الملف السياسي

سياسات ومؤشرات ذات دلالة !

24 يوليو 2017
24 يوليو 2017

د. صلاح أبو نار -

في الثالث والعشرين من يوليو 1970، انطلقت مسيرة النهضة العمانية المباركة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه. كانت عمان قبلها تبدو دولة منعزلة ضعيفة، حيث تراجعت مقومات الحياة المادية، مما دفع ببعض أبنائها للهجرة بحثا عن الرزق. بعد أن كانت امبراطورية لها جناحها الإفريقي، وقوة بحرية وتجارية وصل أسطولها في عهد السيد سعيد بن سلطان إلى نحو خمسمائة سفينة.

تشكلت الرؤية الموجهة لمسيرة النهضة العمانية من ثلاث سياسات أساسية: هي بناء الدولة الحديثة، والتنمية الاقتصادية، وسياسات دولة الرفاه.

تمثل عملية بناء الدولة الحديثة السياسات القاعدية التي انطلقت منها السياسات الأخرى. وتكونت تلك العملية من جملة من السياسات، أهمها:المركزة والمأسسة والانتشار.

كانت المركزة مقدمة ضرورية لكل ما تلاها. كانت ضرورية لتأسيس قاعدة صلبة للدولة، وإيجاد قاعدة اجتماعية وطنية ترتكز عليها سياسات التحول، والحشد السريع للموارد والإمكانيات، والتعامل العقلاني مع تدفقات خارجية سريعة ومتضاربة ستصاحب حتما الانفتاح على الخارج، والتخطيط للسياسات الخارجية في سياق زاخر بالصراعات.

وكانت المأسسة تعني: حكم القانون، وتمايز مؤسسات الدولة على قاعدة التخصص الوظيفي، والتراتبية المؤسسية على مستوي هيكلية الدولة. وكان من شأن حكم القانون أن يوفر للقرار قوته وإلزاميته، وان يحول منطق الدولة إلى أسلوب للحياة اليومية. وكان من شأن التمايز الوظيفي ان يوفر النخب الإدارية الحاملة للمعرفة المتخصصة، اللازمة لرسم السياسات والقدرة علي تطبيقها، والحساسية الإدارية اللازمة لرصد الاحتياجات الاجتماعية في تغيرها.

أما الانتشار فقد كان يعني: التوسع الجغرافي لتنظيمات الدولة لكي تشمل أقاليم الدولة كلها، والنمو الوظيفي لدور الدولة. وكان التوسع يعني تطوير قدرة الدولة علة تنظيم الإقليم وسكانه، أي اتساع النطاق الجغرافي لوجود وعمل هياكل الدولة الإدارية، ونفاذ القانون العام فيها، وخلق تراتبية إدارية لإدارة هذا التوسع. أما النمو الوظيفي فكان يعني النمو في الوظائف الاجتماعية للدولة، في اتجاه مجالات جديدة لم يكن لها من قبل دور فيها، أو كان لها دور هامشي في بعضها، مثل التعليم والصحة.

وستشهد عملية بناء الدولة الحديثة، نقلة نوعية مع تأسيس المجالس التمثيلية.

في عام 1981 أنشئ المجلس الاستشاري للدولة، واستمر حتى عام 1991 حيث انشأ جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه - مجلس الشورى، الذي عرف تطورات هامة ومتتابعة بما فيها الانتخاب العام ،الحر والمباشر لأعضائه. و في عام 1996 تأسس مجلس الدولة. هذا المجلس المعين، يتكون من أعضاء مختارين من كبار رجال الدولة المتقاعدين، ومن المهنيين والوجهاء وأساتذة الجامعات والقضاة السابقين، وممن يختارهم جلالة السلطان المعظم من الرجال والنساء المشهود لهم.

لم تنبع أهمية التنمية الاقتصادية فقط، من الالتزام العميق بنهضة الوطن، بل أيضا من وعي مبكر بمحدودية القدرة التمويلية للموارد النفطية وعمرها الزمني المتوقع. وقد انطلقت أول خطة للتنمية الخمسية عام 1976، ثم توالت حتى الخطة الخمسية التاسعة الحالية (2016-2020)، وهي الحلقة الأخيرة لاستراتيجية الرؤية المستقبلية ( عمان 2020). إلا أن الوعي بأهمية التنمية المخططة سابق على هذا. وعادة يشار هنا إلى عام 1974، عام تأسيس مجلس التنمية. لكننا لو ألقينا نظرة فاحصة على الفترة، ما بين يوليو 1970 ونوفمبر 1974 تاريخ تأسيس المجلس، سنجد عدة هيئات للتنمية يحل كل منها محل الآخر، في تتابع سريع يعكس قوة وإلحاح الوعي بأهمية الهدف، والظروف الصعبة التي كانت تواجهها. إدارة التنمية والتخطيط أواخر 1970 أو عام 1971، والمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية الاقتصادية 1972، والهيئة العامة للتنمية، أبريل 1973، ووزارة التنمية نوفمبر 1973.

فيما بين 1967 و2007 حقق الاقتصاد العماني نسبة نمو 8.8% سنويا. وذكر تقرير للبنك الدولي صادر في 2008، إن عمان ضمن 13 دولة في العالم تمكنت من تحقيق هذا المعدل العالي للنمو خلال فترة ما بعد الحرب. ووفقا لتقديرات البنك تطور الناتج القومي الإجمالي، من 63.278.514 دولارا عام 1965، الى 81.034 بليون دولار عام 2014.

ووفقا للتقديرات العمانية الرسمية ، لنتائج التنمية على مدى العقدين الاولين للتنمية، كان معدل النمو السنوي للناتج القومي الاجمالي 10.5 % سنويا، وارتفع الناتج من 722 مليون ريال عماني الى 5288 مليون ريال عماني عام 1995، أي بنسبه 633%.وخلال نفس الفترة ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي، من 158 ريالا عمانيا الى 2477 ريالا عمانيا ، اي بمعدل11.6 % سنويا.

وكان اهم الانجازات تحقيق درجة من التوازن بين قطاع النفط والقطاعات الاقتصادية الاخرى. فيما بين 1977 و2007، وصلت نسبة النمو السنوي للقطاع النفطي الى 9.5%، وكانت نسبة نمو القطاعات الاخرى 8.3%، وضمت: الخدمات بنسبة نمو12.7%،والصناعة بنسبة 19.6%.

وفي هذا الصدد ذكرت دراسات عدة ، ان نسبه اسهام من هيكل الاقتصاد بالاسعار الجارية، كانت 58.5% عام 1976، انخفضت عام 1995 الى 37.3 % ، بينما ارتفعت الخدمات من 27.7% الى 49.5%.

تندرج مساحة اساسية مما دعوناة بسياسات دولة الرفاه، في اطار ماندعوة الآن سياسات التنمية البشرية.وفي هذا الصد حظيت عمان بشهادة بارزة، في تقرير الامم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2010. حيث اشاد التقرير بسلطنة عمان ، بوصفها الدولة الاعلى نموا في مؤشرات التنمية البشرية، على مدى الاربعين عاما السابقة لعام 2010 . ففي عام 1970 كان مؤشرها 0.36%، ارتفع في 2010 الى 0.79.

في ديسمبر 1973 صدر عن اليونسكو تقرير عن وضع التعليم العماني، حصيله زيارة ميدانية في اكتوبر 1973. يمنحنا رصدا ميدانيا لتطور التعليم في سنوات 1970- 1973، أي سنوات ماقبل تاثير طفرة اسعاراكتوبر73 النفطية. في هذه السنوات ارتفع عدد المدارس الابتدائية عام 1970 من 3 مدارس كلها للذكور، الى 73 مدرسة عام 1973 منها 20 مدرسه للاناث، و15 مدرسة مشتركة. و زاد عدد الطلاب من 900 طالب ذكرا، الى 26737 طالبا وطالبة منهم 4504 طالبات. وشهد عام 72-1973 بداية الدراسة في المرحلة الاعدادية، التي احتوت على 124 طالبا فقط . ورغم غياب المرحلة ثانوية، اشار التقرير الى وجود 253 طالبا عمانيا يدرسون في 17 جامعة عربية وغير عربية ، في ذلك الوقت المبكر ، على حساب الدولة. كيف يمكننا فهم ذلك؟ الارجح انهم شباب عماني هاجر قبل 1970 بمفرده او مع اسرته للدول العربية، وهناك اكمل تعليمه المدرسي. وعندما وصلتهم اصداء النهضة قرروا العودة، وقامت الدوله بدفعهم لاستكمال تعليمهم في الخارج.

واصل تطور التعليم في العقود التالية تلك البدايات الباهرة. ان مدارس 1970 الثلاث بطلابها التسعمائة، وصلت في 2005 الي 1046 مدرسة، يدرس بها 568074 طالبا.والاناث الغائبات عن فصول 1970، وصلت نسبتهن عام 2003 الى 48% .وسجل معدل التسجيل للاطفال العمانيين في سن التعليم نسبة مبهرة. في عام 1978 لم يتعد 53%، وارتفع عام 1999 الى 91.7%، ووصل في 2011 الى 98.1%، بينما كان المعدل الخليجي 97% والعربي92%.

وشهد التعليم العالي ايضا قفزة هائلة، فوصلت مؤسساته الى 57 مؤسسة عام 2009، منها 33 مؤسسة عامة و24 مؤسسة تابعة للقطاع الخاص.

واحتلت النساء العمانيات مكانة بارزة في سجل التنمية البشرية. في عام 2014 وصلت نسبتهن للذكور في التعليم الابتدائي الى 96%، والثانوي الى 95%، وفي الجامعة الى 138%. وارتفعت مشاركتهن في قوة العمل من 18.4% عام 1990 الى 31.1% في 2012 .كما ارتفعت مشاركتهن في عمل القطاع العام من 31% عام 2001 الى 42% عام 2009. ولا يقتصر الامر على ذلك. ففي 1999 عينت اول سفيرة، وفي 2004 حملت اربع نساء حقائب وزارية، وفي 2015 وصلت عضويتهن في مجلس الدولة الى 17.9%.

ويحق المجال الصحي العماني الفخر بانجازاته . حيث وصلت نسبة الانفاق على الصحة من الانفاق الحكومي الى 4.9% فيما بين 2001 و2007، وكانت 5.5% فيما بين 1990 و2000.وفي عام 1970 لم تكن هناك اي مستشفى ، ووصل عددها الي 62 في عام 2010.وفي عام 2014 سجل معدل وفيات الاطفال الرضع 7.9 لكل الف حالة ، بنسبة انخفاض 72.8% عن عام 1990. وهو ما يعد افضل المعدلات العربية . وفي سنه 1967 كانت توقعات الحياة 47 عاما، وقفزت عام 2007 الى 76 عاما كثمرة من ثمار مسيرة النهضة المباركة بقيادة جلالة السلطان المعظم – حفظه الله ورعاه .