1064609
1064609
المنوعات

جيل الثمانينات في مصر والعراق وسوريا ولبنان مهَّد المشهد الشعري لقصيدة النثر

20 يوليو 2017
20 يوليو 2017

علي منصور: كسر التابو أصبح موضة قديمة -

القاهرة - حسن عوض -

ينتمي الشاعر المصري الكبير علي منصور إلى جيل الثمانينات المصري، الذي مهَّد الطريق لقصيدة النثر. بدأ مثل غيره من أبناء هذا الجيل بإصدار عدد من دواوين التفعيلة «إرهاصات العشق الفقير، الفقراء ينهزمون في تجربة العشق، وردة الكيمياء الجميلة» ثم اتجه إلى قصيدة النثر، مُصدّراً عدداً من الدواوين منها «على بعد خطوة، ثمة موسيقى تنزل السلالم، في مديح شجرة الصبار»، وغيرها، غير أنه توقف منذ 2008، العام الذي شهد إصدار ديوانه «في مديح شجرة الصبار» عن إصدار دواوين، وعاد مؤخراً بكتاب يمزج بين الشعر والنثر بعنوان «بقايا ألبوم قديم لبرجوازي صغير». هنا حوار مع علي منصور.

•«النثر والشعر يداً بيد».. كان هذا تصديرك لكتابك الجديد «بقايا ألبوم قديم لبرجوازي صغير».. البعض يرى أن الكتاب هو ديوان، فلماذا آثرت عدم تصنيفه على هذا النحو؟

ببساطة.. لأنني أراه ليس نثراً خالصاً، ولا شعراً خالصاً، وإنما يجمع بين الاثنين، ومن هنا حرصت على تصدير الكتاب بالعبارة التي ذكرتها «النثر والشعر يداً بيد»، واتفقت مع هيئة التحرير في «أصوات أدبية» التي صدر عنها الكتاب على تصنيفه كـ(نصوص)، إلا أن معظم الأخبار الصحفية تناولته باعتباره «ديواناً»، ربما انطلاقاً من شيوع صفتي في الوسط الأدبي كـ(شاعر).

•هل التجربة هي التي تفرض شكلها في النهاية؟ بمعنى هل كنت تفكر في كتابة ديوان ثم انحرفت إلى هذا الشكل؟

بالتأكيد للتجربة أثر كبير في تحديد الشكل، وللشكل أيضا أثره في الإضافة إلى مضمون التجربة، وقد حدث معي ذلك الأمر كثيراً فيما قبل مثل نص «بعشر قبلات في الهواء، يقول وداعاً» في ديوان «في مديح شجرة الصبار»، وغيره كثير. إلا أن الأمر هنا كان مختلفاً بعض الشيء، فقد كنت أشتغل على عملين مختلفين في السنوات الأخيرة في الوقت ذاته، وعلى مضض كنت أعود لكل منهما بين الحين والآخر، وودت أن أتخلص منهما على نحو ما، وراودتني فكرة الجمع بينهما في كتاب واحد. ثم تصادف أن طلب مني أعضاء هيئة تحرير «أصوات أدبية»، في تشكيلها الجديد، مجموعة شعرية ليستهلوا بها الإصدار الثاني للسلسلة، فقدمت لهم الكتاب باعتباره مغامرة في الكتابة، فراق لهم الأمر، وكان أن صدر في خلال شهر أو شهرين، وهو الذي كُتب على مضض عبر سنوات!

•ما الفارق بين النثر والشعر النثري في وجهة نظرك؟ وتلك المزاوجة بين الاثنين في كتابك ما الذي تعنيه وفق رؤيتك؟ ولماذا تأخرت كل هذا الوقت في إصدار ديوان جديد؟

الأصل في الكتابة هو النثر، والطارئ على الكتابة هو الشعر، لجمال فيه بالتأكيد، ولأنه طارئ فهو متحول، من العمود المقفى، إلى الموشحات، إلى أبولو، فالشعر الحر، فقصيدة النثر، فالمغامرات المفتوحة التي ستؤول بالشعر إلى أن يصبح معادلاً موضوعياً للجمال، كأنه روح ما إن يحل في أي شيء حتى يمنحه الجمال، كتابة، سينما، لوحة، موسيقى، رقص، نقد، مسرح، حتى الصحافة، وكما وُلدت مفردات شاعر القصة، وشاعر السينما، وشاعر الفانتازيا الروائية، ستولد مفردات شاعر المقال الصحفي، وشاعرة النشرة الجوية.

وما تلك المزاوجة التي تشير إليها إلا انعكاس لهذه الديناميكا التي يذخر بها الشعر في ذاته، فيلهث وراءه الشعراء حتى يتساقطون واحداً تلو الآخر، وهو الجميل الحر الطليق الديمومي التحول.

أما لماذا تأخرت كل هذا الوقت في إصدار ديوان جديد، فما بين عام 2008 حين صدر «في مديح شجرة الصبار» وعام 2016 العام الذي صدر فيه «بقايا ألبوم قديم لبرجوازي صغير»، أصدرت في عام 2011عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عملي الأول الذي لم ينشر من قبل «إرهاصات العشق الفقير» والذي لم يلتفت إليه أحد في خضم دراما أحداث 25 يناير، وكان لابد من التوقف عند هذا المنعطف الذي لم نخرج منه بعد.

•ما الذي تبقى من جيلكم الثمانينات؟ كيف تقيِّم تجربتكم؟ وهل كنتم التمهيد المناسب الذي عبر عليه التسعينيون؟

مع التحفظ على مصطلح الأجيال، فإن جيل الثمانينات في مصر وبلدان عربية أخرى كالعراق وسوريا ولبنان قد مهدوا المشهد الشعري ليكون مشهداً تهيمن عليه قصيدة النثر بالكامل، وهو ما حدث بهم ومع جيل التسعينات ومن بعدهم، التجربة كانت تنطوي على تحدٍ كبير، ثلاث أجيال سابقة كانت تحتل المشهد بالكامل، ما تبقى من جيل الرواد ممثلاً في أحمد عبد المعطي حجازي وما تبقى من جيل الستينيات ممثلاً في محمد إبراهيم أبوسنة وفاروق شوشة، وجيل السبعينات بأكمله. كان المشهد حكراً عليهم وعلى من يرضون عنه بذائقتهم التقليدية، ولم يكن ثمة متنفس سوى مجلة «الكتابة الأخرى»، و(الأربعائيون)، و(إيقاعات)، وبعض الصفحات الثقافية في الدوريات، وبعض الأعداد الخاصة من المجلات خارج مصر مثل «الناقد» في لندن، و»المدى» في سوريا. استطاع الحرافيش، كما أطلق عليهم حجازي، أن يتخذوا من الهامش ساحة لهم ولأصواتهم المختلفة وذائقتهم المغايرة وبرزت أصوات مثل إبراهيم داود، وعلاء خالد، وأسامة الدناصوري، وفتحي عبد الله وآخرين في مصر، وكان هناك باسم المرعبي في العراق ويحيى جابر في سوريا ويوسف بزي في لبنان، ومع جيل التسعينيات كان المشهد يتغير تماماً ولم يعد النص الجديد منبوذاً في الهامش بل هيمن على المتن ذاته في مصر وخارجها.

•لماذا تبدو منعزلاً عن الساحة الثقافية؟ ما فلسفة العزلة بالنسبة إليك؟

يبدو أن طبيعتي تميل إلى الانطوائية، وأنا استسلمت لذلك، طفولتي كانت كذلك، العزلة ساحة خصبة لأحلام اليقظة وللخيالات، ساعد على هذا الاستسلام لهذه الحالة أنني شديد الحساسية تجاه الآخرين، لا أسامح نفسي إن فلتت مني مفردة غير مناسبة عن دون قصد، لذلك يغلب عليَّ الصمت حتى عندما يكون للكلام ضرورة، لست طلق اللسان، أحبذ القراءة عن الارتجال، قبل نومي أقيم بيني وبين آخرين وهميين حواراً بديعاً، يرقى لأعمال فنية عالية، أكثر خروجاتي أعود منها مكتئباً، لمَ قلته ولمَ لمْ أقله، حساسيتي مفرطة تجاه سوء الفهم، ربما كانت الكتابة برمتها عندي بديلاً عن المشاركة، لأجل هذا أعتذر دائماً عن اللقاءات التلفزيونية المباشرة، لم أبذل جهداً للتخلص من ذلك، الحديث بيني وبين نفسي يشكل 90% من حياتي، أعتقد أن هذا شيء سيئ للغاية، كنت أود أن أكون اجتماعياً أكثر من ذلك، اللعنة على الخجل.

من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، الثلاث مجموعات الأولى «إرهاصات العشق الفقير، الفقراء ينهزمون في تجربة العشق، وردة الكيمياء الجميلة» كلها تنتمي إلى قصيدة التفعيلة، بينما تندرج المجموعات التالية تحت قصيدة النثر، ومنها «على بعد خطوة، ثمة موسيقى تنزل السلالم، في مديح شجرة الصبار»، وغيرها. ما الذي تغير في تجربة علي منصور الشعرية، ما القناعات التي كانت راسخة لديك ثم سقطت في الطريق؟

دخلت لعالم الكتابة مبكراً، أول نص كتبته، وكان عمودياً، نُشر في مجلة «الجديد» سنة 1973، كنت دون السادسة عشر من عمري، من هنا كان طبيعياً لتجربة مبكرة كهذه أن تشهد تحولات عدة، من النص العمودي إلى النص التفعيلي إلى قصيدة النثر. أيضاً شهدت هذه التجربة انعطافات على مستوى آخر، فمن الهيمنة الأيديولوجية الماركسية التي صاحبت التجربة في المجموعات التفعيلية الأولى «ثلاث مجموعات»، إلى الحداثة المفارقة للقناعات القديمة شعرياً وأيديولوجياً والتحليق في فضاء الحرية بعيداً عن الالتزام التفعيلي والالتزام السياسي، كما في «على بعد خطوة، وثمة موسيقى تنزل السلالم»، إلى الركون لحالة الطمأنينة والتأمل عبر الالتفات لحاجة الروح القلقة تجاه الوجود والحياة، فكان الحضور الطاغي لأيقونات البشرية تجاه الله، والحق، والعدل، والجمال.

•ليست هناك محاولات لكسر التابو في معظم أعمالك.. يرى البعض أن تجربتك تميل، رغم تجديدك في الشعر، إلى المحافظة، بالمعنى الأخلاقي.. ما ردك على هذا الرأي؟

قد يكون هذا صحيحاً، وهذا لا يقلقني بالمرة، ثم إن كسر التابو ليس شرطاً جوهرياً لتحقيق حداثة شعرية، كسر التابوهات، لا سيما الجنسي والديني، أصبح موضة قديمة، وفتح طريقاً واسعاً للفجاجة الفنية أكثر من مساهمته في المفارقة الشعرية. التابو الأكثر حاجة للكسر هو التابو السياسي، وقد حاولته في أعمالي كلها تقريباً، وأظن أنه هو الأجدى للفن، لأنه يمنح الحرية الضرورية للمخيلة، ويفتح الأفق للتجريب بعيداً عن المألوف. المحافظة بالمعنى الأخلاقي لم تشكل عائقاً أمام التجديد في الشعر، هي ليست سوى قناعة شخصية يجب أن تحظى بحصانة «الحرية في الاعتقاد». ثمة نصوص عديدة مترعة بالتجديف ولم تصمد أمام الزمن، وثمة نصوص أخرى انحازت للأخلاق وعبرت القرون حتى وصلتنا. كسر التابوهات ربما يكون مظهراً حداثياً لكنه ليس شرطاً لتحقيق الحداثة الشعرية.

•كيف تُقيِّم التجارب اللاحقة عليكم، سواء من التسعينيين، أو الشعراء الجدد؟ هل أنت متابع لما يصدر؟ وكيف ترى موقع قصيدة النثر المصرية من العالم العربي؟

البعض يحسبنا على التسعينيين أيضاً، لذا لا أحب أن أتوقف طويلاً عند هذه التقسيمات، وأنا أتابع الشعراء الجدد، وما يصدرونه من مجموعات شعرية، قدر المستطاع، فهم كثر، ثمة أصوات لافتة كثيرة، تركت صدى منذ أعمالها الأولى، صحيح هناك بعض الاستنساخات لتجارب سابقة لكنني أراه أمراً طبيعياً، المشهد خصب وثري، مصرياً وعربياً، الانشقاقات العربية والانقسامات السياسية، وغياب الرؤية الثاقبة، وضبابية المستقبل العربي، كل ذلك يلقي بظلاله القاتمة على الإبداع ككل، ربما الشعر أكثر اتساقاً مع المرحلة المضطربة هذه، وربما هو الأكثر احتياجاً. الشعراء السوريون رغم المحنة المرعبة، يشكلون ظاهرة لافتة كذلك.

•هل ترى أنك مظلوم نقدياً؟

لا أحب أن أستسلم لهكذا شعور، النقد قد يسهم في تسويق شاعر ما، أو يزيد من شهرته، سوى أن الشعراء الحقيقيين هم الذين تعبر أعمالهم القرون بذاتها وليس بالترويج لها نقدياً، وربما يحدث ذلك بعد أن يرحلوا، التاريخ هو المعول عليه في مثل هكذا أمور.

•أخيراً.. من هم الشعراء الذين تعود لقراءتهم باستمرار ولماذا؟

كثيرون، وأغلبهم وصلونا عبر الشعر المترجم، كافافي، وشستر بيتي، ولاوتسي، وبيسوا، وإديت سودرجران، ورامبو، وأودن، وشعراء الهنود الحمر،وغيرهم كثير.

في أعمالهم متعة، إنهم يعزفون على وتر الحاجات الإنسانية الدائمة. يعزفون بشكل جميل وعفوي، يصل الأغوار البشرية، ويهدهدها.