المنوعات

المركزية الغربية والنزعة الإقصائية

17 يوليو 2017
17 يوليو 2017

عبدالله العليان -

ناقش العديد من الكتاب والباحثين من العرب الغربيين، قضية المركزية الغربية ونظرتها الاستعلائية للآخر المختلفة حتى أنها اتصفت بالعنصرية،واعتبار الشعوب الأخرى في أدنى مرتبة من الناحية العرقية،بل أن بعض الاشتراكيين ـ وهذه هي المفارقة ـ أيدوا الاستعمار لبعض البلدان، كما قالوا أن له مهمة حضارية.. وفي كتابه «الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان»، يطرح د.عبد الوهاب المسيري مسألة العنصرية التي اتصفت بها الحداثة الغربية، وقال: إن العقل المادي والعلم قادران على رصد أمرين اثنين: الاختلافات المادية بين البشر، وكذلك القانون المادي العالم الذي يسري عليهما.

وتنتج عن هذا رؤيتان للبشر: الأولى ترى البشر باعتبارهم أعراقا وأجناسا مختلفة لا يربط بينها رابط. وقد ظهر عن هذا التصور عنصرية عصر التحديث والتفاوت، حيث يتم الإصرار على أن البشر مختلفون بشكل جوهري، وان بعضهم قوي متفوق والبعض الآخر ضعيف متخلف. وباسم هذا التفاوت يصبح من حق هذا القوي المتفوق أن يبيد أو يوظف هذا الضعيف المتخلف.لكن هناك شكلاً جديداً من العنصرية، كما يقول د.المسيري، وهي عنصرية التسوية. وتصدر عنصرية التسوية عن أن قانوناً عاماً يسري على كل البشر، فهم إذن متساوون، ولكن هذا القانون يسري على كل الكائنات الطبيعية، ومن ثم فإن المساواة بين البشر تتصاعد إلى التسوية بين كل الكائنات في جميع الوجوه فتسقط الإنسانية المشتركة، وهذا هو- العنصر المشترك بين العنصريتين - أنه هجوم على الطبيعة البشرية وعلى إنسانيتنا المشترك فلنصبح إما أعراقاً لا يربطها رابط، أو تصبح مادة طبيعية عامة لا تتميز بأية خصائص إنسانية تفصلها عن الكائنات الأخرى.

فعنصرية التفاوت كما يرونها بحسب د. المسيري، هي الإيمان بوجود تمايز ثقافي بين الأجناس، بأن هذا التمايز له أساس مادي «بيولوجي ـ بيئي ـ وراثي»، ثم الانتصار للجنس الذي ينتمي إليه الفرد أو المجتمع باعتباره جنساً متفوقاً، وهو ما يمنح هذا الجنس المتفوق حقوقاً ومزايا ومكانة لا تمنح لأعضاء الأجناس الأخرى..

فالعنصرية في تصورنا - كما يقول المسيري - هي تجلٍ للرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية. ويمكن القول:إن عنصرية عصر التحديث تبدأ مع الفكر الإنساني «الهيوماني» الغربي ذاته، فهذا الفكر الذي يدور في إطار المرجعية الكامنة جعل الإنسان موضع الكمون ووضعه في مركز الكون دون استخلاف من الإله. ولكن هذه الإنسانية انحدرت بسبب إطارها الكموني الطبيعي المادي إلى إمبريالية، فبدلاً من أن يضع الإنسان الغربي الجنس البشري في مركز الكون وضع الجنس الأبيض في هذا المركز ووضع بقية البشر مع الطبيعة/‏‏المادة في الهامش؛ وبدلاً من أن يكون الهدف من الوجود في الكون هو تحقيق مصلحة الإنسان، أصبح الهدف هو تحقيق مصلحة الإنسان الأبيض، وبدلاً من الإيمان بأسبقية الإنسان على الطبيعة أصبحت المسألة هي أسبقية الإنسان الأبيض على الطبيعة وبقية البشر.

ولذا، كانت عملية الغزو الاستعماري هي عملية غزو للطبيعة المادية وللمادة البشرية الموجودة عليها، أي لبقية شعوب العالم. وقد دعَّم الإنسان الغربي، كما يقول د. عبد الوهاب المسيري، دعوى المركزية لنفسه بمجموعة من النظريات الخاصة بعالم الأخلاق والهوية والحضارة تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة وتؤكد تفوقه، وهذه النظريات هي ما يطلق عليها النظرية العنصرية التي شكَّلت إطاراً شاملاً لرؤية الذات والحضارة والسلوك.

ولعل ظهور الفكر العنصري كان أمراً حتميَّاً بعد تراجع الرؤية الدينية في الغرب وتصاعد معدلات العلمنة والواحدية وغياب أي مرجعية نهائية متجاوزة، ففي عالم الحلولية المرجعية الكامنة لابد من البحث عن نقطة مرجعية في المادة ذاتها لتفسير كل شيء، ولابد من البحث عن مطلق علماني. وقد وجدت الحضارة الغربية العلمانية ضالتها في كلَّ من العرق والنظرية العنصرية.وقد ذكرت دائرة المعارف البريطانية، عبارة مجموعة عرقية ووصفتها بأنها جماعة من البشر لها صفات بيولوجية محددة أو صفات ثقافية وقومية محددة أو مجموعة من كل هذه الأشياء.

ويلاحَظ أن المجال الدلالي اتسع هنا من عِرْق إلى شعب إلى موروث ثقافي، أي إن ثمة ترادفًا بين العرق والإثنية. كما أن التفوق العرقي لا يعبِّر عن نفسه في خصائص بيولوجية وحسب، وإنما في أشكال إثنية وحضارية مختلفة. ومن ثم، فإن التفوق الحضاري والإثني والقوة العقلية والقدرة على غزو الآخر وسحقه هو مجرد تنويعات على العرق أو تجليات له. وهي كلها، على أية حال، إنجازات مادية تتبدى في عالم المادة المحسوس. وقد تبدَّت هذه الأفكار نفسها في فكرة القومية العضوية، وتشكل إطار الفكر القومي العلماني بشكل عام.وإذا كانت ألمانيا النازية، كما يشير د.المسيري، هي البلد الذي وصلت فيه عنصرية عصر التحديث والتفاوت قمتها، فإن الولايات المتحدة هي البلد الذي تصل فيه عنصرية ما بعد الحداثة والتسوية إلى قمتها، فهي الحضارة التي بدأ يسود فيها نمط التسوية والعنصرية الجديدة التي تهدف إلى إزالة الحدود تمامًا وصهر كل الهويات. فالمجتمع الأمريكي مجتمع بلا تقاليد حضارية أو دينية سابقة، ذلك أن أمريكا لم تتشكل فيها هوية إثنية محددة. وحضارة أمريكا حضارة مهاجرين قادرين على التكيف السريع، والنشاط الأساسي للإنسان فيها هو البيع والشراء والإنتاج والاستهلاك، والبحث عن اللذة وتعظيمها، ولذا فهي حضارة يمكن أن يظهر فيها الإنسان الطبيعي ذو البعد الواحد، ولعل شعر وولت ويتمان، شاعر الديمقراطية الأمريكية، أصدق تعبير على ذلك.

وما يسمونه أَتُّون الصهر هو الآلية التي يتم بها الصهر الخاص المتعين للإنسان ليظهر الإنسان الطبيعي المادي العام. وكرد فعل لهذا، تظهر الإثنية والأصولية الدينية (بل والعنصرية التقليدية) كمحاولة لتأكيد الهوية الإنسانية.وقد أشار إلى هذه الرؤية الغربية العنصرية د. محمد عابد الجابري في كتابه (المشروع النهضوي العربي..مراجعة نقدية)، فيقول:« لم تكن العلاقة بين المشروعين، الحداثي الأوروبي والنهضوي العربي، من جنس علاقة الند بالند، بل كانت من جنس علاقة القوي بالضعيف والسيد بالعبد، ومن هنا ذلك الدور التخريبي الذي قام به مشروع الحداثة الأوروبية في تاريخ النهضة العربية الحديثة من خلال بعديه اللذين يحكمان وجهه الآخر (التوسع الاستعماري والتنافس الأوروبي)، التخريب الذي مس، بل أجهض وأعاق مفعول بعدها الآخر، التنويري التحديثي، وذلك إلى درجة يصح معها القول: إن تعثر النهضة العربية، أعني ما أصاب التحديث والحداثة من انتكاسات في الوطن العربي، يرجع في الأساس، لا إلى مقاومة داخلية من القوى المحافظة في المجتمع العربي، بل إلى الدور التخريبي الذي قام به الوجه الآخر للحداثة الأوروبية، الوجه الذي قوامه الداخلي «القوة» و«المنافسة» وتطبيقه الخارجي «التوسع الاستعماري» و«التنافس الأوروبي الإمبريالي» إن هذا الدور التخريبي هو الذي مكّن المقاومة الداخلية للحداثة الأوروبية في الوطن العربي من الشرعية والمصداقية لأنها برزت كمقاومة للتدخل الاستعماري والغزو الأجنبي وليس كمقاومة للجديد.الواقع أنه لا يمكن فهم العلاقة بين الحداثة الأوروبية وظاهرة الاستعمار إلا باستحضار النظام الفكري الذي طغى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر باسم الحداثة وفي إطارها. فباسم العقل والعلم والتقدم - كما يقول د. الجابري - وهي الأسس التي قامت عليها الحداثة الأوروبية في القرن الثامن عشر، برزت في القرن الذي يليه نزعات فكرية تصب كلها في مجرى واحد، هو تكريس فكرة تقدم الإنسان الأوروبي وجدارة أوروبا بالهيمنة على العالم لـ«تمدينه» ونشر «الحضارة» في أرجائه.

ومن أهم هذه النزعات:النزعة التاريخية والنزعة التطورية والنزعة العرقية والنزعة العلموية والنزعة الاستشراقية الاستعمارية. لقد تعززت هذه الأيديولوجيا التاريخية التي وجدت تطبيقها الأوسع في فلسفة التاريخ ـ وعند هيجل خاصة ـ تعززت بنظرية التطور الداروينية التي كرست فكرة تغير الأنواع (نبات،حيوان،إنسان) وإمكانية تحول بعضها إلى بعض على سلم من التطور يتم فيه الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى. وقد فسر داروين ـ بحسب د. الجابري ـ ذلك بما سمي بمبدأ « الاصطفاء الطبيعي»و« البقاء للأصلح»،وقد انتشرت فكرة «البقاء للأصلح» انتشاراً واسعاً فصارت مبدأً عاماً يفسر به التطور والتقدم في جميع الميادين، بما في ذلك ميدان التاريخ والاجتماع.

وهكذا سيتحول مبدأ «البقاء للأصلح »إلى مبدأ «البقاء للأقوى». وإذا كان هذا المبدأ يقدم تبريراً أيديولوجياً سافراً للهيمنة الطبقية البرجوازية داخل أوروبا، وتبريراً لاستغلالها واستبدادها، فهو يقدم أيضاً التبرير نفسه للتوسع والهينة خارجها: الاستعمار».(25،24)..وللحديث بقية.