المنوعات

مئات الرسائل الجامعية تؤهل الطالب للنقد لكنه يلفظ آخر أنفاسه كناقد فور الحصول عليها

16 يوليو 2017
16 يوليو 2017

فتحي عبدالسميع: ذهنية «القص واللصق» تسيطر على الساحة النقدية -

القاهرة – حسن عوض:

منذ أن أصدر الشاعر المصري فتحي عبدالسميع ديوانه «الخيط في يدي» عن «هيئة قصور الثقافة» 1997 إلا وتم النظر إليه على أنه واحد من الشعراء المهمين، ثم توالت دواوينه التي تعكس خبرته الشعرية الكبيرة وقفزه من سلمة المجاز إلى سلمة التفاصيل اليومية، ومن بين هذه الدواوين «تقطيبة المحارب، خازنة الماء، فراشة في الدخان، تمثال رملي، الموتى يقفزون من النافذة».

لا يكتفي فتحي عبدالسميع بالشعر فهو يمارس النقد الأدبي وكتب الكثير من المقالات والدراسات حول عدد كبير من الأعمال الإبداعية، وهو في هذا الحوار يجيب عن أسئلة تتعلق بأسباب تراجع النقد في الساحة الثقافية المصرية.

ما أوجه الأزمة النقدية التي يعيشها الواقع الأدبي؟

ـ لا نستطيع فصل الأزمة النقدية عن أزمة المناخ العام، وكل ما في الواقع الأدبي من أمراض ينسحب على الناقد بوصفه جزءاً من ذلك الواقع، وجوهر الأزمة يعد امتداداً لبؤس المناخ العام، يرجع في تقديري بكل ملموس إلى بناء شخصية الناقد نفسه، إذ توجد في الحقيقة وفرة في المؤسسات الأكاديمية والثقافية، وقفزة في المناهج والاتجاهات النقدية، التي تمنح الناقد مفاتيح وقدرات هائلة لقراءة النصوص، وفي نفس الوقت يوجد فقر هائل في عدد النقاد، ويوجد فقر في القراءات النقدية التي يقدمها الناقد المسلح بتلك المناهج، فتجد على سبيل المثال مقدمة رائعة لبحث عن تحليل الخطاب في عمل ما، ثم تجد تحليلاً فقيراً للغاية وكأنه لناقد آخر لا علاقة له بالمقدمة، وهنا تنعكس الذهنية التي أسسها النظام التعليمي كله، الذهنية غير الإبداعية، أو ذهنية القص واللصق، الذهنية التي يعشش فيها الغش والخوف والتقليد وكل ما حوَّل المعرفة من قيمة ورسالة في المقام الأول إلى مجرد لقمة عيش، أووسيلة لتحقيق مكانة ما، ينتهي دورها فور تحقيق ذلك الهدف الصغير، وذلك ما نراه في المئات من الرسائل الجامعية التي تؤهل الطالب، نظرياً، لكي يصبح ناقداً لكنه غالباً، يلفظ آخر أنفاسه كناقد فور الحصول عليها.

باستثناءات طفيفة اكتفى بعض أساتذة الجامعة بالعمل خلف أسوارها، ما الذي تغير، وجعل الأكاديميين يكتفون بالمناهج؟

ـ عندما نتحدث عن الحركة النقدية لا تخطر الجامعة في أذهاننا، بل نتحدث عن أفراد خرجوا من الجامعة لكن تجاربهم النقدية تنبع من ميول وطموحات خاصة بهم لا من النظام الجامعي. فرغم أن الجامعة صاحبة الدور النقدي الأصيل، إلا أنها خانت وتخون ذلك الدور بشكل مرعب، ومن يقرأ قائمة بالرسائل العلمية في إحدى الكليات سوف يصاب بالذهول وقد تجتاحه موجة عارمة من الضحك، بسبب هيمنة الأسماء الضعيفة جداً وعديمة الأهمية التي تحظى بالحفاوة، أو بسبب الموضوعات الميتة أو البائسة التي يلتف حولها العمل الأكاديمي. وسوف يجد الموتى الأكثر بُعداً عن العصر الحديث هم كل شيء تقريباً. ومن يذهب إلى فرقة من فرق كليات الآداب لن يجد نسبة من يجيد قراءة وتذوق قصيدة تصل إلى 5%، ومعظم المتخرجين من كلية الآداب يودعون الآداب على باب الجامعة، وكل ذلك لأن العمل في الجامعة فقد كونه قيمة ورسالة وتحول إلى مجرد أكل عيش، كما تحولت أسوارها من مجرد بناء مادي لا أعرف من أي شيء يحرسها، إلى بناء رمزي شديد الصلابة يفصلها عن المجتمع ككل.

لماذا يبدو النقد الأدبي المغاربي أكثر توهجاً الآن؟

ـ لعل ظاهرة توهج النقد المغاربي تؤكد ما ذهبت إليه من كون أزمة النقد ترجع إلى بناء شخصية الناقد نفسه، فالمناهج النقدية والثروة المعرفية الحديثة متاحة للجميع، وعلاقة المغاربة باللغات الأخرى خاصة الفرنسية لا تبرر وحدها ذلك التوهج، والأمر في تقديري يرجع إلى خفوت الممارسة النقدية في مصر من ناحية، ومحاولة إثبات الذات المغاربية ثقافياً من ناحية أخرى، أي أن الممارسة النقدية لم تعد مجرد لقمة عيش في مناخ ثقافي فاسد ويعاني من الشيخوخة، كما هو الحال في مصر، بل وسيلة لتحقيق الذات في مناخ ثقافي شاب طموح وواعد.

وجد النقد الثقافي طريقاً على يد بعض النقاد أمثال محمد بدوي وسيد البحراوي والأخير يملك كتاباً بنفس العنوان «النقد الثقافي».. هل نحن في حاجة إلى ذلك النوع من الدراسات ولماذا تراجع؟

ـ نعم، نحن في حاجة كبيرة للنقد الثقافي، لأنه يملك القدرة على تجاوز الكثير من الحدود، وتقديم الكثير من المراجعات التي تتجاوز النظر إلى الأدب باعتباره ظاهرة شكلية، أو فنية وجمالية فقط، رغم أهمية ذلك، بل يقوم بدراسة النصوص في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي والمؤسساتي، وهذا يعني أننا تقدمنا خطوة عن البنيوية والسيميائية، ولا بد من استثمار تلك الخطوة، وقد شعرنا بوجود فتح نقدي جديد منذ كتاب عبدالله الغذامي، وتأكد بأعمال أخرى لكنها لم تتجاوز كونها مقدمة لعمل تطبيقي كبير لم يُنجز، وكأن قدرنا هو التوقف عند المقدمات، ثم الارتداد أو الانشغال بأعمال أخرى، وهذا في تقديري من أسباب الحركة الفردية، وغياب المشروع الواضح الذي يعتمد على التنظيم الجيد لا على العشوائية أوالمزاج أو الأهداف الفردية قصيرة المدى.

هل كم ما يُنشر هو السبب؟ بمعنى أن النقاد مظلومون إذا قارنا أعدادهم بالكتب الجديدة؟

ـ هناك تجارب بالغة الأهمية لم يقترب النقد منها، ولا علاقة لهذا بعدد الذين يشتغلون بالنقد. ومع ذلك فالنقاد الحقيقيون في تقديري مظلومون أيضاً، لأن عدد النقاد على المستوى النظري كبير جداً، إذا افترضنا أن شهادة الماجستير أو الدكتوراه تؤهل حاملها لممارسة النقد، أو إذا نظرنا لعدد أساتذة الجامعات، ومعظم ذلك العدد خارج الخدمة النقدية، وهناك عدد قليل جداً من النقاد الذين يتحملون أثقال الحركة النقدية، وأبرزهم وأكثرهم نشاطاً لا يعملون في الجامعة، وهو أمر غريب جدا، وكأن الجامعة تلفظ أنشط أبنائها، ولعل ذلك من حسن حظ الأدباء، وهذا العدد النقدي القليل يتعرض للأسف لعواصف كثيرة، ومنها الاهتمام بالنقد الصحفي السريع والسطحي، وباستثناء عدد قليل منهم يتعامل مع النقد باعتباره قيمة ورسالة في المقام الأول، نجد عدداً كبيراً يصاب بالفيروسات الثقافية الشائعة، أو يرضخ لضغوطها، كأن يتحول إلى عضو في شلة من شلل المصالح الثقافية الصغيرة. أو يبحث عن تحقيق ذاته بشكل خارجي من خلال التواجد بكثرة في الندوات على النحو الذي يشتته، ويحرمه من استثمار وقته في التحصيل المعرفي الدائم. أو تحويل مشروعه النقدي إلى مجرد وسيلة لأكل العيش فيتوقف اجتهاده عند الحد الذي يجلب مكافأة ما وهكذا نجد الكثير من الكتابات النقدية التي تقول نفس الكلام المكرر والممل عن أعمال إبداعية مختلفة. وفي الحقيقة يفتقد النقاد إلى الكثير من الحوافز، ومنها ضعف المطبوعات التي تهتم بالنقد، وضعف المكانة التي يمنحها لهم الأدباء مقارنة بأزمان سابقة، نظرا لوسائل التحقق والانتشار المعاصرة والسريعة بغض النظر عن موقفنا منه، هذا فضلا عن مساوئ المناخ العام التي تجعل الكثيرين يستسلمون للإحباط، أو يشفقون على أنفسهم من مشقة العمل النقدي الحقيقي، وينكفئون على حياتهم الخاصة.

هل الحل في كتابة الأدباء عن بعضهم البعض كما تفعل أنت؟

ـ كتابة الأدباء عن بعضهم نوع من مواجهة الأزمة، وهي في تقديري بالغة الأهمية بسبب المسافة الزمنية التي تفصل بين الكاتب المعاصر والدرس الأكاديمي الذي يعمل في معظمه على أعمال تنتمي لعصور أخرى، وهكذا تحاول كتابة الأدباء القيام بدور في سد الفراغ، بداية من كسر حاجز الصمت القاتل المصاحب لظهور الأعمال الإبداعية، مروراً بفتح الطرق أمام الناقد الأكاديمي الذي يخشى الخوف من المجهول، خاصة مع الكتابات غير التقليدية، وكتابة الأدباء تتميز بطابعها الإبداعي المفتقَد عند الناقد الأكاديمي غالباً، وهذا يمنحها قدرات خاصة تجعلها أقرب إلى روح النص وجوهر التجربة، لأنها تواجه المغامرة بمغامرة، ومن هنا تقدم كتابة الأدباء عن بعضهم البعض جزءاً من الحل، وتستصلح الكثير من الأرض الوعرة، وتخلق تراكمات يمكن استثمارها في بناء كبير، لكنها لا تحل المشكلة، بل لا بد من تواجد الناقد الحقيقي، الذي يمتلك ذخيرة معرفية مناسبة وينظر للنقد بوصفه قيمة ورسالة في المقام الأول.

ما الذي أضافته لك ممارسة النقد كشاعر؟

ـ النقد قراءة واعية، والشاعر قارئ في المقام الأول، وناقد في نفس الوقت، وأظن أن ممارستي النقدية ساعدتني كشاعر في النجاة من الانغلاق على نفسي، بل وجعلتني أنقلب عليها، وأراجعها وأبحث عن دروب مختلفة، وأبعد بقدر المستطاع عن تكرار تجربتي.

ألم تخش من سيطرة الحس الأكاديمي على لغتك؟

ـ في ظني لا، لأني كنت مؤمناً طول الوقت بأن دوري لا يتطابق مع دور الناقد الأكاديمي، ولأن النقد أو البحث في العلوم الاجتماعية والثقافة الشعبية، لم يكن مشروعي الأول، وأن الشاعر هو منصة انطلاقي ومحور حياتي.