أفكار وآراء

كيان لا دولة.. هذا ما تريده إسرائيل للفلسطينيين !

08 يوليو 2017
08 يوليو 2017

د.عبد العاطي محمد -

وسط حالة الانقسام والتردي التي تمر بها المنطقة العربية، سربت الصحافة الإسرائيلية قنبلة سياسية من العيار الثقيل من شأنها إسدال الستار على القضية الفلسطينية نهائيا وبمباركة عربية هذه المرة، وذلك وفقا لما نشرته صحيفة جيروزاليم بوست بنهاية يونيو الماضي. ولأن المنطقة أضحت مشغولة بمستجدات لا تتوقف ضمن معاركها الثنائية والمتعددة الأطراف، فإن ما تردد عن وجود مبادرة إسرائيلية للسلام مر مرور الكرام دون أن يحرك ساكنا من الجامعة العربية برغم الألغام التي تحملها من البداية إلى النهاية. 

المبادرة التي كشفت عنها الصحيفة الإسرائيلية جاءت بعض تفاصيلها على لسان عدد من أعضاء الحكومة بما يعنى أنها تمثل رؤية إسرائيلية رسمية وليست مجرد تكهنات أو تحليلات صحفية. وتأكيدا لرسميتها كان من المقرر عرضها على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الزيارة التي قام بها إلى الشرق الأوسط كأول رحلة خارجية له، وأحدثت ما أحدثته من زلازل سياسية في منطقة كانت قد دخلت بامتياز حقل الزلازل السياسية العالمية منذ 6 سنوات على الأقل. ولكن المسؤولين الإسرائيليين وكذلك المرافقين لترامب رأوا تأجيل إعلانها لحين نضوج أكبر للظروف الراهنة يجرى تفعيله، بما لا يسمح للرئيس ترامب بمباشرة بعض الضغوط على إسرائيل لتعديل هذه الرؤية. ومع اتضاح مستجدات في المشهد الشرق أوسطى تلاحقت بعد زيارة ترامب تأكد للمسؤولين الإسرائيليين أنهم كانوا على صواب في التأجيل، فالقادم من وجهة نظرهم يعمل لصالح المبادرة الملغومة لا ضدها.

وقد جاءت المبادرة للبناء على ما صدر من ترامب عندما استقبل نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل ضمن من استقبلهم في الأيام الأولى لولايته وكان من بينهم قادة عرب معنيون بالنزاع العربي الإسرائيلي. وقتها صدم ترامب العرب جميعا عندما قال إنه لا يحبذ حل الدولتين، على خلاف كل من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين منذ مؤتمر مدريد للسلام 1991، وأنه يفضل البحث عن مسار آخر لأن الأول استنفد كل محاولات تفعيله دون جدوى في نهاية المطاف حسب تقديره. ومع أن ترامب وفريقه لم يقدموا تصورا للبديل الذي يتحدث عنه ترامب، إلا أنه في الحقيقة أعطى لإسرائيل الضوء الأخضر لسحب يديها من حل الدولتين، وترك لها المجال أن تطرح ما تشاء من بدائل أخرى. وزاد على ذلك إشاراته ذات المعنى إلى أنه من الضروري أن يكون هناك حل شامل يشمل العرب والإسرائيليين وليس المسار الثنائي المعتاد أي المفاوضات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي هذا السياق جاءت الإشارة إلى ما أطلق عليه صفقة القرن. وقتها احتار المحللون في تفسير هذا التعبير وهل هو متعلق بالقضية الفلسطينية باعتبارها أم القضايا في المنطقة أم بشيء آخر في ذهن ترامب يتعلق بإعادة تشكيل التحالفات الأمريكية العربية. ولأن الصحافة الإسرائيلية اعتادت إلا تخفي شيئا، فإنها منذ الأيام الأولى لترامب بدأت تتحدث عن أن المقصود بصفقة القرن هو وضع حل نهائي بين العرب والإسرائيليين للنزاع القائم منذ 1948، الفلسطينيون لن يعودوا الطرف الأساسي والمباشر فيه وإنما الدول العربية المعنية، وهو ما أطلق عليه الحل الشامل والمتعدد الأطراف كبديل للحل الثنائي.

وقتها ذهب محللون عرب وفلسطينيون إلى أن النيات الأمريكية في عهد ترامب لا تسقط حق الفلسطينيين في أن تكون لهم دولة من حيث المبدأ ولكن يمكن استدعاء تصورات قديمة قدم الصراع منذ عام 1948 تحقق هذا الغرض بعيدا عن المفاوضات الثنائية الماراثونية التي أجهضتها إسرائيل كلها على مختلف حكوماتها عمالية كانت أم ليكودية. وفي هذا الإطار جرى طرح احتمال العمل بحل الدولة العلمانية الواحدة حيث تكون فلسطين للجميع يهودا وعربا بحقوق واحدة، كما تم طرح حل الدولة ثنائية القومية بمعنى دولة إسرائيلية تجمع شعبين على أرض واحدة، ففي النهاية هناك دولة فلسطينية ولكن لديها معاهدة في تنظيم علاقات السيادة فيما بينهما. إلا أن كل هذه التصورات وغيرها، تم وضعها جانبا سواء من خلال التأكيد من جانب السلطة الفلسطينية على التمسك بحل الدولتين وهو الموقف الذي أعادت الجامعة العربية التأكيد عليه أيضا، أو بتوضيح عدم جدوى الحلول الأخرى السالف الإشارة إليها، فلا الدولة العلمانية ممكنة في ظل الإصرار الإسرائيلي على يهودية الدولة العبرية، والحل الثنائي القومية لون من ألوان التفرقة العنصرية أو (الأبارتيهيد) المرفوض شكلا وموضوعا، ومن جهة أخرى لم تتحمس الأردن لمقترحات الكونفيدرالية منذ أن أنهت ضمها للضفة الغربية.

ما أوردته جيروزاليم بوست تجاوز كل الخطوط الحمراء بما فيها ما كانت لا تجرؤ إسرائيل أن تبوح به سلفا، وهو ما لم يكن يحدث إلا في ظل حالة الهوان العربية الراهنة التي فاقت كل توقعات أقصى المتشائمين. فالحل المطروح إسرائيليا هو استبعاد فكرة الدولة الفلسطينية من الأساس واستبدالها بما وصفته الصحيفة بالكيان وهو تعبير يطلق على شكل سياسي لا تتحقق فيه أي شروط الدولة، حيث لا يدل على أي نوع من السيادة ولا أنه يمثل شعبا ولا حدودا جغرافية محددة وثابتة له، فقط نوع من الحكم الإداري الذاتي. وهذا الكيان وليس الدولة له أن يدخل في اتفاق إداري أيضا مع كل من الأردن ومصر، الأولى ربما تعنى بشؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية والثانية تعنى بشؤون الفلسطينيين في غزة.

بهذا التصور تنفض إسرائيل التي هي دولة احتلال يلزمها القانون الدولي بالانسحاب لأن وجودها غير مشروع وبألا تتدخل في حق تقرير مصير الفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيين والمغتصبة أرضهم بقوة السلاح، تنفض يديها تماما من مسألة المفاوضات الثنائية مع الفلسطينيين وتجعل العرب هم المسؤولون عن تسوية النزاع وتجنب إسرائيل قبول أي حلول وسط (أي لا تطرح أي تنازلات طالما سيتكفل العرب بتوفير ما يريده الفلسطينيون). ووفقا للصحيفة فإن إسرائيل في هذه الحالة ستعمل على أن تتركز الضغوط المستقبلية من جانب الوسيط الأمريكي على الأطراف العربية المعنية مباشرة بالقضية لا عليها هي. وتمضي الصحيفة قائلة إنه من الصحيح قدمت المبادرة العربية للسلام حلا واعترف بها العالم (الأرض مقابل السلام) ولكنها كانت بمثابة إملاءات على إسرائيل وجعلتها مطالبة بالاستجابة لأمور تهدد أمنها القومي، وبالمبادرة الإسرائيلية المناوئة يكتب السطر الأخير لنهاية المبادرة العربية للسلام. بهذه المبادرة - وفقا للصحيفة الإسرائيلية - سينشأ كيان فلسطيني مزدهر ومستقر ويتم تأمينه على أساس أن الأطراف العربية المعنية مباشرة بالقضية ستتكفل بكل ذلك، ومن جهة أخرى سيعترف العرب بإسرائيل كدولة يهودية للشعب الإسرائيلي وعاصمتها القدس، فتتحقق لها الشرعية التي طالما حلمت بها منذ قيام دولتها. وأما اللاجئون فسيمنحون الجنسية في البلدان التي يقيمون فيها.

ولا تخفي الصحيفة أن التهديدات الإسرائيلية لترامب جاهزة من الآن لو حاول مراجعة هذه المبادرة أو الالتفاف عليها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. فإسرائيل - وفقا لكلام الصحيفة - تحارب بهذه المبادرة نفوذ إيران في المنطقة، حسب زعمها، وكذلك حزب الله، وتمنع قيام دولة للإسلاميين المتطرفين في المنطقة، وإن لم يتفهم ترامب كل ذلك ويقبله فإنه يكون في هذه الحالة يعمل على إضعاف إسرائيل وتقوية إيران والإسلاميين المتشددين، فضلا عن أنه سيظهر بمظهر الزعيم الأمريكي الفاشل!.

المستجدات من الانقسامات العربية - العربية المتتالية على مدى السنوات الست الأخيرة والصراعات الإقليمية، بل والدولية على مصير المنطقة العربية، وكذلك استمرار الانقسام الفلسطيني، ووجود إدارة أمريكية ليست لها استراتيجية واضحة في الشرق الأوسط، كلها عوامل تدفع في اتجاه أن يصبح المستحيل ممكنا أو اللامعقول معقولا. ولكن برغم كل ذلك ومرارة الواقع فإن إسرائيل لن تتمكن من تجاوز الحقائق مهما راوغت وابتكرت من مبادرات مزعومة. فمن أين جاء وهم الاعتقاد بأن الحل العربي المتعدد الأطراف له فرصة التفعيل، ليس فقط لأن هناك من سيعترض وبقوة على مخالفة ما تعهد به العرب جمعاء في بيروت 2002، وإنما لأن الوضع العربي في مجمله ضعيف للغاية وربما كانت هذه هي الميزة الوحيدة للضعف العربي، حيث عدم القدرة على تنفيذ الإملاءات!! ومن أين جاء وهم الاعتقاد بأن أحدا سيقبل بأن يتحول حق قيام الدولة إلى مجرد كيان لا يخرج عن كونه محافظة أو ولاية إدارية هنا أو هناك، ولا بالطبع أن يتحول إلى كيان مزدهر لأن الازدهار ذاته غير قائم في المحيط المفترض لهذا الكيان، وأما المراهنة الإسرائيلية على التطبيع فستظل مخاطرة غير محسوبة العواقب أكثر من كونها فرصة لاحت في الأفق بسبب مستجدات أفرزها الانقسام العربي.