أفكار وآراء

الأمريكيون .. وانسحاب ترامب من اتفاقية المناخ

15 يوليو 2017
15 يوليو 2017

د.صلاح أبونار -

في الأول من يونيو وقف ترامب معلنا قرار الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ليجد نفسه في مواجهة عاصفة عالمية وداخلية عاتية.

ولم يكن في الأمر مفاجأة برغم تصريحه بعد زيارته لباريس قبل ايام من انه قد يحدث شيء ما بالنسبة لهذا الامر ، الذي لم يتضح ما يمكن ان يكون عليه . على أية حال فإن ترامب لمس في اجتماعات القمة التي جمعته مع قادة اوروبيين وغيرهم ، وبشكل مباشر، مدى عمق الرفض لموقفه. وخلال مقابلته لبابا روما حثه البابا على البقاء، وأهداه كتابا عن التلوث المناخي مطالبا قراءته. وداخليا لم يكن هناك أي وهم بشأن قوة المعارضة المنتظرة لقرار الانسحاب من الاتفاقية .

كانت اللغة السائدة على الخطاب عاطفية، داخلها سيطرت الحجج الافتصادية وتراجعت الحجج العلمية. خلال حملته الانتخابية، لم تتخط حججه العلمية عبارات من نمط «التغير المناخي خدعه اخترعها الصينيون»، و«المخادعون المروجون لفكره الاحترار العالمي من اجل تبرير الضرائب.»

وكان من شأن تكرارها أن يضعه، في تناقض مع حقائق تحظى باتفاق علمي، وصراع مع توافق عالمي على خطورة التغير المناخي. وهكذا تقدمت الحجج الاقتصادية لتحتل الصدارة.ولكن الحجة العلمية المنكرة لحقيقة التغير المناخي، كانت حاضرة في خلفية الخطاب الاقتصادي. حاضرة عبر الآراء المتداولة، لبعض اركان ادارته رافضي فكره التغير المناخي، مثل سكوت برويت مدير وكالة حماية البيئة، وستيفن بانون مستشاره الاستراتيجي. وعبر آراء تكتلات النواب والسيناتورات الجمهوريين. وعبر خطاب قطاعات من صناعات الطاقة التقليدية، مباشرة او عبر مراكزه العلمية الوسيطة. وعبر آراء منظمات رأسمالية نقابية،مثل غرفة التجاره الامريكية والمجلس الامريكي لتكوين رأس المال.وعبر آراء مراكز بحثية كبيرة مستقلة لكنها محافظة، مثل معهد المشروع التنافسي ومعهد البترول الامريكي.

وداخل الخطاب الاقتصادي سيطرت فكرتان : عبء سياسات اوباما الخضراء على الميزانية الفيدرالية، والخسائر المستقبلية الناجمة عن تقلص استثمارات صناعات الطاقة الاحفورية، المقدرة في عام 2040 بثلاثة تريليونات دولار من الناتج القومي الامريكي و6.5 مليون وظيفة.

لم يسيطر الاقتصاد فقط على الخطاب، بل سيطر ايضا على مداولات الإدارة الصانعة للقرار. نوه سكوت برويت:« في كل مناقشات الادارة، لم نتعرض اطلاقا لآراء ترامب العلمية حول البيئة، وركزنا حصرا على قضية اذا كان الاتفاق جيدا لأمريكا أم لا، وهذا كل ماناقشناه».

وفي معرض تفسير سيطرة التوجة الاقتصادي، اشار ديفيد بروكس في مقالة في نيويورك تايمز،الى مقالة لمكماستر وكوهن وهما من كبار مستشاري ترامب كتباها في وول ستريت جورنال، جاء فيها:«شرع الرئيس في رحلته الخارجية الاولى، محملا برؤية واضحة ترى العالم ليس مجتمعا عالميا، بل مكانا تشتبك فيه الامم والفاعلون غير الحكوميين والمشاريع الاقتصادية، وتتنافس لتحقيق المنفعة.» ثم علق:« هذه الجملة هي شعار مشروع ترامب،وتؤكد ان الأنانية هي المحرك الوحيد للشؤون الإنسانية، وتنبع من رؤيته للحياة كصراع تنافسي من أجل الكسب، وتنطوي على أن المجتمعات المتعاونة، مجرد غطاء لمناورات أنانية تكمن في الأعماق.» واستطرد أن المقالة تصف المحيطين بترامب:« كشكاكين في اي ترتيبات تعاونية مثل الناتو والاتفاقيات التجارية،وتساعدنا على فهم دافعه للانسحاب.»

وفي كل الاحوال لم تتمكن حجج ترامب بشقيها، من السيطرة على الرأي العام الامريكي . في استبيان لبرنامج جامعة ييل للإعلام المناخي 2016، عبر 70% عن اقتناعهم بحقيقة الاحترار العالمي،ورفض 30%.واقر 53% بمسؤولية الانسان عنه، ورده 32% إلى العوامل الطبيعية. وذكر 49% أن اغلب العلماء يعتقدون بوجود الاحترار،ونفى 28% ذلك. وعبر 71% عن ثقتهم فيما يقوله العلماء، وتشكك 26% . وفيما يتعلق بسياسات الدولة الواجبة، طالب 82% بتمويل ابحاث الطاقة المتجددة،و75% بتنظيم الانبعاثات،و69% بوضع قيود على مصانع الطاقة الفحمية.

وفي استطلاع اجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية:10-27 يونيو 2016، قال 71% بضرورة استمرار امريكا في اتفاقية باريس، منهم 87%ديمقراطيون و 57% جمهوريون . وذكر 41% ان التغير المناخي مشكلة خطيرة ينبغي مواجهتها حتى لوكانت تكلفة المواجهة عالية، 62% منهم ديمقراطيون و19% جمهوريون.

وفي استطلاع ثان لبرنامج جامعة ييل:18 نوفمبر -1 ديسمبر 2016،وافق 69%على الاستمرار في الاتفاقية. منهم 86% ديمقراطيون،و51% جمهوريون. ووافق 66% على ضرورة عمل امريكا لتخفيض الانبعاثات بمعزل عما تفعله الدول الاخرى، منهم 79% ديمقراطيون،و51% جمهوريون،و56% مستقلون. ورأى 50% أن الاحترار العالمي، يجب ان يشكل اولوية للرئيس أو الكونجرس،منهم 74% ديمقراطيون و38% جمهوريون.

وفي فبراير 2017 اجري بحث على عينة صوتت لترامب ، فطالب47% بالاستمرار في الاتفاقية، و 27% بالانسحاب.واقر 49% بحقيقة الاحترار العالمي،وانكره 30%. وطالب 52% بإلغاء كل دعم فيدرالي لصناعات الطاقه الاحفورية، و48% بدفعها لضريبة توجه لتخفيض الانبعاثات، و73% بضرورة استخدام المزيد من الطاقه المتجددة.

وفي استبيان اجرته هوفبوست 15-17 مايو 2017،طالب 61% بضرورة البقاء في الاتفاقية،و17% بالانسحاب.وأيد 59% ارتباط التغير المناخي بالوقود الاحفوري، ورفض 21% ارتباطه بالنشاط الانساني.وقال 51% أن امريكا يجب ان تمارس دورا قياديا في قضية المناخ،وفضل 22% دورا هامشيا.

في 4 و5 يونيو 2017 اجرت واشنطن بوست استبيانا في اعقاب اعلان الانسحاب. وفيه رفض 57% الانسحاب، 82% ديمقراطيون و25% جمهوريون،وايده 28% كان 67% جمهوريين .ورأى42% ان الانسحاب سيضر بالاقتصاد، و32% انه سيفيده،وبينما رأت غالبية الديمقراطيين ضرر الانسحاب، رأى 73% من الجمهوريين فائدته.

تخبرنا ارقام الاستبيانات بعدة حقائق. اولها: ايمان اغلبية الامريكيين بخطورة الاحترار ومسؤولية الانسان عنه. وثانيها: رفض اغلبيتهم الانسحاب ، بنسب اقصاها 71% وادناها 59%.وثالثها: الديمقراطيون بالمقارنة بالجمهوريون، اوسع تأييدا للبقاء في الاتفاقية،واكثر اقتناعا بمسؤولية الانسان عن الاحترار. ورابعها:الرفض الجمهوري للانسحاب ليس هامشيا، ففي استبيان شيكاغو عارضه 57% منهم،وفي استبيان ييل عارضه 51% منهم، وفي استبيان العينة المصوتة لترامب 47% منهم. وهكذا نستنتج ان مقدمات رفض الرأي العام الامريكي للانسحاب، كانت حاضرة بقوة على مدى عام قبل القرار. فلماذا إذن ظهر الموقف الامريكي الداخلي وقتها عاصفا مفاجئا؟ سنجد التفسير في التدفقات القوية والطموحة التي تولدت في مواجهة القرار.

بدت ظواهر الاحتجاج الحركي على امتداد امريكا قوية ولافتة.واعلن المسؤولون على امتداد البلاد، ومنهم عمدتا نبويورك وبوسطن، احتجاجهم على الانسحاب، بإنارة العديد من المنشآت باللون الاخضر. ورافق ذلك ارسال خطاب مفتوح إلى الرئيس، موقع من جانب 61 عمدة مدينة، يعلنون فيه التزامهم بمبادئ الاتفاقية،جاء فيه:« العالم لايمكنه أن ينتظر،ولا نحن سوف ننتظر.» وكان الأهم من هذا الاحتجاج الرمزي والخطابي، التطور الذي اتخذته الحركة في اتجاهين مترابطين.

جاء الاول بمبادرة من حكام كاليفورنيا ونيويورك وواشنطن،واستهدف تكوين تحالف واسع بين المدن الامريكية، هدفه تنظيم حركتها في مجال المناخ،والاطلاع بالمهام التي تخلى عنها ترامب بانسحابه.

وسعى الثاني لتكوين كيان اعتباري، يتولي التفاوض مع الأمم المتحدة كطرف في الاتفاقية، ليأخذ على عاتقه الالتزامات الامريكية.وحتى الآن، تتكون المجموعة من 30 عمدة وثلاثة حكام وأكثر من 80 رئيس جامعة وأكثر من مائة شركة. ويظهر مايكل بلومبيرج عمدة نيويوك السابق كأبرز قادتها. وفي خطاب وجهه لسكرتير الامم المتحدة، جاء:» بينما السلطة التنفيذية لبلدنا تتحدث نيابة عن الأمة في امور السياسة، لايحدد هذا كليا كيفية قيامنا بواجباتنا تجاة الاتفاقية. ونثق أن الكيانات غير القومية، يمكنها أن تتقدم وتحقق اهداف 2025 وحدها .وغالبية القرارات الموجهه لحركة دولتنا هنا، تقوم بها المدن والولايات والشركات والمحتمع المدني. ويلتزم هؤلاء جماعيا باحكام الاتفاقية.» وليس من الواضح كيف سيتم هذا،لأن الاتفاقية ليس بها آلية لتنظيم مشاركه غير الدول.ولكن من المؤكد ان هناك ترحيبا من بعض الدول الكبرى، سيمهد لظهور مسعى داخلي لوضع الآلية المفقودة.