاب، لا يرى شعبان أنه ظلم نفسه، وتكفيه علاقات الاحترام الواسعة التي تجمعه بمعظم المثقفين المصريين والعرب، في هذا الحوار يفتح شعبان يوسف دفاتره وخزانة أسراره لـ«عمان» ويبوح بالكثير من تفاصيل علاقته بأبناء الجيل العظيم في الساحة الثقافية المصرية، جيل الستينيات.

■ بعد أكثر من 35 عاماً من إدارة العمل في ورشة الزيتون التي قدمت أجيالاً إلى الحياة الثقافية المصرية.. هل تشعر بأنك أديت واجباً أو رسالة إلزامية؟

لا أخفيك سراً أنني قبل أن أشرع أنا وبعض الزملاء في إنشاء ورشة الزيتون عام 1979، وكنت في الرابعة والعشرين من عمري، انخرطت في أنشطة ثقافية وسياسية عامة، وكنت أحضر اجتماعات مجلة «إضاءة 77» منذ أن فكر الزملاء في إصدار مجلة شعرية، وقد كنت مشاركاً بشكل واسع في الحركة الطلابية ضد إجراءات القوانين المكبلة للحريات، وشاركت بقسط واسع في انتفاضة 1977، وكنت وأنا في العشرين من عمري أقرأ قصائدي في منتديات قاهرية وإقليمية كثيرة.

وعندما استقر بي المقام في «ورشة الزيتون»، وكانت معي كوكبة من شباب الحركة الأدبية، شعرت بأن الورشة ستوفر لي قدرا واسعا وعميقا من الحركة الثقافية وجدواها وتأثير فعالياتها، بعيدا عن الأروقة الرسمية الخلّابة والخادعة في الوقت ذاته.

إذ أن ورشة الزيتون كانت بعيدة بشكل جغرافي عن الأماكن التقليدية التي كان يُدار فيها النشاط الثقافي، مثل أتيليه القاهرة، وقصر ثقافة قصر النيل، وقصر ثقافة الريحاني، ودار الأدباء، ونادي القصة، وغيرها من أماكن عتيقة وفارهة وتقدم ثقافة تقليدية، أستثني أتيليه القاهرة الذي كان في ذلك الوقت نشيطا بشكل مكثف، وكان الناقد الكبير إبراهيم فتحي، يناقش أسبوعيا نصوصا روائية أو شعرية أو قصصية، وكذلك يعطي دروسا بالغة الأهمية في النقد الأدبي، وكان على ضفاف إبراهيم فتحي العظيم، رهط من النقاد الكبار مثل محمود أمين العالم وغالي شكري وفريدة النقاش، ومن شباب النقاد سيد البحراوي وشاكر عبد الحميد وغيرهم، كان الأتيليه رئة قوية وشبه وحيدة في وسط المدينة، وكانت المقاهي تلعب دورا مهما في النشاط الثقافي، إذ كانت ندوة نجيب محفوظ على مقهى ريش يوم الجمعة، وكانت ندوة علي بابا يوم الأحد، وكان المثقفون يجتمعون على مقاه أخرى، ولم يكن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ذا شأن بالنسبة للمثقفين، وكذلك معظم الأماكن الأخرى الحكومية.

جاءت الورشة لتلبي أغراض المثقفين والكتّاب والمبدعين الهامشيين، وبالفعل رفعت شعار أن الورشة هي صوت من لا صوت له، واستطعنا أن نكسر حاجز وسط المدينة رويدا رويدا، وكان المثقفون يتوافدون بشكل غير كثيف في البداية، ولكن بعد شهور قليلة أصبح للورشة حضور ملموس، وصارت رقما ثقافيا فاعلا، وتكوَّن لها صوت خاص ومستقل ومؤثر بين الأصوات المتناثرة هنا وهناك، وعلى مدى السنوات الثمانية والثلاثين، وهي تقريبا سنوات حياتي العامة، اعتقد أنها لعبت دورا محوريا وذا تأثير في الحياة الثقافية المصرية والعربية، وما من مثقف مصري إلا وقد أدلى بدلوه في نشاط الورشة، وبهذا اعتقد أن الورشة قدمت وما زالت تقدم رسالة خاصة جدا في الثقافة المصرية والعربية.

■ هل تنظر خلفك برضى.. ألا تشعر بأنك ظلمت شعبان يوسف الشاعر بتخصيص وقت طويل للعمل الثقافي التطوعي؟

بالطبع أنظر خلفي برضا وسعادة وانتشاء أيضا، وعندما أتأمل فكرة إنشائنا نشاطا دون أدنى احتياج للمؤسسة الرسمية، ودون احتياج لأي تمويل داخلي أو خارجي، أشعر بزهو ما بعده زهو، وستظل الورشة عملا شبه رائد في المستقبل لأجيال قادمة، ومن ناحية تجربتي الشعرية، فأنا قدمت سبعة دواوين ومسرحية، وأنت تعلم بأنني لا أتهافت على ترويج منتجي الثقافي بأي شكل من الأشكال، ولا أحمل حقيبة تتكدس بها مؤلفاتي الشعرية، فمهمتي الأساسية أنني أكتب، أكتب فقط ولا شيء آخر، كنت أعيش حالة الشاعر الجوّال الذي لا يحتاج إلى طباعة دواوينه، ويكفي أن ديواني الأول «مقعد ثابت في الريح» طُبع ونُشر دون معرفتي، وهذا الأمر له حكاية كتبتها أكثر من مرة، وكذلك الدواوين التي تلت ديواني الأول الذي نشر عام 1993، لم أبذل أي مجهودات في نشرها، ولم أسع إلى ناقد ليكتب عن شعري، واعتذرت مؤخراً لإحدى المؤسسات الرسمية عن طباعة أعمالي الشعرية كاملة، واعتقد أنني لست غاضبا من طبيعتي التي لا تهفو ولا تهرول، ورغم ذلك فدواويني حظيت بكتابات نقدية على المستوى المحلي والعربي بما يكفي، وأحيانا أقول لنفسي: «لو كنت بذلت مجهوداً أكبر، لانتشرت شعريا أكثر من ذلك»، لكنني سرعان ما أطرد ذلك الهاجس الطارئ، وأنا من المقتنعين بمقولة «مالك سوف يأتيك»، حتى جوائز الدولة كلها لم أتقدم لها على الإطلاق، كذلك الجوائز الخاصة الأخرى، ولم أنضم إلى اتحاد الكتاب، رغم أن أصدقاء أعزاء طاردوني من أجل الانضمام، ولكني عزفت عن ذلك.

■ هل تشعر بأنك مظلوم نقديا كشاعر وباحث جاد قدم عددا من الدواوين والمسرحيات الشعرية والكتب الثقافية؟

لم أشعر يوما بأي ظلم ما، لأنني اخترت منذ البداية طريق المعارضة والاحتجاج والاستقلال، حتى عندما بدأت أشارك في أنشطة رسمية، كنت أفعل ذلك بطريقتي ومنهجي واختياراتي، ولم يفرض عليَّ أحد أي أنشطة لا تتناسب مع ذائقتي وفكري، وحتي إدارتي للمقهى الثقافي في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة لم يتدخل أحد في وضع البرنامج، ورغم أنني لم أشعر بذلك الظلم الذي تتحدث عنه، ولكنني كنت أدرك تماما بأنني مستبعد بطرق مختلفة، وذلك الاستبعاد كان يأتي من أقرب الزملاء المجاملين لي، إذ كانت تتشكل الوفود الشعرية في معارض وملتقيات العالم العربي، دون أن يضمني أي وفد، لأنني كنت أعلم كيف كانت تتكون تلك الوفود، وكيف كانت تُدار العلاقات والمجاملات على نهج «شيلني وأشيلك»، وكان ذلك يحدث علنا وسرا وبكل الطرق، ولأنني لم أرض لنفسي المشاركة في هذه المساخر، فبالتالي لم أشعر بأي ظلم ولا غيرة، واعتقد أنني كذلك على المستوى البحثي، فدراساتي ومقالاتي وأبحاثي ومشاركاتي تجد اهتماما يرضيني جدا، وكذلك تنشر تلك الجهود في أكثر المطبوعات احتراما ورواجا، وهذا يكفي مجدا وفخراً لأي باحث جاد، لا يريد سوى أن يقرأه الآخرون بهذا الشكل المحترم، فضلا عن أن ما يكتب عن أعمالي لافت للنظر ومثير للجدل، إذ أن معظم الكتابات جاءت من حيث لا أعلم، وأنا كما قلت سابقا لا أمارس أي ضغط على أي جهة صحفية أو نقدية، ورغم ذلك فوفرة وتنوع الكتابات التي أنجزت حول ما أكتب، يجعلني أشعر بالرضا التام.

■ أنت واحد من أبناء جيل السبعينيات.. ما الذي تبقى من ذلك الجيل ومقولته الشهيرة «نكتب للمستقبل» ونحن وصلنا لذلك المستقبل؟

كنت أول من تمرد على فرضيات جيل السبعينيات النقدية والشعرية، رغم أنني أصدرت كتاباً عنوانه «جيل السبعينيات.. الجيل.. والحركة»، وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة، ورصدت فيه قناعاتي الفكرية والنقدية، وربما كنت مختلفاً حول فكرة الانبهار شبه المطلق باللغة، وذلك الانسحاق التام أمام التجديد المطلق في الشكل، واللعب باللغة بكل الطرق والإمكانيات، واعتقد أن مقبرة واسعة ستضم قدرا كبيرا من شعر السبعينيين، ولن تصلح تلك الأشعار، حتى، على سبيل التجريب الرياضي مثل الجبر والهندسة الفراغية، ومن المؤكد، من وجهة نظر خاصة جدا، أن شعراء السبعينيات في مصر، وربما صاحبهم بعض شعراء في العالم العربي، ساهموا بامتياز في عزل الشعر عن قارئه وعن جمهوره تحت شعارات نقدية، وجاءت هراوة جيل التسعينيات لتسحقها دون هوادة، للدرجة التي رأينا يعض شعراء السبعينيات يهرولون نحو التقنيات التسعينية للاستيلاء عليها دون أي مراجعة، ودون أدنى خجل أيضا، والبعض يستعيد بعض قصائد لشعراء السبعينات على سبيل التفكه.

■ من الذين تفخر بأنهم رفاق طريق.. ممن شاركوك البدايات.. ومن تنبأت له بأن يكون كاتبا كبيرا وصار كذلك؟

كنا في منتصف السبعينيات نلتقي في أماكن عديدة، الجامعة ومقهى ريش ومقهى زهرة البستان ومقهى على بابا ومقهى باراداي، وفي مجلة «الكاتب» عندما كان يترأس تحريرها الشاعر صلاح عبد الصبور، وفي كل تلك الأماكن وغيرها التقيت ببعض أبناء جيلي، وتوطدت علاقتي بكثير منهم، وعرفت بعضا من شعراء، كان على رأس هؤلاء الشاعر حلمي سالم، والذي كان ودوداً لدرجة كبيرة، وحانيا على رفاقه، ومخلصا إخلاصا مدهشا لقضية الشعر، عنده الشعر أولا ويأتي كل شيء بعد ذلك، وكانت معركته مع الشاعر رفعت سلام حول ثنائية الشعر والسياسة مهمة، فعندما كتب رفعت سلام مقدمة العدد الثالث من مجلة إضاءة 77، ثار حلمي سالم، لأنه ضد أن تختلط السياسة الواضحة الصريحة بالشعر، وظل يقاتل حتى ترك رفعت المجلة، وأنشأنا رفعت سلام ومحمود نسيم وأنا مجلة أخرى وهي «كتابات» عام 1979، وظل حلمي مخلصا إلى حد كبير للشعر النقي، والسياسة النقية، دون الإشراك لكل منهما للآخر، وهنا كان يقول «أنا أنشد الشعر لا الشعار»، لذلك كان حلمي سالم لافتاً بالنسبة لي من اللحظة الأولى التي التقيت به في مكتب صلاح عبد الصبور ونحن في مطلع العشرينيات، كذلك الشاعر الراحل وليد منير، وهو أصغرنا، إذ كان عمره عندما التقيته تحت مظلة صلاح عبد الصبور ثمانية عشر عاما، وكان يكتب بتدفق مثير، وكان صلاح عبد الصبور معجبا به جدا، وكان ينشر له كثيرا في المجلة، وشعرت بأن ذلك الشاعر سيكون له شأن، وبالفعل حدث ذلك، وكان قد حصل على بكالوريوس الهندسة، وبعد انتظم كمهندس في شركة موتسيان، وسافر إلى بعثة في انجلترا، جذبته نداهة الشعر والنقد، وغيّر اتجاهه، والتحق بمعهد النقد الفني، وحصل على الدكتوراة، وأصبح أكاديميا، وكتب الشعر والمسرح والنقد، ولكنه كان نائيا عن الشللية والأروقة الثقافية الفاسدة، لذلك لم يلق سوى جحود مجامليه، ولم يحتف به أحد بعد رحيله، وأذكر أنني عندما كنت أزوره في محنته المرضية في أيامه الأخيرة، كان متأثرا جدا لعدم معاودة أصدقاء الجيل، ورحل بعد أن ترك مؤلفات في غاية الأهمية في الشعر والنقد والمسرح، وكذلك مخطوطات لم تر النور حتى الآن، بالطبع كان هناك أصدقاء مقربون جدا لي على مدى المرحلة الأولى من حياتي، منهم القاص يوسف أبورية، والذي كان همزة وصل قوية بيني وبين كتّاب مرموقين في ذلك الوقت، وعلي رأسهم الراحل يحيى الطاهر عبدالله، كان يوسف قادرا على اقتحام الأماكن التي تضج بمثقفين كبار من جيل الستينيات، وكان يوسف يتعرف عليهم تحت عباءة الصحفي، ثم يصيروا أصدقاء بعد ذلك، وصرنا أصدقاء مقربين حتى رحيله.

ومن الأصدقاء الذين تنبهت لفرادتهم الأدبية، الناقد محمد بدوي، حيث كان شاعرا لافتا، ثم جاءت عربة النقد مبكرة جدا بالنسبة له، لتدهس تلك الموهبة، وكان بدوي قريباً من أمل دنقل وجابر عصفور ولويس عوض وآخرين، وتعلّم بحكمة التلميذ من أساتذته، وأعتقد أن محمد بدوي رغم ما قدمه من إبداعات نقدية فريدة، إلا أنني كنت أنتظر منه الأكثر.

كذلك الناقد الدكتور حسين حمودة، التقيت به وهو ما يزال طالبا في كلية الآداب مع محمد بدوي، وهو شخصية في غاية الهدوء والاحترام الواضح والخجل كذلك، وكان عاشقا، يعيش حالات العشق بقوة، وكان يكتب الشعر، ثم تمرد عليه فكتب القصة، ثم تمرد على الاثنين وكتب شعر العامية، وله في شعر العامية كراسة، نشرها مرة واحدة، ولم يُعد نشرها مرة أخرى، وفي النهاية استقر في بناية النقد الشاهقة بجوار محمد بدوي وسيد البحراوي وآخرين.

كذلك كان صديقي الأبدي محمود نسيم، وسلوى بكر والراحلة نعمات البحيري، وعبد المنعم رمضان وأحمد طه وأمجد ريان ومحمد سليمان وشاكر عبد الحميد وغيرهم، كانوا كوكبة من المثقفين الذين شكلوا لحمة الجيل الذي عاصر وعاقر الهزائم باختيار، ولم يستطع البعض منا تجاوز أزمات الهزيمة، فظل قابعاً فيها دون حراك.

■ هل تفتقد إلى تأثير الستينيين الذين غادرونا وقد كنت صديقاً مقرباً لمعظمهم؟

صداقتي بجيل الستينيات عامرة وغامرة وثرية، واقترابي منهم ترك آثاراً عميقة في روحي وتجربتي وحياتي كلها، فلم يقتصر أثر بعضهم على الجوانب الأدبية أو الفكرية، ولكن امتد الأثر على مجمل حياتي العملية، وكان إبراهيم فتحي منذ أن تعرفت عليه في أواخر السبعينيات طوداً ثقافيا وفكريا ونقديا كبيرا، وكانت تجربته في الحياة مثيرة للغاية، فهو أحد الذين تركوا ظلالهم بكثافة على معظم أبناء جيله ومن بعدهم، وكنت أستضيفه في بيت العائلة، وأظل أنصت له منبهراً بكل ما يقوله، وهو الذي ترك كلية الطب منذ بداياته، والتحق وهو صغير بالتنظيمات السياسية، ولم تقتصر مهمته بالانخراط في التنظيمات السياسية فحسب، بل راح لينشئها، ويضع البرامج السياسية والفكرية لها، وعلى نهج تلك البرامج تكونت حوله جماعة كبيرة، منهم جمال أحمد الغيطاني الشهير بجمال الغيطاني، وسيد حجاب وسيد خميس وصلاح عيسى وخليل كلفت وصبري حافظ ويحيى الطاهر عبدالله ومحمد كامل القليوبي وغيرهم، ودخلوا معه بسبب ذلك التوتر السياسي المعتقل في أكتوبر عام 1966.

اقتربت من يحيى الطاهر عبد الله في الأعوام الأخيرة من حياته، وكنا نرتاد مقاهي السيدة زينب ومصر القديمة، وكان يحيى مدهشا في كل ما يأتي به، وبالطبع لم يكن آمنا، إذ كنا نحترس من وقوع مشادة بينه وبين أي أحد من جلّاس المقهى، حيث كان شكاكا كبيرا في كل من حوله، وكنا نجلس مرة في مكان بالسيدة زينب، عندما شك في أحدهم، واستدرجه في الكلام، حتى يتعرف عليه أكثر، وقال لنا في خفوت: «إنه جاسوس للناقد أحمد محمد عطية»، وظل يستدرج الرجل، والرجل لا يفهم أي هدف للأسئلة، وبالطبع عثر يحيى على صحة ما يعتقد، لأن الرجل صرّح بأنه يسكن في منطقة الهرم، وهي المنطقة التي كان يسكن فيها عطية!

كذلك كان توجسه من الناقد الكبير الراحل عبد المنعم تليمة كبيرا، حيث إن يحيى كان متزوجاً من شقيقته، وكان يعتقد أيضاً أن تليمة يرسل له بعضا من رفاقه للتجسس عليه، وفي إحدى المرات قرر الشاعر أمجد ريان زيارة يحيى، وعندما صعد إلى المنزل كان يحيى يشتبك مع جارته التي تسكن جواره، ويتبادل السباب معها، وفجأة لمح أمجد ريان يقف على السلم منتظراً انتهاءه من المشاجرة، وبالطبع لم يفوّت يحيى الأمر، وهكذا أخذت المعركة منحنى آخر. ترك جارته واشتبك مع أمجد واتهمه بأنه مكلف بالتجسس عليه لحساب عبد المنعم تليمة، وغادر أمجد ريان، ولم يهدأ حتى كتب رواية قصيرة عنوانها «عبد الشيطان»، ولم ينشرها بالطبع.

أما علاقاتي بإبراهيم أصلان وعبد الرحمن الأبنودي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وخيري شلبي ومحمد كامل القليوبي وغيرهم، فعلاقات صارت جزءا من تكويني، إذ ظلّت فاعلة وشديدة التواصل والأثر حتى أيامهم الأخيرة، وكنت أجاهد رحيل الواحد منهم بضراوة، فالرحيل الذي لم استطع التعود عليه حتى الآن كان وحشا يفترسني كل مرة، وكأنه جاء فجأة خاصة إبراهيم أصلان الذي كان قد هاتفني ليلة رحيله، أصلان الذي كنا نتهاتف يومياً في الأمسيات البعيدة، وكان يعتبرني أحد أولاده، رغم اقتراب العمر بيني وبينه، وكانت تحدث مفارقات تصل لدرجة الفكاهة أحيانا بيني وبينه.

كانت خلافاته الودية والحادة بينه وبين خيري شلبي مثاراً للحديث الدائم بيني وبينه، رغم المودة ورفقة العمر التي كانت بينهما، إلا أن خلافاتهما التاريخية كانت تشبه خلافات الأطفال، وكانت تصل في بعض الأحيان إلى تأليف القصص والمقالات، كذلك كان البساطي رقما نشطا في جيل الستينيات، وفي أيام البساطي الأخيرة كتب قصة عنوانها «حسونة الجميل»، وكان من يقرأ القصة يدرك أن ذلك الحسونة ما هو إلا جابر عصفور، وهاتفني أصلان في الرابعة صباحا بعد أن قرأ القصة، وقال لي: «شفت الواد البساطى، وقصته»، وكان غضب أصلان ليس منصبا على التلسين الذي تنطوي عليه القصة، ولكنه كان منزعجا من إقحام تلك الخلافات وذلك التلسين على عالم القصة النبيل. أعتقد أن حكاياتي مع الستينيين تحتاج إلى كتاب كامل، وأتمني أن أشرع فيه بالفعل.

■ متى تقرر اعتزال العمل العام والتفرغ لكتابتك؟

فكرة اعتزال العمل العام لإنجاز ما لم يتم إنجازه تراودني، ولكن تنفيذها أصبح صعبا، بعد تكاثر المهمات التي تراكمت على كاهلي كلما انخرطت في مشروع أدبي أو تأريخي جديد.