أفكار وآراء

حروب الكراهية.. أشد فتكا من الإرهاب

15 يوليو 2017
15 يوليو 2017

د. عبد العاطي محمد -

بينما تتوالى المؤشرات على تحقيق انتصارات على الإرهاب الذي يقوده تنظيم «داعش»، يتصاعد في الوقت نفسه وباء آخر لا يقل خطورة على أمن واستقرار المجتمع الدولى بكل مكوناته، هو تواصل حروب الكراهية التي كنا عرفناها لأول مرة بنهاية عهد جورج بوش الابن، وأصبحت اليوم ظاهرة لم يعد يسلم منها أحد.

في الماضي القريب كان مفهوما هذا النوع الفريد من الحروب، لأن الأخطاء التي وقعت فيها الإدارات الأمريكية السابقة في حق العرب والمسلمين كانت واضحة وضوح الشمس ولم يكن لها نتائج سوى زرع بذور الكراهية تجاه السياسات الأمريكية، ووقتها للأسف لم تفهم تلك الإدارات وخاصة في عهد بوش الابن أسباب حملات الغضب التي اجتاحت المشرق والمغرب حتى كان السؤال المشترك والدائم على لسان المسؤولين الأمريكيين هو لماذا يكرهوننا؟!. ومع انتقال السلطة إلى إدارة أوباما أدرك المسؤولون السبب فراحوا يبحثون عن قنوات للتواصل والتقارب للعمل المشترك بهدف فتح صفحة جديدة بين الجانبين. ولكن جهود أوباما ضاعت هباء لأن الشرق الأوسط واجه تحديين انفجرا كالبركان في وجه الجميع على غير توقع أو حساب دقيق هما موجات الإرهاب المتتالية وصولا إلى ظهور تنظيم «داعش»، وقيام ما سمي بثورات الربيع العربي التي كانت بمثابة الزلزال السياسي الواسع المدى والعمق وتوابعه الأكثر تدميرا.

في مواجهة هذين التحديين اختلط الحابل بالنابل ولم يعد أحد لديه الاستعداد لتفهم كيف حدث كل منهما ومن المسؤول حقا عما جرى ولا كيف يمكن التأقلم مع الواقع الجديد المؤلم الذي ترتب على كل منهما. ولم تسلم الإدارة الأمريكية في عهد أوباما من نفس المشكلة أي تبادل الاتهامات بحروب الكراهية. وما عزز من ذلك هو الفشل في وضع نهاية للإرهاب الجديد من ناحية، والانكسارات والإحباطات التي ترتبت على فشل هذه الثورات في نفس الوقت من ناحية أخرى.

ولأن الحدثين كانا من الضخامة والشدة فقد امتدت تداعياتهما سريعا، وعلى غير توقع أو حساب دقيق، إلى العالم كله: الإقليم والعالم الخارجي كله، وجاءت الاستجابة مرتبكة في بعض الأحيان أو منخرطة وفاعلة في اتجاه التصعيد لا الاحتواء في أحيان أخرى بما أدى إلى أن «حروب الكراهية» أصبحت هي القاسم المشترك الأعظم في إدارة الأزمات بل والعلاقات الدولية المعتادة بين الكثير من الأطراف المعنية بهذين الحدثين وبتداعياتهما.

لقد اعتاد العالم حتى في ظل الحرب الباردة بكل ما كان فيها من مواجهات أيديولوجية وسياسية واقتصادية تفرق ولا تجمع، على أن العلاقات بين الحكومات بل أيضا بين الشعوب لا تخلو من اختلافات في الرؤى والمواقف، ويوصف ذلك أنه من طبائع الأمور بسبب تنوع الثقافات والإمكانيات والمصالح، ولكن في ظل الارتباك الذي أصاب مسار المجتمع الدولى المعاصر، ليس فقط بسبب ما جرى في الشرق الأوسط وإنما لانفجار ما عرف بثورة القوميات والصراع على كيفية قيادة العالم: أهو بالتعددية القطبية أم بالقطب الواحد تحولت الاختلافات إلى خلافات أي انتقلت إلى دائرة معقدة من الصراع وليس إلى دائرة الحلول والحوار البناء.

وليت الأمر توقف عند هذا الحد، أي التحول من الاختلاف إلى الخلاف حيث تظل هناك إمكانية للخروج بحل وسط عبر مفاوضات تسودها أجواء إيجابية لا سلبية، ولكن المؤسف، بل والمؤلم حقا أن العلاقات الدولية انتقلت إلى دائرة مدمرة سواء بقصد أو دون قصد أو الاستسلام لأمر واقع، وهي إدارة العلاقات من خلال «حروب الكراهية». في هذه الدائرة يصبح الصوت المسموع هو لشخصنة الخلافات (التي كانت في السابق مجرد اختلافات).

يصدق هذا في الحقيقة على أصحاب القرار وعلى الشعوب أيضا. فما أسهل على صاحب القرار - خاصة في ظروف معينة - أن يلجأ إلى الشعبوية أي التلاعب بالمشاعر الوطنية عند الشعوب التي تنتفض تلقائيا للدفاع عن نفسها حتى وإن كانت على خطأ!، وما أسهل على الشعوب أن تتجاوب مع النهج الشعبوي استنادا إلى أنه يعبر عنها هي في ذاتها ويحمي مصالحها .وبما أن الشخصنة أصبحت سيدة الموقف فلا حديث عن المبادئ المعتادة في أية مفاوضات لحل أي مشكلة، حيث أمامها حائط سد هو المواقف الشخصية.

المشكلة الأكبر في ظل الاستسلام لحروب الكراهية هي أن حل الأزمات أية أزمات لا فرق بين أطرافها ولا مكانها شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا، هو أن مصير الحل أصبح يخضع لما يسمى بالمعادلة الصفرية، بمعنى أن كل طرف يريد كل شيء ولا يقبل بأي شيء للطرف الآخر!. ووضع كهذا لا يتيح المجال للوساطات مهما أوتيت من قوة أن تفعل شيئا.

لم يكن مفاجئا إذن في زمان «حروب الكراهية» أن ينصرف الاهتمام بالمشكلات والأزمات الطاحنة التي تقض مضاجع عالم اليوم إلى الكيمياء الشخصية بين القيادات المعنية بهذه الأزمة أو تلك. في الماضي كان عاملا مرجحا أو مجرد عنصر مساعد في الحل،بينما اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين بكل ما يفترضه من رشد وعقلانية وموضوعية في النظر للأمور يتم النظر لهذه الكيمياء على أنها مفتاح الفرج!. هكذا على سبيل المثال للحصر كثيرا ما توقف المحللون، بل وكبريات الشبكات التلفزيونية العالمية عند غياب الكيمياء الشخصية (الإعجاب والحب المتبادل على المستوى الشخصي بين الزعامات) بين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل والرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، مما أفسد جهود الأخير للتوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

ولم يكن مفاجئا أيضا في نفس السياق اندلاع الكراهية الشديدة بين أوباما وترامب وقت أن كان الأخير مرشحا للرئاسة ولا بالطبع بينه وبين منافسته هيلاري كلينتون, وذلك في مشاهد غريبة تماما على التقاليد الديمقراطية الأمريكية، حيث وصل التراشق الانتخابي إلى حد مؤسف للغاية وكأنه تحول إلى اغتيال سياسي صريح وفج لهذا وذاك. كانت الكراهية الشخصية بينهم قد وصلت إلى حد غير مسبوق. وتأكيدا للوقوع في فخ حروب الكراهية استمرت حالة العداء الشخصي لترامب بعد فوزه. خرجت المظاهرات ضده وتوالى التشكيك في نزاهة حملته الانتخابية وجعلته شبكة سي .إن.إن هدفا لها لإسقاطه منذ اللحظة الأولى. ومن جانبه قرر مخاصمة الإعلام الأمريكي وقرر الاعتماد على تغريداته عبر تويتر كلما أراد التعبير عن موقفه من أي حدث.

ولأن مسألة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لم تهدأ وأثارت ضجيجا لا يزال مسموعا في الأوساط الأمريكية، حاول ترامب أن يتنصل مما كان قد كشف عنه خلال حملته الانتخابية من إعجاب بالرئيس الروسي بوتين ولم ينجح، ثم جاء اليقين مع قمة العشرين (الأسبوع الأول من يوليو) عندما التقى الزعيمان لمدة ساعتين متجاوزين الزمن الذي كان مقررا للقاء. عقب اللقاء خرج تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي ليقول إن الكيمياء الشخصية بين الرجلين كانت إيجابية!. نفس الكيمياء هذه تقف حجر عثرة في علاقات الولايات المتحدة مع أقرب حلفائها الغربيين كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، حتى أن المراقبين يجهدون أنفسهم في البحث عن إشارة هنا أو ابتسامة هناك قد تفتح الطريق لهذا الحل السحري المسمى بالكيمياء الشخصية، والذي لم يأخذ كل هذا الاهتمام إلا بسبب الوباء الجديد الذي أصاب المجتمع الدولي كله تحت مسمى «حروب الكراهية».

كانت حروب الكراهية فرعا في الخلاف بين العالم العربي والإسلامي والولايات المتحدة وذلك في زمن بعينه وظروف بعينها لم تعد قائمة على هذا النحو بالضبط في الوقت الراهن، وكان من المفترض أن يطويها النسيان خصوصا مع الجهود التي بذلت من الجانبين لتجاوزها وبناء شراكة مفيدة لكل منهما، ولكنها اليوم خرجت عن هذا النطاق وامتدت لمختلف العلاقات بين الدول كبيرها وصغيرها، المتقدم والناشئ، ولم تعد فرعا بل أصلا في مسيرة المجتمع الدولى. ومن يتأمل حال العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة وبين الأخيرة وحلفائها الأوروبيين، وداخل الاتحاد الأوروبى، وبين الصين والولايات المتحدة وبين الأخيرة وكوريا الشمالية التي وصلت لغة الحوار غير المباشر بينهما إلى حد الإهانات الشخصية، من يتأمل كل هذا لا يرى له سببا سوى الاستسلام لحروب الكراهية التي باتت تتحول إلى نوع جديد من الحروب القديمة المعروفة ولكن بأسلوب مختلف.

هذا الوضع يفتك بالمجتمع الدولي بأكثر مما فعله الإرهاب الذي يتردد أنه بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة. الإرهاب كانت له قوى معينة جرى تحديدها وضربها وكانت له مواقعه الجغرافية ثم وبرغم كل المآسي التي ترتبت عليه كان له تشخيص وسقف وحدود وجبهة عالمية مضادة تعاونت للقضاء عليه، بينما حروب الكراهية تقضي على الثقة بين أعضاء المجتمع الدولي وتدمر المصالح المتبادلة وتقصي الحوار تماما من جهد يبذل لحل أزمة ما وتشجع على الحلول الصفرية بكل ما ترتبه من ميراث ممتد للكراهية، وتهدم العلاقات الإنسانية المستقرة بين الشعوب، هي بذلك أشد فتكا من الإرهاب.