أفكار وآراء

الإصلاحات وما قبل النهاية

19 يوليو 2017
19 يوليو 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

في اللغة الدارجة يقال عادة إن (التقفيل) أو (الفينشنج) أهم مرحلة في إنتاج السلعة أو تقديم الخدمة. وفي اعتقادي انه يمكن مد هذا المفهوم إلى برامج الإصلاحات الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أيضا. ويعرف المخضرمون قصة السجال الذي دار بين الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات والكاتب الصحفي احمد بهاء الدين في هذا الخصوص. كان السادات يستشير بهاء الدين في أمور الدولة العليا من وقت إلى آخر، وفي كل مرة يكون الرئيس السادات فيها على وشك إصدار قرار خطير أو مؤثر أو منتظر، وكان يسأل بهاء الدين بعد أن يتم الانتهاء من القرار في صورته النهائية: السيناريو ايه يا احمد؟ أي ما الطريقة التي يجب أن يتم بها إخراج القرار إلى النور أو تقديمه للمجتمع داخليا أو خارجيا؟. كان الرئيس يدرك جيدا أهمية (الفينالة)، بلغة أهل السينما في التعامل مع القرارات السياسية، وكما بات معروفا فإن قرارا سيئا مع إخراج جيد أفضل من قرار جيد مع إخراج سيئ.

أقول ما تقدم بمناسبة انه تم الإعلان مؤخرا عن أن مصر قطعت 80% من شوط الإصلاح الاقتصادي، وان أصعب ما يمكن أن يواجهه المجتمع قد تم، وبقيت إصلاحات خفيفة التأثير على الأسعار ومستويات المعيشة. وبما أن الأمر كذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما شكل النهاية؟ أو ما السيناريو الذي سيتم به تقديم نهاية الإصلاح إلى المجتمع وإلى الجماهير أو الشعب أو المستهلكين أو الموظفين.... إلخ. هذا مع مراعاة أن الإصلاح عملية مستمرة ومن الصعوبة بمكان تحديد فواصل دقيقة بين مرحلة وأخرى، فانتهاء الإصلاحات طبقا للبرنامج المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، لا يعني أن الاقتصاد لم يعد بحاجة إلى إصلاحات أخرى أو أن كل المعوقات لتحقيق انطلاقة اقتصادية قد تمت إزالتها. الصحيح ان نهاية برنامج الإصلاح هي نهاية مرحلة التأسيس لعملية اقتصادية جديدة هدفها زيادة الإنتاج السلعي والخدمي في البلاد مع الالتزام بالمعايير العالمية في الإنتاج وتحقيق درجة أعلى من القدرة التنافسية ووضع الصادرات ذات القيمة المضافة العالية على مسار تصاعدي والبدء ببناء أسس لعدالة اجتماعية من نوع جديد ترتكز على معايير التناسب بين المساهمة في الناتج القومي وبين العوائد المتحققة في أطر من تعزيز الجدية واحترام الكفاءة وإعلاء قيم المقابل العادل والعمل اللائق والتوزيع الأمين لنواتج الثروة القومية بين الأجيال وبين المنتجين أو المشاركين في العملية الإنتاجية مع حماية الفئات الضعيفة ببرامج فاعلة هدفها نقلهم من الفقر إلى حالة العطاء والتفاعل والعمل والعيش الكريم وليس فقط سد رمقهم مع بقائهم أسرى للفقر إلى أجل غير معلوم.

كل ذلك واكثر منه منصوص عليه في الرؤية القومية 2030 فهناك أهداف استراتيجية تتعلق أيضا بالنزاهة والشفافية ومكافحة الفساد وبالسعادة والبيئة النظيفة والحياة الثقافية الغنية والبحث العلمي.... الخ. لكن ما أود أن أشير إليه هنا هو أهمية الربط بين المحلي والمستقبلي مع توثيق كل خطوة، وبيان موضعها على الطريق الطويل والشاق إلى مجتمع الوفرة والسعادة والطمأنينة والعمل الجاد.

ولعلى أزيد فأقول: إن الخطورة كل الخطورة أن نتصور أن الجماهير وقد رضيت عن الأصعب ألا وهو تحرير سعر الصرف وتحرير أسعار الطاقة بكل ما ترتب عليهما من ارتفاعات ضخمة في مستوى الأسعار، ورضيت أيضا أو قبلت الخطوات الإصلاحية الأخرى كتقليل معدل الزيادة في أجور الموظفين الحكوميين وزيادة أسعار سلع وخدمات حكومية متنوعة وطرح بعض الأصول العامة في البورصة وتشديد قوانين العمل...وغير ذلك، فإنها قبلت إلى ما لا نهاية أو قبلت دون شرط.

إنها يمكن أن تغضب بأثر رجعي! ولذلك فإن الخطوة الأخيرة في الإصلاح يجب أن يعقبها مباشرة إنهاء للمرحلة بطريقة فاعلة ومؤثرة وأمينة توضح ما تحقق ومن دفع ثمنه ومن سيحصل على ماذا بعد كل هذا الصبر أو ذلك العناء، وإلام تقودنا عملية الإصلاح، وما الأفق الذي تفتحه لنا كأفراد وكأسر ومواطنين عموما؟.

يحدث كثيرا في قاعات السينما أن نخرج في ضيق من دار العرض لأننا امضينا وقتا طيبا مع الفيلم بيد أن النهاية لم تكن موفقة فأطفأت فرحتنا بالعمل أو بردت سخونة التفاعل معه. لا يجب أن يحدث الشيء ذاته مع برنامج الإصلاح الاقتصادي بغض النظر عن الفرق بين قاعة السينما وعروضها وبين المجتمع الواسع وبرامج الإصلاحات.

وافضل ما يمكن عمله هنا هو أولا دراسة التجارب الناجحة في الإصلاحات الاقتصادية، تجارب مثل تشيلي وماليزيا وسنغافورة والبرازيل وتركيا والأرجنتين، والتجارب التي فشلت، وفحص بداياتها ونهاياتها بشكل دقيق للخروج بخطة عمل ناجحة.

ومن الممكن من الآن التجهيز لكتاب أبيض للإصلاحات يشرح كل خطوة تمت وأسبابها ببساطة والخيارات التي كانت مطروحة وتبرير الخيار الذي تم الركون إليه. ويشرح أيضا الصعوبات التي واجهت البرنامج وكيف تم تذليلها والأساليب المبتكرة لجعل الجماهير تتقبله أو تقلل من معارضتها له أو تحيدها. فقد عرف كل المصريين كمثال أن تحرير أسعار الطاقة قادم لا محالة حين فاقوا ذات يوم على أنباء حزمة اجتماعية حكومية ضخمة لأصحاب الوظائف الحكومية والعاملين في الدولة بشكل عام وأصحاب المعاشات أو المستفيدين عنهم وأصحاب برنامجي تكافل وكرامة وهما من اهم برامج الحماية الاجتماعية لغير القادرين وهما محل إشادة دائمة من البنك الدولي والأمم المتحدة. وكانت تكلفة الحزمة في البداية 46 مليار جنيه ثم قفزت لاحقا بتعليمات رئاسية إلى 86 مليار جنيه. وقد عرف كافة الناس من تلك اللحظة أن رفع أسعار الوقود مقبل. لكن هل كان يمكن لعاقل أن يستنكر لجوء الدولة إلى مثل هذا العمل أو مثل تلك التسوية المجتمعية ؟. كانت خطوة جيدة رغم انتقادات موضوعية عديدة لها. لقد غضب الجمهور أيما غضب بعد رفع أسعار الوقود لكن كل واحد وبلا شك قال لنفسه إن الحكومة في النهاية صرفت لنا بالأمس القريب مبلغا يمكن أن يسد جانبا من الزيادة في تكاليف المعيشة التي نتحملها. كان الرد الشعبي المتفق عليه بلا اتفاق هو أن الحكومة أخذت بالشمال ما منحته باليمين، وكان المواطنون يردون على بعضهم أحيانا. فأحدهم يقول قصة الشمال واليمين تلك، ويرد الآخر: ذلك أحسن مما لو كانت أخذت فقط ولم تمنحنا شيئا!.

هناك دروس إذا في ملف التسويات الاجتماعية أو التعويضات العادلة كيف تكون ومتى تتم وبأي طريقة يتم تقديمها للرأي العام؟ وبالتالي فإن النهج ذاته أي عدالة تعويض المتضررين من الإصلاحات - وهي لا تقل أهمية عن عدالة توزيع ثمار الإصلاح- يجب أن يستمر ويسود في ملفات أخرى أو إصلاحات أخرى لاحقة.

احتفلوا بالنهاية كخطوة على طريق طويل واجعلوا الناس تعرف - كيف يكون الإصلاح صديقا للتقدم وللعدالة وللتحديث والتغيير إلى الأفضل فيما سيأتي من إصلاحات. النهاية والبداية صنوان وهما يتعاقبان تعاقب الليل والنهار في صيرورة  دائمة.