أفكار وآراء

التطرف .. مناخاته وأدواته

09 يوليو 2017
09 يوليو 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

أستحضر في مستهل هذه المناقشة مقولة: «الفضيلة بين طرفين؛ كلاهما رذيلة» وهذه الصورة تنطبق على كل أفعالنا، وأقوالنا في هذه الحياة، فما من قول، أو فعل نقوم به؛ تفضي المبالغة فيه: نقصانا، أو زيادة إلى التطرف، فالتطرف هنا لا يبدو أنه مرتبط بسياق محدد في هذه الحياة، كالتسميات التي نسمعها ونعيشها اليوم، والمتمركزة فقط على التطرف السياسي، والتطرف الديني، فهناك التطرف الثقافي، والتطرف الاجتماعي - على سبيل المثال - فكل حياتنا قائمة على هذه الصورة مفردة ومعنى، وإن لم يستوعبها الناس، أو يستحضرونها كمفهوم؛ وهم يمارسون كل أفعالهم بلا استثناء، وإذا كان التطرف السياسي أو الديني على وجه الخصوص هما المفهومان الشائعان اليوم، أكثر من أي وقت مضى، فذلك عائد إلى كم الإساءة التي تحدث اليوم، ونتائجها المؤلمة والمخيفة في آن واحد، ولذلك يأخذ المفهوم في شقيه: السياسي والديني هذا البعد الكبير من الاهتمام المحوري لدى عامة الجمهور، يضاف إلى ذلك دور الإعلام في إعطاء المفهومين بعدا أكبر من حيث الأهمية، جراء ما تبثه الآلة الإعلامية من أحداث ووقائع هنا وهناك من مختلف قارات العالم اليوم، وتنسب غالبا إلى مفهومي السياسي والديني.

يمارس الإنسان أفعال التطرف في أمور حياته اليومية أحيانا ، وهي ممارسة تعود به منذ بدء الخليقة الأولى على يدي ابني آدم عليه السلام، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، واستمرأت الإنسانية منذ ذلك التاريخ هذه الفعل الـ«الفوقي» وحتى هذه اللحظة في عمرها، وكل التجارب والخبرات التي مرت بها الإنسانية، والتي من المفترض أن تروض شيئا من قناعاتها ومن سلوكياتها، ومن ممارساتها المتطرفة، ولكن هيهات، فالفطرة الإنسانية مجبولة في الأصل على السلوك الميال إلى التطرف في تنفيذه أو إبدائه أو توظيفه، شعر الواحد منا بذلك أو لم يشعر، استحضره كمفهوم «التطرف» أو لم يستحضره، فهو واقع نمارسه في كل مناخات حياتنا اليومية في أحيان غير قليلة ، ولعل المراوحة التي تكون في التوسط كحال المقولة السابقة: «الفضيلة بين طرفين؛ كلاهما رذيلة» هي التي تخفف، أو تلهي بمعنى أصح عن استحضار مفهوم التطرف في الحياة العامة اليومية التي يمارسها الناس كسلوك عادي لا يثير أية شبهة نحو هذا المفهوم المخيف الـ«تطرف».

كم من مرة سمعنا ورأينا أبا يضرب طفله إلى حد الهلاك، ولعل الصورة الحاضرة أمام ناظري الآن، تلك الصورة التي ظل فيها والد أحد الأطفال يوخز ولده بسلك كهربائي حتى أصيب الطفل بشلل حركي، والسبب أن هذا الطفل أحدث خدشا في سيارة أبيه الفارهة، وكم سمعنا من زوج يضرب زوجته حتى تسيل الدماء على وجهها ومفاصل جسمها، لأنه ربما أساءت من غير قصد إلى هذا الزوج المتغطرس، وهناك عشرات القضايا معروضة على منصات المحاكم اليوم من هذا النوع، وكم رأينا وسمعنا عن آخر يضرب حيوانا أليفا حتى الإعياء، لأن هذه الحيوان أظهر سلوكا لا يقبله صاحبه، وكم رأينا وعايشنا أسرا بأكملها تناوئ الأخرى العداء المطلق، مع محاولات كثيرة من أهل الخير للصلح بينهما، عداء يصل إلى المواجهة العنيفة، ولو باستخدام العنف لإنهاء الطرف الآخر، كل ذلك بسبب خلاف أسري بسيط، أو تنازع على أمر تافه من أمور الحياة الفانية، ولذلك تشتتت أسر وتركت أوطانها بسبب ذلك، وكم رأينا وسمعنا عن علاقات جوار سواء على مستوى الحي الواحد، أو على مستوى البلدان المتجاورة وصل الاختلاف بينهما أو العداء المفتعل إلى التقاتل، وفي تجربتنا المحلية كثيرا ما نمر على مقابر قديمة ما بين القرى، وعندما سألنا عنها كبار السن، قالوا لنا: إن هذه المقابر لأناس اقتتلوا فيما بينهم لأمر ما ، فأضحت القبور شاهد عصر على مستوى التطرف الدفين الذي اجتمع في نفوس الفريقين المتقاتلين.

يأتي الانتصار للذات في مقدمة تبني التطرف من أي طرفين يواجهان بعضهما بعضا، هذه الذات التي تتعالى لفرض هيمنتها على الآخر في مختلف شؤون الحياة اليومية، كل ذلك لإظهار التميز، وإظهار التفوق، وإظهار الوجاهة، وتزدهر هذه الصورة الذاتية أكثر عند الأنفس القلقة المرتبكة التي تخاف على مصيرها أكثر، أو تلك النفوس التي لا تعيش توازنا شعوريا متحققا من منبتها، والمنبت هنا الأصل، لأن القلق لا يساور إلا الأنفس المتطرفة عن أصلها - هذا في أغلب الأحوال - فالذاتية في تطرفها تظل حالة مكتسبة، أما في هدوئها واستقرارها فتنحو نحو منبتها الأصيل وهي الفطرة، ولذلك من يحمل المكتسب المعرفي، على سبيل المثال، في ترويض الأنفس، وتوظيفها لخدمة الاستقرار والسلام، فهذا فكر يحتاج إلى مراجعة، نعم المكتسب العلمي، وأقصد به الشهادة العلمية، أو مكتسب الحياة، وأقصد به الخبرات المتراكمة، هذه في مجموعها لا تخرج عن الفطرة الخلقية التي عليها النفس الإنسانية عند فلان من الناس، أو عند آخر، وإنما تطرح بدائل مختارة وتعرضها على صاحبها، وهي البدائل التي لا تخرج عن سياق الإساءة، في حالة أن نفس هذا الفرد مسيئة، ولا تخرج عن سياق الإحسان، في حالة أن نفس هذا الفرد محسنة، والحياة مليئة بالأمثلة في هذا الجانب، وما مجموعة التناقضات التي نراها في الذين نتعامل معهم يوميا إلا أدلة قطعية على هذا التقييم الذي أضعه هنا في هذه المناقشة، ولذلك فمجموعة التطرف في الأفكار، وفي الآراء، وفي التعاملات، وما أكثرها، هي ما تبديها الذوات في سبيل ترسيخ أقدامها بين مجموعة الذوات التي تشترك معها، وتتقاسم معها مناخات الحياة اليومية، إلا أن أضخمها إساءة تلك التي تتبناها الدول ضد بعضها بعضا، والأقوام ضد بعضها بعضا، وهي التي تخضع فيها: الجغرافيا، والدين، واللغة، والتاريخ، والثقافات، والإيمان بالمعتقد، والعادات والتقاليد، والخصوصية المجتمعية، والمعرفة، حيث تجير هذه الوسائل كأدوات لضرب الطرف الآخر، وعادة ما يكون الطرف المعتدى عليه ضعيفا، بينما يوظف الطرف الأقوى هذه الأدوات للتوغل أكثر لإحداث انشقاقات وإرباكات، الغاية الكبرى من كل ذلك إيجاد حال من عدم الاستقرار، لتحقيق مكاسب مادية ومعنوية، وتظل الحالة تراوح نفسها إلا أن تحدث زلزلة تقوض هذه الحالة المستقرة، والتي، غالبا، ما تغلي تحت نار هادئة. أما أقسى حالات التطرف فهي تلك التي تنتمي إلى الهويات في المجتمع الواحد، وقسوتها عندما يتكور فريق هوية ما؛ ويتموضع على هويته، حيث يتطرف في التعامل مع الآخر من هويات أخرى، وهذه الهوية قد يمثلها الدين، أو المذهب أو القبيلة، او الفخيذة، أو الأسرة، أو حالتي الفقر والغنى، أو هوية النوع الإنساني (المرأة والرجل)، لأن هذه الصور الصغيرة، في حالة تشابكاتها في المجتمع، هي التي تقوض اللحمة الاجتماعية في أي مجتمع عندما تخضع لمصالح ذاتية أصحابها فقط، ولذلك فأي مجتمع تبدأ فيه هذه الفتافيت الصغيرة حركتها غير المعهودة، يقال لهذا المجتمع «على الدنيا السلام». أختم هنا بقول الدكتور إسماعيل سراج الدين رئيس مكتبة الإسكندرية السابق ومؤلف كتاب: التحدي (رؤية ثقافية لمجابهة التطرف والعنف) وهو قول لا يخرج عن سياق المناقشة التي طرحت طوال فقرات هذا الموضوع المهم والحساس في نفس الوقت، والذي يقول ما نصه: «من الأهمية بمكان تنمية الهويات المحلية، مثل الإحساس بالروابط مع جيراننا وأبناء حينا فذلك شرط أساسي لخلق إحساس جمعي وشعور بالمسؤولية تجاه هذا المجتمع وصيانته، وتحسين ظروفه، والدفاع عنه ضد اعتداءات الآخرين من خارجه، على أن يكون هذا في إطار الانتماء الأكبر للدولة، وهويتها».