أفكار وآراء

ترامب في وارسو - تدشين العالميـة القومية

14 يوليو 2017
14 يوليو 2017

ستيوارت باتريك - ترجمة قاسم مكي -

مجلس العلاقات الخارجية -

في خطابه المهم ببولندا مؤخرا، تعهد دونالد ترامب بأن الولايات المتحدة ستعمل مع حلفائها للدفاع عن «الحضارة الغربية» ضد «مهددات تتوعد أمننا وطريقة حياتنا»، وحيا الرئيس الأمريكي، الذي كان يتحدث أمام نصب شهداء انتفاضة وارسو، البولنديين لمثابرتهم في الدفاع عن تحررهم الوطني وحريتهم الدينية رغم عقود القهر، وقال أن الوقفات الشجاعة لبولندا ضد النازية والشيوعية يجب أن تلهم الغرب في حربه ضد خطرين هما بالتحديد «التطرف الأصولي للإسلاميين» ثم «الزحف الذي لا هوادة فيه للبيروقراطية الحكومية» ولابد أن ترامب قد سعد باستقباله البهيج الذي تخللته هتافات تلقائية باسمه، كما من المؤكد أن ثمة أشياء وردت في الخطاب تستحق الإطراء، فبعد شهور من وصف ترامب للناتو بأنه «حلف» فات أوانه، بارك أخيرا البند الخامس من معاهدة حلف شمال الأطلسي ووصف ضمان الأمن بأنه في متانة الحديد، واقترح مواءمة الحلف لمحاربة «أشكال العدوان الجديدة بما في ذلك الدعاية والجرائم المالية وحرب الإنترنت» كما أبدى أيضا تشددا مقبولا تجاه روسيا ودعاتها «للكف عن أنشطتها المقوضة للاستقرار في أوكرانيا وسواها ودعمها للأنظمة المعادية بما في ذلك في سوريا وغيرها»، ولكن الأجزاء الأخرى من خطابه كانت مزعجة ومحيرة، فقد ضخم مرة أخرى خطر الإرهاب العابر للحدود وتحدث عن عنف المتطرفين الإسلاميين الجهاديين كمهدد وجودي للغرب مساو للمهددات السابقة من ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي. فقد صرح بقوله «نحن مواجهون بأيديولوجية مستبدة أخرى .. تسعى إلى تصدير الإرهاب والتطرف إلى كل أنحاء العالم»، خطأ ترامب أنه صدق ترهات المتطرفين الإسلاميين بأن دولتهم العالمية في متناول اليد، لقد ادعى الرئيس أن « هذا الخطر.... يهدد البشرية كلها»، وهو بمبالغته في تقدير القدرات العابرة للحدود لأمثال داعش والقاعدة، يجعل من «شوشرة» أمنية موضوعا إستراتيجيا للولايات المتحدة وحلفائها، وبتركيزه جهود محاربة الإرهاب على  أمن الحدود والهجرة، يتجاهل ترامب الطبيعة المحلية لهجمات إرهابية عديدة وقعت مؤخرا في أوروبا والولايات المتحدة، بل ماهو أكثر غرابة، بالنظر إلى تصريحات ترامب السابقة، اكتشافه المفاجئ واستدعاؤه في خطابه لمفاهيم جليلة مثل «الغرب والقيم الغربية وجماعة الأمم» إن أقسى إدانة توجه لسياسة ترامب الخارجية حتى الآن هي إتباعه لسياسة تبادل منافع غير مبالية بالنظام العالمي، فهو، باختياره التعامل الأحادي مع البلدان الأخرى، قوض أسس النظام العالمي الليبرالي المحكوم بالقواعد وتخلى عن أي مسعى للتضامن الغربي على أساس تعزيز القيم المشتركة مثل الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، لقد كانت تلك السياسة واضحة تماما خلال رحلة ترامب السابقة إلى أوروبا بما في ذلك في أثناء اجتماعاته الكارثية في مايو مع الحلفاء في الناتو والشركاء في مجموعة السبعة، وعقب تلك الجولة المفجعة، سعى مستشاراه للأمن القومي مكماستر والاقتصادي جاري كون لتبرير هذه المقاربة «مقاربة المنافسة الطاحنة» للشؤون الدولية في مقال انتقد على نطاق واسع بصحيفة وول ستريت جورنال. لقد مدحا نظرة ترامب إلى العالم ليس «كجماعة دولية» ولكن كملعب متوحش تتنافس فيه البلدان من أجل النفوذ وأن وظيفة الصداقة تقتصر على (خدمة) المصالح المشتركة. وفي نفس الشهر الماضي، ألقى وزير الخارجية ريكس تيلرسون خطابا عمليا وحازما ذكر فيه أن إستراتيجية «أمريكا أولا « تتطلب  التمييز بين « القيم» الأمريكية «وسياسة» الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن المصالح الملموسة للولايات المتحدة فقط هي التي تشكل أساس تلك السياسة. لذلك كان من المفاجئ، بالنظر إلى كل هذا، سماع ترامب وهو يقول في حماس « لا يوجد مثيل لجماعة بلداننا»، كما تحدث عن «الروابط التي لا تقدر بثمن ... الجامعة بيننا كبلدان وكحلفاء وكحضارة»، وشملت هذه القناعات التزاما تجاه «كرامة كل حياة بشرية وحماية حقوق كل شخص ومشاطرة كل نفس أملها في أن تعيش حرة». وفي عبارة تردد أصداء لغة كل من جورج دبليو بوش وباراك أوباما، عبر ترامب عن الأمل في أن تنضم روسيا يوما ما «إلى جماعة البلدان المسؤولة»، وأغرب ما جاء في خطاب ترامب كان تحذيره بأن الغرب يواجه تهديدا داخليا لحريته مختلفا عن أفعال القوى المعادية أو مكائد الشبكات الإرهابية، (يتمثل هذا التهديد) في التآكل التدريجي للحرية على يد الدولة الحديثة نفسها، يقول «على جانبي الأطلنطي يواجه مواطنونا خطرا آخر. وهو خطر يوجد ضمن نطاق سيطرتنا، هذا الخطر خفي للبعض ومعهود للبولنديين، إنه الزحف المنتظم للبيروقراطية الحكومية ... الذي  يمتص حيوية وثروة الشعب، لقد صار الغرب عظيما ليس بسبب الأعمال المكتبية الروتينية والنظم الإجرائية ولكن لتمكينه الناس من السعي إلى تحقيق أحلامهم وتقرير مصائرهم»، تحمل هذه المقاطع من خطاب ترامب كل بصمات ستيف بانون، قومجي اليمين البديل والمنظر الإستراتيجي الأول للبيت الأبيض وستيفن ميلر، مستشار ترامب للسياسات، لقد تعاون الاثنان في إعداد خطاب «مذبحة» تنصيب ترامب وذكرا مرارا أن هدفهما الأساسي في السياسة الداخلية هو«تفكيك الدولة الإدارية» الذي يريان أنها مَدَّت قرون استشعارها إلى كل جوانب الحياة الأمريكية تقريبا، مما يقوِّض حرية الفرد، لقد ربط ترامب تحذيراته حول المهددات البيروقراطية من الداخل بإشارات عديدة «للسيادة الوطنية» كأساس صلب يشكل الشرط المسبق لحرية الفرد، ففي النظرة الترامبية للعالم يمكن للدول الوطنية المستقلة ضم صفوفها (بل حتى تشكيل تحالفات) لخدمة أهدافها المشتركة، ولكن يجب عليها (في هذه الحال) تجنب أية تعدِّيات على اختصاصاتها وتقاليدها وثقافاتها الوطنية، بما في ذلك الدفاع عن  حدودها، ليس من باب المصادفة أن ترامب اختار إرسال رسالته من بولندا التي كانت حكومتها اليمينية من بين أشد المتشككين في الجوانب فوق الوطنية للاتحاد الأوروبي (وهو كيان انتقده ترامب نفسه) والتي يقاوم مجتمعها المتجانس تدفقات الهجرة الواسعة النطاق، سواء الشرعية أو غير الشرعية. يساعدنا هذا السياق في تفسير إدراج الأفكار الوطنية في خطاب ترامب بما في ذلك هذا المقطع اللافت التالي «يثمِّن الأمريكيون والبولنديون وشعوب أوروبا الحرية والسيادة، علينا العمل معا لمواجهة تلك القوى، سواء جاءت من الداخل أو الخارج، من الجنوب أو الشمال، التي تهدد بمرور الزمن بتقويض هذه القيم ومحو روابط الثقافة والمعتقد والتقاليد التي تشكل هويتنا. إذا لم يتم التصدي لهذه القوي فستقضي على شجاعتنا وتوهن روحنا وتضعف إرادتنا في الدفاع عن أنفسنا ومجتمعنا» في وارسو، كان ترامب في الواقع يحاول تربيع الدائرة «عمل المستحيل» بالتوفيق بين ميوله الفطرية المحبذة للسيادة وواجب التعاون الدولي، وبعد أن رفض عالمية المحافظين الجدد (جورج دبليو بوش) والعالمية الليبرالية (باراك أوباما)، يبدو أنه يتحسس طريقه إلى شيء جديد، دعونا نسمي ذلك الشيء الجديد «العالمية القومية».