أفكار وآراء

مسقط بوابة السلام «1 من 2»

18 يوليو 2017
18 يوليو 2017

جمال إمام -

في الوقت الذي عملت فيه عمان بجد وهمة منذ اللحظة الأولى لبناء الدولة الحديثة على ترسيخ مبادئ سياساتها الخارجية وأهمها القاعدة الذهبية في العلاقات الدولية بعدم التدخل في شؤون الغير ودعم الأمن والاستقرار الدوليين وحل الخلافات بالطرق السلمية ونبذ الحروب .. كانت تفاجئ المراقب من حين لآخر بقدرتها على الإمساك بأوراق مؤثرة في المشهدين الإقليمي والدولي.

وفي هذا الإطار نجحت كثيرا في أن تحتفظ لنفسها بحرية الحركة وباستقلالية القرار وبالمصداقية في إدارة أزمات كثيرة لم تكن طرفا فيها. وهو ما جعلها تحظى بثقة كافة الأطراف الإقليمية والدولية وذلك بعيدا عن سياسة المحاور والتحالفات الضيقة لتنطلق بقوة على مسار مخالف جعل منها بوابة للسلام وداعمة لجهوده وقبلة لفرقاء كثيرين يجدون في الدبلوماسية العمانية الهادئة والرؤية الحكيمة لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - ملاذا آمنا يساعد كثيرا على إدارة أزمات وملفات شائكة كللت بنجاح كبير ..

وهو ما رسخ بقوة الثقة في عمان التي تفتح ذراعيها للأشقاء والأصدقاء الذين يعرفون جيدا كيف يمكن لمسقط أن تفتح الأبواب المغلقة بمفاتيح الحكمة والأناة والصبر والمصداقية والرؤية الثاقبة وقبل كل شيء مفتاح حب السلام والسعي من أجله ..

لتكون مسقط بصدق بوابة السلام والمحبة والإخاء ولمّ الشمل ونبذ الخلاف والتعصب وهي في كل المواقف الإقليمية والدولية باتت سياستها معروفة بقدرتها على تقريب المسافات والمساعدة في حل المشكلات ثقة في رأيها ومشورتها ونصحها ..

اليوم باتت مسقط ليس مجرد عاصمة لدولة لها تاريخ عريق بل باتت ملتقى لصنع القرار الإقليمي وعاصمة محورية في العلاقات الدولية، أما عربيا وخليجيا فهي أقرب ما تكون بيتا لكل الأشقاء، الذين يعرفون قدرها ومكانتها وتاريخها الناصع في النأي بنفسها عن الصراعات والمشكلات والخلافات، خاصة أن عمان تبنت طوال تاريخها سياسة وسطية معتدلة كأحد أهم مرتكزات سياستها الخارجية سواء على الصعيد العربي والخليجي أو على الصعيدي الإقليمي والدولي ..

فمؤخرا وعلى سبيل المثال، كانت زيارة معالي وزير الخارجية المصري سامح شكري في إطار التشاور بين البلدين وهي زيارة تعدت وتجاوزت الزيارات التقليدية لأنها جاءت ضمن التشاور خارج نطاق العلاقات الثنائية والتي هي بطبيعة الحال متميزة خاصة أن المنطقة العربية في الوقت الراهن تشهد الكثير من المتغيرات ..

لذلك كان من الطبيعي أن يكون التنسيق والتشاور في ملفات بالغة الأهمية يزيد من أهميتها أنها جاءت بالتزامن مع القمة العربية التي عقدت في مارس الماضي ..

وفي إطار حراك سياسي كبير، ما زالت مسقط محورًا له، اكتسبت الزيارة الثانية للرئيس الإيراني حسن روحاني إلى السلطنة، والتي جرت في منتصف فبراير الماضي، أهمية محورية في ضوء التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، خاصة الأوضاع في سوريا واليمن وليبيا بما يعكس قوة الدفع الإقليمية التي تعطيها عمان للمنطقة ولإقليمها ولجوارها الجغرافي حيث يتمتع البلدان بعلاقات وطيدة حيث أبقت خلالها مسقط على قنوات الاتصال مفتوحة مع طهران والغرب فيما يخص أزمة الملف النووي الإيراني والتطورات الأخرى في المنطقة ..

ونجحت ببراعة من خلال المساهمة في نزع فتيل الأزمة في إتمام الاتفاق بين إيران والقوى الغربية وهي الإشارة الأهم على الصعيد الإقليمي بما تعكسه من الثقة الكبيرة في قدرة الدبلوماسية العمانية على التعامل مع مواقف شديدة الصعوبة والوعورة في الوقت الذي عملت فيه أيضا على حفظ التوازن على ضفتي الخليج.

والواقع أنه مع تولي الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وما تم من إثارة قضية الملف النووي الإيراني مجددا حيث أعلن تحفظه على الاتفاق، فإن الزيارة يمكن فهم أحد أبعادها بأنها ترتبط بالمتغيرات الجديدة التي يمكن أن تؤثر على مستقبل الاتفاق وهي دلالة في غاية الأهمية لاعتبارات تنظر لمسقط على أنها جزء مهم وأصيل في الاتفاق عبر مساعيها الحميدة لإنجازه.

كما قد ترغب إيران أيضا، وفق فهم البعض للأبعاد السياسية للزيارة وللعلاقات العمانية - الإيرانية ولدور السلطنة وعلاقاتها الوثيقة بمختلف الأطراف العربية والإقليمية والدولية، في استثمار هذا الدور في إيصال رسالة إلى مختلف الأطراف الأخرى وهي أن الفرصة سانحة للوصول إلى تسوية مع إيران على الصعيدين الإقليمي والدولي وينبغي عدم تضييعها ..

والزيارة بذلك - وما تبعها من اتصالات وتحركات ثنائية - تتجاوز بآثارها ونتائجها الإيجابية البعد الثنائي بين البلدين لتمتد إلى البعد الخليجي والإقليمي الأوسع حيث إن السياسة العُمانية تحرص على وجوب أن تنعم المنطقة بالسلام من خلال بناء علاقات تقوم على أسس متينة وقوية من الالتزام الواضح بمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتعاون بحسن نية وهي عوامل تحقق السلام بين مُختلف الدول ..

وفي هذا السياق نتوقف عند دلالات أخرى للأبعاد السياسية لهذه الزيارة المهمة للرئيس روحاني الذي أكد في تصريحات له على أن «لهذه الزيارة أهمية كبيرة في التقريب بين إيران والدول الإسلامية لا سيما مع الدول الجارة» ..

وهذا ما يمكن قراءته أيضًا في تصريحات معالي يوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية حول الزيارة بتأكيده على أن عمان تسعى للعمل البنّاء والتعاون مع «كل جيران السلطنة بما يخدم شعوب هذه الدول ويوثق من العلاقات بينها ويربطها بالمصالح المشتركة التي تعود بالنفع على الجميع» ..

وأن عُمان تسعى «إلى تكريس هذا التعاون لخدمة وتقارب الجميع في المنطقة» وأنها تؤمن «أن ما بين أبناء هذه الدول الكثير من المصالح المشتركة التي يجب أن تتضاعف في المرحلة المقبلة» ..

وبالإضافة إلى الأبعاد السياسية حققت الزيارة أهدافها في دعم المصالح الاقتصادية المشتركة بين البلدين إذ تشهد العلاقات التجارية بين السلطنة وإيران نموا متزايدا فقد ارتفع حجم التبادل التجاري الخارجي بين البلدين مسجلا خلال العام الماضي 2016 زيادة بنسبة 35% ليصل إلى 1.350 مليار دولار مقارنة مع نحو مليار دولار فقط في عام 2015.

ويستمد التبادل التجاري زخما من نمو حجم تجارة المواد الغذائية المستوردة من إيران بالإضافة إلى حركة بعض المنتجات المعاد تصديرها إلى إيران من دول العالم عبر ميناءي صلالة وصحار ..

كما أن البلدين استأنفا المحادثات الخاصة بوضع اللمسات الأخيرة لاتفاق تصدير الغاز الطبيعي والشراكة في مشروعات الغاز الطبيعي المسال..

أما قمة هذا الحراك السياسي فقد تمثل في وجهها العربي الخليجي حيث فتحت عمان ذراعيها لزعيم خليجي عربي شقيق هو صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت في 20 فبراير الماضي تتويجًا للعلاقات الأخوية المتينة والروابط الوثيقة بين السلطنة ودولة الكويت الشقيقة ..

والزيارة في هذا الإطار تأتي تعزيزًا لمسيرة التعاون المثمر بين السلطنة ودولة الكويت الشقيقة وحرصًا من قيادتي البلدين على دعم المصالح المشتركة بين بلديهما في مختلف المجالات ..

ويعكسها تاريخ طويل من العلاقات الوطيدة والمميزة والمتنامية بين البلدين الشقيقين بما يؤكد على أهمية الزيارة بأبعادها السياسية والاقتصادية وبما يعود بالنفع على البلدين الشقيقين وعلى المنطقة حيث تمضي مسيرة التعاون الثنائية في العديد من مجالات التعاون تدعمها أواصر الروابط الأخوية التي أوصلت العلاقات في الكثير من الجوانب إلى مستوى متقدم من التعاون البنّاء الذي يخدم مسيرة العمل المشترك

ويلامس اهتمامات المواطنين في البلدين ..

وهو ما يعني أن البلدين يحملان هموما عربية وخليجية مشتركة يسعيان من خلالها لإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة في إطار متغيرات إقليمية ودولية وعربية متعددة..

وهو ما يعني ويؤكد ما أشرنا إليه من أن مسقط بوابة السلام تعمل من أجل المنطقة بالتشاور والتعاون مع أشقائها وأصدقائها على جانبي الخليج، ويؤكد ذلك أيضا زيارة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بن الحسين للسلطنة في منتصف مايو الماضي، ثم زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للسلطنة في مايو الماضي أيضا .

والواقع أيضا أن هذا الحراك الذي تشهده مسقط بوابة السلام شمل كذلك زيارة رفيعة المستوى لمعالي أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيرس والوفد المرافق له في فبراير الماضي، في مستهل ولايته كأمين عام للمنظمة الدولية، وهي زيارة بالغة الأهمية للتعرف عن كثب على الرؤى العمانية في كثير من الملفات التي تهم المنطقة ..

وهي جميعها زيارة ذات دلالة كبيرة تكمل أهمية المشهد في التنوع والتعددية الذي تستقبل بها مسقط ضيوفها من الأشقاء والأصدقاء والمسؤولين الدوليين بما يؤكد على مكانة السلطنة على الأصعدة العربية والإقليمية والدولية.