الملف السياسي

القابلية للنهوض وبناء الدولة العصرية

24 يوليو 2017
24 يوليو 2017

أ.د. حسني نصر -

قليلة هي تجارب النهضة الشاملة الناجحة التي شهدتها أمتنا العربية في سنوات ما بعد الحقبة الاستعمارية الطويلة. وباستثناء تجربة بناء مصر الحديثة على يد محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر، من الصعب أن تصف التجارب التي سبقت سبعينات القرن الماضي بأنها كانت تجارب نهضوية بالمعنى الدقيق للكلمة.

قبل هذا التاريخ وعلى مدار قرنين من الزمن تقريبًا ظل العالم العربي رهين سيطرة استعمارية غربية استنزفت موارده وقواه الفاعلة وعطلت آليات نهضته ووأدت كل جهود الحركات الوطنية في التحرر والبناء. وبعد انتهاء الحقبة الاستعمارية ظل هذا العالم رهين أنظمة لم تستطع -في معظمها- رغم ما توافر لها من إمكانات وزخم شعبي أن تخرج شعوبها، بشكل كبير على الأقل، من حصار ثالوث الجهل والفقر والمرض.

مع مطلع سبعينات القرن العشرين كان العرب على موعد مع تجربة حقيقية لنهضة شاملة استفادت من دروس الماضي، وانفتحت على منجزات العصر، وبدأت من حيث انتهى الآخرون. وقد ولدت هذه التجربة النهضوية العربية الجديدة وترعرعت وتكاد أن تكتمل في أقصى بقعة من الوطن العربي الكبير وعلى أول أرض عربية تشرق عليها الشمس، على شواطئ بحر العرب وخليج عُمان والخليج. ففي الثالث والعشرين من يوليو 1970 تولى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في سلطنة عُمان ليضعها على بداية طريق النهضة الطويل، وليجعل منها مضربًا للمثل للتجارب النهضوية التي نجحت في بناء دولة عصرية حديثة، دون ضجيج الشعارات التعبوية الزائفة، التي أجهضت تجارب عربية عديدة من قبل.

الواقع أن المحلل لمسيرة النهضة الناجحة في سلطنة عمان لا يمكن أن يغفل مجموعة من العوامل توافرت للسلطنة وللتجربة نفسها ربما لم تتوافر للتجارب العربية المماثلة، وكان لها دور بارز في تمهيد الطريق أمام هذه المسيرة للنمو والاستمرار ثم النجاح والازدهار الذي يشهد به الآن الداني والقاصي. ويمكن أن نضع هذه العوامل تحت عنوان جامع هو «القابلية للنهضة». نعم، النهضة مثلها مثل الاستعمار ومثل التبعية وغيرهما من الأفكار والنظريات يحتاج تحققها إلى درجة كبيرة من القبول أو القابلية. وإذا كان المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي قد طرح مصطلح القابلية للاستعمار في عام 1948 في كتابة «شروط النهضة» والذي تحول إلى نظرية تعالج استعداد الدول والشعوب لأن تستعمر من جانب دول وشعوب أخرى، فقد سار على نهجه أصحاب نظرية التبعية مثل المفكر وعالم الاجتماع الأمريكي من أصل ألماني أندري غوندر فرانك والمفكر والاقتصادي المصري سمير نعيم وغيرهما، الذين تحدثوا عن القابلية للتبعية لدي شعوب وأنظمة دول العالم الثالث بعد الاستقلال، فإننا يمكن أن نفسر نجاح تجربة النهضة العُمانية بـ«القابلية للنهوض». هذه القابلية في تقديري قامت على ركيزتين أساسيتين، هما على الترتيب: قيادة سياسية شابة متعلمة وطموحة تمثلت في شخص جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، وشعب متآلف ومتناغم مع قيادته ومتعطش للنهوض وقادر على إحداثه.

في العامل الأول يمكن أن نقول إن نجاح أية نهضة يتطلب أول ما يتطلب توافر إرادة سياسية قوية، وقيادة لديها الرؤية والفكر والرسالة والأهداف الواضحة بالإضافة إلى الآليات المساعدة على النجاح. وقد توافر ذلك كله وأكثر في شخص جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- الذي امتلك منذ اليوم الأول لتوليه الحكم إرادة قوية وعزم لا يلين على تغيير وجه الحياة في السلطنة وبناء دولة عصرية، وطموح عاقل ومتزن لنقل السلطنة إلى مصاف الدول الحديثة، إلى جانب إيمان راسخ لم يتزعزع يوما في شعبه وقدرته على المشاركة في النهضة والتمسك بأسبابها واحتمال تبعاتها والحفاظ على منجزاتها. من هذا المنطلق استطاع جلالته في فترة وجيزة أن يضع ركائز الدولة العصرية وجمع حوله كوكبة من رواد العمل الوطني الأوائل الذين اعتمد عليهم في بناء وإدارة مؤسسات الدولة. وكان التعليم هو المحرك الذي اعتمد عليه منذ اليوم الأول لقيادة عملية التغيير الشامل وبناء الأجيال التي تستطيع الحفاظ على مكتسبات النهضة والتمتع بثمارها.

وخلال سنوات النهضة حقق قطاع التعليم في السلطنة إنجازات كبيرة سواء على مستوى انخفاض نسبة الأمية إلى نحو تسعة بالمائة، أو التعليم المدرسي، أو التعليم العالي، وصعد مستوى التعليم في مؤشرات التنافسية العالمية إلى مراكز تفوق فيها على نظيره في دول عربية عديدة كانت قد سبقت عُمان في التعليم بسنوات طويلة.

ولأن البناء يحتاج إلى تركيز الجهود الوطنية في الداخل والحفاظ على علاقات طيبة مع الخارج، فقد وضع جلالته أسس سياسة خارجية متفردة جعلت من دول العالم أشقاء وأصدقاء للسلطنة، وجعلت من مسقط قبلة آمنة للجميع، ووسيطًا نزيهًا في كثير من النزاعات الإقليمية والعالمية، بعد أن أصبحت بفضل هذه السياسة دولة بلا أعداء. وبفضل هذه السياسة الحكيمة جنب جلالته تجربة النهضة الانزلاق كما حدث في تجارب عربية كثيرة إلى صراعات خارجية تستنزف طاقتها، ونأى بها عن كل ما يعطل مسيرتها. وبنظرة سريعة على الأوضاع العربية خلال هذه الفترة الممتدة من بداية النهضة في عُمان وحتى اليوم يمكن أن نقول إن سلطنة عمان تكاد تكون الدولة العربية الوحيدة، بحمد الله وحكمة جلالة السلطان المعظم، التي لم تقاطع أحدا ولم تخاصم أحدا ولم تدخل في صراع مع أحد، لا على المستوى السياسي أو الدبلوماسي أو حتى الإعلامي. هذه السياسة التي حرصت أيضا على دعم الأشقاء، ودعم مؤسسات العمل العربي والخليجي المشترك، جعلت الجهود الوطنية تصب جميعها في تعزيز النهضة وضمان استدامتها، فانتشرت المدنية الحديثة في كل ربوع السلطنة، واكتمل أو كاد بناء الإنسان والمكان.

العامل الثاني الذي وفر الأرضية المناسبة للنهضة العمانية الحديثة، ويمثل حتى الآن الوقود الأساسي لها، هو الشعب العُماني الذي كان لديه القابلية والاستعداد للتغيير الكبير الذي جاء به جلالة السلطان المعظم .

نعم يستطيع الحاكم أن يفرض التغيير في وقت ما ولكنه لا يستطيع أن يرغم الشعب عليه أو أن يحققه مع شعب لا يريد التغيير. وقد رأينا نماذج عربية وعالمية عديدة لتجارب فُرض فيها التغيير فرضا على الناس، ولكنهم لم يستجيبوا له، بل وثاروا على الأنظمة التي حاولت التغيير بالقوة. الفريد في التجربة العمانية أن إرادة جلالة السلطان المعظم توافقت مع إرادة شعبه المتعطش إلى النهضة منذ اليوم الأول لها، ولم تفترق الإرادتان على مدى سني النهضة بل إنها تزداد توافقا وانسجاما بمرور الأيام. وتستطيع أن تلمس ذلك وتشعر به عندما تسمع في الشوارع والمنازل والأماكن العامة والمدارس والجامعات المواطنين، وحتى المقيمين من كل الأعمار ومن كل الطبقات، وهم يدعون الله أو يؤمنون وراء خطيب الجمعة بأن يحفظ جلالته وينعم عليه بموفور الصحة والعافية.

ومن المؤكد أن السمات الشخصية للإنسان العماني الهادئ والمتسامح والطامح إلى التغيير، والمتمسك بدينه وتقاليده وعاداته في نفس الوقت، كان لها دور كبير في نجاح النهضة واستمرارها، والوصول بها إلى مرحلة يسعد بها المواطن في حاضره، ويطمئن بها على مستقبله.