أفكار وآراء

خيارات السلام .. وتكريس الأمن الجماعي

25 يوليو 2017
25 يوليو 2017

محمد حسن داود -

ساهمت السياسات الحكيمة التي تبنتها القيادة الحكيمة لجلالة السلطان قابوس المعظم عبر سنوات النهضة المباركة في بناء دولة عصرية ومجتمع حديث بالمفهوم الشامل في شتى المجالات بما جعل الاستقرار الوطني الداخلي سمة بارزة للدولة جعلها تنطلق على أرضية ثابتة نحو مزيد من التقدم والرقي، بل ومكنتها هذه الطفرة المجتمعية الكبرى من تأسيس مكانتها المتميزة على خريطة العالم ,,

حتى في أصعب الظروف وأخطر الأزمات التي تعصف بدول المنطقة لا تحيد السلطنة عن سياساتها القائمة على التوازن والرؤية المحايدة تكريسا لثقافتها المنحازة دوما لخيارات السلام والأمن على المستويات كافة، الأمر الذي يعكس حقيقة مزدوجة وثيقة الارتباط بسنوات النهضة المباركة وحصادها المثمر، فالإنجازات الداخلية التي تحققت على مدار هذه السنوات وساهمت في إقامة دولة عصرية بالمفهوم الصحيح للكلمة مكنها من القيام بدور بارز في محيطها الإقليمي . وفي الوقت ذاته الاستفادة بهذه الميزة لتحقيق المزيد من الإندماج والتفاعل مع المجتمع الدولي ، بما يعود بكثير من النفع على الأوضاع الداخلية، فطبيعة السياسة العمانية لا تحكمها العشوائية ولا تنطلق من المصادفات أو وفقا لأسس متغيرة وطارئة، ولكنها في حقيقة الأمر تقوم على رؤية إستراتيجية واضحة لا تتبدل بتبدل المواقف أوالقضايا أو الظروف، ما منحها صفة الثبات أولا ، والوضوح ثانيا ، لدرجة أنه بات من السهل على السياسيين والمحللين والمراقبين قراءة المواقف العمانية تجاه قضايا معينة حتى قبل خروجها إلى العلن، وهذه السمات تعد ترجمة عملية للمقولة الشهيرة في علم السياسة أن نجاح السياسات الداخلية يمهد للنجاح في الخارج ومعرفة أسس ترتيب البيت في الداخل تحدد معالم السياسة الخارجية.

وعلى ضوء مواقف عديدة خلال عقود النهضة المباركة فإن من الأهداف الإستراتيجية للسياسة الخارجية العمانية عدم الانضمام إلى أي محور أو تكتل، مع تعزيز التعاون بين كافة شعوب الكرة الأرضية وجميع الدول والانتصار لخيارات السلام والأمن الجماعي، ومن هذه المنطلقات فإنها تدعو دائما الى تبني سياسات تقوم على المصداقية والصراحة والعقلانية والمنطقية واحلال السلام وتفعيل سياسات حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لذلك تمكنت من القيام بأدوار بالغة الأهمية في مختلف القضايا الإقليمية ذات الأبعاد الدولية،كما قدمت دعما غيرمحدود لجميع قضايا الامة العربية فيما يتعلق بالتحديات والقضايا المصيرية التى تواجهها، وأكسب ذلك السلطنة ثقة القادة والشعوب، ما مكنها من الإسهام بفاعلية في التوصل إلى حلول للكثير من الازمات.

وفى المرحلة الراهنة وبشهادات من أطراف إقليمية ودولية عديدة أدت دبلوماسية القوة الناعمة العمانية دورا محوريا في عديد من النزاعات، كما تعمل السلطنة أيضا على تحقيق التوازن فى علاقاتها الخارجية حيث اختارت البديل الصائب نتيجة تمسكها بسياسات الحياد الايجابي والتعايش السلمى ورفض كل صيغ الاستقطاب ، مع المرونة فى التعامل مع المستجدات، بما يساهم بالفعل في تقديم السلم والأمن والإستقرارعلى العنف والحروب والمواجهات المسلحة ، انطلاقا من حقيقة مؤكدة بأنها مهما طالت فسوف تنتهي بتسويات سياسية على طاولة التفاوض . وتكاد تلك المبادئ والأسس أن تمثل خارطة طريق دبلوماسية متكاملة للسياسة الخارحية للسلطنة في إطار رؤية استراتيجية واضحة المعالم تنطلق من الرغبة في تنمية الدولة العمانية وتحقيق معدلات متقدمة من الرفاهية لجموع الشعب في مختلف المجالات،مما جعل تبني سياسة خارجية متوازتة تحمي هذه المكاسب أولوية استراتيجية، يساعد على ذلك أن المنطقة العربية كثيرا ما تتعرض لأزمات ليس نتيجة عوامل داخلية بقدرما هي أسباب خارجية فرضت حتمية اتباع سياسات حكيمة تواكب حقائق الجغرافيا والتاريخ في المنطقة.

وتؤكد تلك التوجهات المصداقية التي تزايدت مساحتها إقليميا ودوليا ومكنت الدولة العمانية من جذب المزيد من الاستثمارات نتيجة الثقة الواضحة والقيام بأدوار مؤثرة، ليس على الصعيد الداخلي فحسب ، ولكن أيضا في خدمة السلم والأمن الدوليين في منطقة تعاني من الحروب والاضطرابات والأزمات العميقة، ولم يكن ذلك ممكنا بدون حالة الاستقرار السياسي والإجتماعي التي تنعم بها ربوع الدولة، ولم يكن تحقيقها كذلك ممكنا لولا وصول البلاد إلى درجة من الصلابة الواضحة نتيجة قوة وتماسك جبهتها الداخلية ، وتحقيق معدلات ملموسة من النمو والتقدم على مختلف الصعد الحياتية منذ عام 1970 عندما انطلقت الدولة العمانية على طريق النهضة الحديثة على كافة الجبهات بقيادة جلالة السلطان قابوس المعظم - حفظه الله ورعاه - هذه الوضعية مكنت السلطنة من القيام بأدوارها واتصالاتها المهمة لخدمة القضايا الإقليمية والعالمية بدرجة عالية من الثقة والتمكن، وقد تجلى ذلك في التعامل مع العديد من القضايا الملتهبة التي شهدتها المنطقة في السنوات الماضية ، وسبق تناولها غير مرة، ولا تكاد مناسبة تمر إلا ويثبت صحة هذا المنهج الرافض للسياسات غير المحسوبة، وقد وضعت هذه السياسة الخارجية الواضحة المعالم السلطنة في بؤرة الاهتمام العالمي كعنصر فاعل للتوصل إلى تسويات سلمية للصراعات الحرجة الإقليمية وذات الأبعاد الدولية.

وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن إعادة بناء الوطن، خاصة فيما يتصل بصياغة نظام سياسي جديد، تأسست على واقع اجتماعي واقتصادي مدروس ساهمت في تشكيلة عوامل جغرافية وتاريخية وإستراتيجية، وذلك لترسيخ أسس وقواعد الدولة العصرية الحديثة، من خلال مواجهة نوعين من التحديات أولهما : السعي إلى تأسيس دعائم الاستقرار الداخلي المبني على قاعدة الاندماج والانصهار الوطني في إطار من التكامل والوحدة . وقد أثبتت الممارسات السياسية للدولة العمانية بكل المقاييس القدرة على ذلك، من خلال التأكيد على تعميق فكرة المواطنة ومشاركة جميع فئات المجتمع في بناء النهضة العُمانية الحديثة،أما التحدي الآخر فتمثل في بناء نظام سياسي حديث بصورة متدرجة وسلمية، بحيث تمكن من استيعاب الشرائح الجديدة من الشباب التي أفرزتها عملية التحديث والتطور. ومن الواضح أن الدولة العمانية حققت خطوات مهمة في طريق بناء الدولة الحديثة المتقدمة اقتصاديا عبرت عنه المشروعات الضخمة في كافة المجالات، وتنمية الموارد البشرية التى يمثلها المواطن العمانى نتيجة لارتفاع مستوى التعليم والمهارات، إضافة إلى البنية الأساسية الحديثة والمشروعات العملاقة، ولاشك في أن هناك عوامل أساسية تدفع باتجاه الاستفادة القصوى من الإمكانيات الاقتصادية التي تحظى بها عمان ؛ من بينها وجود الإرادة السياسية من جانب قيادة ومؤسسات الدولة في الانطلاق بعمان إلى آفاق أرحب ودفع خطط التنمية الاقتصادية في كافة المجالات للارتقاء بمستوى معيشة المواطن العماني باعتباره الهدف النهائي للعملية التنموية وأداتها في الوقت ذاته ، وكذلك حالة الاستقرار السياسي التي تتمتع بها عمان، إضافة إلى علاقاتها الخارجية الممتازة مع كافة دول العالم نتيجة لسياساتها الخارجية والحكيمة وانفتاحها على كل دول العالم وممارستها لدور إيجابى في الوساطة الدولية وحل الأزمات في محيطها المضطرب بالطرق السلمية، ما يشكل حافزا مهما لجذب الاستثمارات الخارجية ودفع الصادرات العمانية إلى كل الأسوق العالمية وزيادة الثقة في سياسات السلطنة .

ويوما بعد يوم تتأكد صحة هذا المنهج الرافض للسياسات غير المحسوبة، ولاشك في أنه لم يكن من الممكن انتهاج هذه السياسة إلا ببناء الدولة العصرية بكل مقوماتها، فبكل تأكيد النجاح في الداخل يمهد لتبني سياسات خارجية واضحة المعالم يحالفها التوفيق، وهو ما ينطبق على حالة السلطنة قولا وفعلا، خاصة إذا ما اقترن ذلك بمعالم حداثة واضحة في مختلف المجالات وهي بالفعل مفاتيح مهمة لطرق أبواب المستقبل بمنتهى القوة والثقة، ومن الواضح في كل الخطط والرؤى التنموية في السلطنة أنها تأخذ في اعتبارها مفاهيم مرنة حيث تظل برامج تنويع وتنمية الموارد والأنشطة الاقتصادية هي الأساس لتعظيم القيمة المضافة لبرامج التنمية، وتتكامل بذلك منظومة النجاح الداخلي مع السياسات الخارجية، والمؤكد أن هذه المنظومة مرشحة لمزيد من التقدم والنمو في ظل معالم واضحة من الحكم الرشيد ، الذي ساهم بكل تأكيد في تحقيق الاستقرار المنشود للسلطنة ، ومنحها الفرصة للقيام بأدوار إقليمية ودولية مؤثرة من شأنها تحقيق مصلحة المواطن العماني وتحقيق رفاهيته ونموه الدائم، ولذلك ليست مبالغة التأكيد على أن السلطنة تمتلك الكثير من مقومات النمو والاستقرار والرقي والتقدم، وكل ما هو مطلوب حاليا الحفاظ على هذه المقومات بمزيد من التنمية والعمل والإيمان بمستقبل البلاد، فهذه المعطيات تؤشر على توافر أرضية قوية لانطلاق سلطنة عمان إلى الزمن الآتي الواعد، متسلحة بالأسس التي وضعتها القيادة الحكيمة ، ومستندة الى موارد بشرية واقتصادية وطبيعية ومقومات جغرافية فريدة، فضلا عن الموروث الحضاري التاريخي الإيجابي، على نحو يحقق أهدافها في المضي قدما في خطط النهضة المستقبلية استكمالا لمنظومة النمو واستغلالا لدرجة الثقة الإقليمية والدولية الكبيرة في السلطنة وقيادتها ومقوماتها وموقعها المتميز.