المنوعات

إشكالية التحيز في رؤية عبد الوهاب المسيري

26 يوليو 2017
26 يوليو 2017

عبد الله العليان -

في حياتنا المعاصرة ثمة نظرات سلبية لمسألة التحيز المعرفي والإيديولوجي في حضارة هذا العصر، وهذه النظرات كرستها المركزية الغربية للمعرفة، مشبعة بالتحيز الإيديولوجي، وجعلت التحيز لهذه المعرفة جزءاً من الاستعلائية تجاه ثقافة الآخر المختلف، في الكتاب الضخم ( إشكالية التحيز) الذي قدم له وحرره الدكتور عبد الوهاب المسيري، واشترك فيه العديد من الباحثين العرب.. يطرح الدكتور المسيري في المقدمة، قضية التحيز الذي برزت في الغرب، في الكثير من العلوم والمعارف الإنسانية، فيقول في هذا الكتاب: من الحقائق الأساسية التي تجابه الإنسان في القرن العشرين أن النموذج الحضاري الغربي أصبح يشغل مكانا مركزيا في وجدان معظم المفكرين والشعوب، وليس من المستغرب أن يحقق نموذج حضاري له مقدرات تعبوية وتنظيمية مرتفعة ( بسبب بساطته وماديته ) انتصارات باهرة، على المستويين المعنوي والمادي، في مراحله الأولى ( فتوحات وغزوات ـ سلع ورخاء وراحة مادية للشعوب الغربية ـ فنون رائعة ـ فلسفات عقلانية مادية بسيطة وواضحة ذات مقدرة تفسيرية مباشرة وعالية ). وقد ترجمت انتصارات المشروع الحضاري الغربي، كما يشير الدكتور المسيري، نفسها إلى إحساس متزايد بالثقة بالنفس من جانب الإنسان الغربي، وإلى إيمانه بأن رؤيته للعالم هي أرقى ما وصل إليه الإنسان، وأن كل التاريخ البشري يصل إلى أعلى مراحله في التاريخ الغربي الحديث، وأن العلوم الغربية علوم عالمية، وأن النموذج الحضاري الغربي يصلح لكل زمان ومكان، أو على الأقل يصلح لكل زمان ومكان في العصر الحديث.

وقد دخل العالم الإسلامي، بحسب المسيري، في صراع مرير مع هذا التشكيل الحضاري من البداية، وقامت جيوش الدولة العثمانية بحماية دار الإسلام في الشرق العربي وفي أماكن أخرى من الهجمة الاستعمارية، ولذا التف الاستعمار الغربي حول الدولة العثمانية فاحتل أطراف أفريقيا والهند ووصل إلى العالم الجديد وظل العالم الإسلامي ذاته بمنأى عن جيوشه. ولكن، مع أزمة الدولة العثمانية، بدأت الجيوش الغربية في غزو المشرق الإسلامي، ويعد تاريخ وصول جيوش نابليون إلى مصر هو بداية المحاولات الغربية الرامية إلى تقطيع أوصال الدولة العثمانية والعالم الإسلامي. وقد تبع هذا الغزو استيلاء الروس على الإمارات التركية على البحر الأسود، والإنجليز على قبرص ثم على مصر، إلى أن تم تقسيم معظم العالم الإسلامي وتقطيع أوصاله.

ويتضح هذا أكثر ما يتضح في الفكر العلماني الليبرالي، فهو فكر قد حدد «النهضة» ابتداء بأنها نقل الفكر الغربي والنظريات الغربية بأمانة شديدة، وتقبل النموذج الحضاري الغربي بكل مزاياه وعيوبه، بـ« حلوه ومره، وبخيره وشره »، وإعادة صياغة المجتمعات العربية الإسلامية وسلوك أفرادها حتى تتفق مع المعايير التي يفترضها هذا النموذج. وقد عبر عن هذه النزعة ما يسمى « جيل النهضة » من الليبراليين أمثال أحمد لطفي السيد وشبلي شميل وسلامة موسى وغيرهم. ومنهم من كان متطرفا مغتربا تماما عن ذاته، فدعا إلى التفاهات المسرحية مثل ارتداء القبعة وكتابة العربية بحروف لاتينية، ومنهم من كان أكثر تعقلا وابتعادا عن مثل هذه الأشياء الشكلية الصبيانية. ولكن أعضاء الفريقين، المتطرف منهم والمعتدل /‏‏ الصبياني منهم والناضج، كانوا في نهاية الأمر دعاة تغريب وتحديث على طريقة أوروبا.

والمدهش، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، أن محاولة اللحاق بالغرب لها أصداؤها العميقة في بعض الاتجاهات الإسلامية السطحية. فبعض المفكرين الإسلاميين يتقبلون النموذج الحضاري الغربي ( أو جوانب كثيرة منه ) عن وعي وعن غير وعي، بل ويحولون هذا النموذج إلى المثال الذي يحتذى والنقطة المرجعية الصامتة، بحيث يصبح المشروع النهضوي الإسلامي بالنسبة لهم هو أيسر الطرق للحاق بالغرب. بل إن بعضهم يذهب إلى أنه يرى أن المشروع الإسلامي هو خير تطبيق للنموذج الغربي الذي يمكن تبنيه بعد إدخال التحسينات الزخرفية مثل إضافة الصوم والصلاة واستبعاد اختلاط الجنسين وفرض الحجاب على المرأة. ومرة أخرى يعاد اكتشاف الدين، فنكتشف أن الدين سبق العلم، وأن القوانين العلمية كلها في القرآن، وأنه لا يوجد أي تعارض بين الدين والعلم، ويتبارى المتبارون في إثبات أن الإسلام سبق العلم في منح المرأة حقوقها وفي نظم الإدارة الحديثة وكل هذا يعني أن الإسلام يكتسب شرعيته بمقدار اقترابه من النموذج الحضاري الغربي ـ وبالتدريج، يتم تغريب النموذج الإسلامي بحيث يتفق مع النموذج الحضاري الغربي.

وقد تكوّن داخل العالم العربي الإسلامي مجموعة من المتعلمين (في مقابل المثقفين) يشغلون وظائف قيادية وغير قيادية، فمنهم الصحفيون والمدرسون والأساتذة الجامعيون والإعلاميون والمترجمون الذي استوعبوا تماما النموذج الحضاري الغربي واستنبطوه ـ كما يقول ـ دون أن يدركوا تضميناته المختلفة، فقد استوعبوه في غالب الأمر باعتباره مجموعة من الأفكار الجميلة النبيلة التي لا تترابط داخل منظومة واحدة. وتحولوا إلى أدوات توصيل جيدة له ولقيمه، أحيانا عن وعي، ولكن في معظم الأحيان عن غير وعي وبدون فهم عميق. وهذه الفئة من المتعلمين تتسم بأنها عندها ملكات فكرية استيعابية ضخمة، وهم عادة مجدون في الاستذكار والتحصيل والحصول على الشهادات، ولكن مقدراتهم النقدية وإدراكهم للمنظومات الكلية أمر محدود للغاية.

ولكن لا بد، كما يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري، أن يواكب هذا التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن الحضارة الغربية وتوضيح أن كثيرًا من «القوانين العلمية» التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة.

فإذا كان الغرب قد تحول إلى مطلق، فإنه يجب أن يستعيد نسبيته وتاريخيته وزمنيته، وإذا كان يشغل المركز فإنه يجب أن يصبح مرة أخرى عنصرًا واحدًا ضمن عناصر أخرى تكوِّن عالم الإنسان، وإذا كان يعتبر نفسه عالميًا وعامًا فإنه لا بد أن نبين خصوصيته ومحليته، أي أن الغرب يجب أن يصبح غربيا مرة أخرى لا عالميًا. وهذا لا يمكن أن يتم إلا باستعادة المنظور العالمي والتاريخي المقارن بحيث يصبح التشكيل الحضاري الغربي تشكيلا حضاريًا واحدًا له خصوصيته وسماته وتاريخه، تمامًا كما أن لكل التشكيلات الأخرى خصوصياتها وسماتها وتاريخها. والمنظور المقارن لا يعني علاقة التأثير والتأثر الشائعة في الدراسات الجامعية، وإنما يعني محاولة الوصول إلى رؤية عالمية حقة من خلال مقارنة البنى الحضارية والتجارب التاريخية المختلفة والنماذج المتعددة التي تعامل الإنسان من خلالها مع العالم فأبدع أشكالاً حضارية خاصة متنوعة لها قوانينها الداخلية وتتبع إنسانيتها من خصوصيتها لا من خلال اتساقها مع قانون عالمي عام وهمي هو في نهاية الأمر «قانون غربي».

ويرى الباحث عماد الدين عشماوي في بحثه(عبد الوهاب المسيري وفقه التحيز)، لم يكن الأمر عند المسيري (في مسألة التحيز)، «مجرد تفكيك لمقولات النموذج المعرفي الغربي وكشف تحيزاته، لكن كان الطموح هو تأسيس مشروع بناء علم جديد للتعامل مع مفهوم التحيز، علم جديد، له آلياته ومناهجه ومرجعيته، يتعامل مع قضايا التحيز، ويفتح باب الاجتهاد بخصوصها. لهذا اقترح المسيري تأسيس علم جديد، أطلق عليه «فقه التحيز»، يركز على قضية التحيز في النماذج المعرفية، الناتجة عن مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية، والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث دون أن يشعر بها، وإن شعر بها وجدها لصيقة بالمنهج لدرجة يصعب التخلص منها، والتي تسلب الباحث كثيرًا من حريته وتحد من حركته ومجال رؤيته». فقضية التحيز أصبحت مسألة تحتاج إلى مراجعة موضوعية، وهذه لم يقلها باحثون وكتاب عرب فقط، بل حتى من الكتاب الغربيين الذين أشاروا إلى قضية التحيز والمركزية الاستعلائية للنموذج الغربي.