22
22
المنوعات

منحـت المورسـكيين المساحـة الأكـبر في «حصن التراب»

05 يوليو 2017
05 يوليو 2017

الروائي المصري أحمد عبد اللطيف في حوار مع «عمان»:-

كنت مدفوعًا لزيارة أماكن أحداث الرواية.. هناك كانت المشاهد تنسال أمامي كنهر -

القاهرة ـ حسن عوض -

25

أحمد عبد اللطيف هو واحد من أهم الكتاب المجددين في مصر. ارتبط اسمه دائماً بالتجريب، كانت تجربة الفنتازيا، قبله وعدد قليل من المجددين، مجرد تجارب فردية، ولكنها على يديه تحولت إلى مدرسة مصرية جديدة يمكن النظر إليها بعين الاهتمام. في روايته الجديدة «حصن التراب» يبدو أحمد عبد اللطيف أقرب إلى الواقع منه إلى الفنتازيا، حيث يتناول مرحلة الأهوال التي واجهها المورسيكيون في إسبانيا، ولكنه أيضا لا يخاصم الفنتازيا. يمكن القول إن هناك مراوحة بينها وبين الواقعي، في تضفير شديد الفرادة لعالم يخصه هو رغم أنه يخص أيضاً التاريخ.

صدرت رواية عبد اللطيف الأولى «صانع المفاتيح» في يناير عام 2010، وحصلت على جائزة الدولة التشجيعية عام 2012، ثم «عالم المندل» في يناير 2012، وتلاها بـ«كتاب النحات» في يونيو 2013 وفازت بالمركز الأول في جائزة ساويرس الثقافية عام 2015، و«إلياس» في أغسطس 2014، وأخيراً روايته الجديدة «حصن التراب» التي نتحدث عنها بالتفصيل في هذا الحوار...

■ كيف جاءتك فكرة رواية «حصن التراب» هل أنت مدين لسفرك لفترة إلى إسبانيا للدراسة بفكرتها أم أنها بدأت معك منذ فترة؟

درست الأدب والتاريخ الإسباني والأمريكي اللاتيني دراسة متخصصة في الجامعة، وكان من ضمنها تاريخ الأندلس وحلقته الأخيرة «الموريسكيون». أتذكر الآن أن أحد أسباب اختياري لهذه الدراسة، بالإضافة لقراءة أدب أمريكا اللاتينية بلغته، هو دراسة تاريخ الأندلس. لا أعرف إن كنت أفكر ساعتها في قراءة روايات متعددة للأحداث التي كنت أعرفها من قراءة سابقة، لكني أعرف حماسي لهذه الدراسة المفتوحة على عدة آفاق: لغة، أدب، نقد، تاريخ. منذ ذلك الحين، بدأ اهتمامي بالمسألة الموريسكية، وحدث أن زرت في سفريات قصيرة المدن الإسبانية الإسلامية، مثل غرناطة وقرطبة وطليطلة واشبيلية، لكني لم أشرع في كتابة رواية عنها إلا قبل سفري بعام، أي في 2014. الفكرة كانت كامنة، وبدأت في كتابتها منذ ثلاث سنوات، لكنها ما كانت لتكتمل لولا سفري وإقامتي في إسبانيا. ومثل قاتل يريد تقصي مكان جريمته، كنت مدفوعًا لزيارة أماكن أحداث الرواية، خاصة «كوينكا» التي انطلقت منها الحكاية. هناك، كانت المشاهد تنسال أمامي كنهر، ولم يكن عليَّ إلا تسجيل هذا الفيض من الإلهام.

■ الرواية بها جزء معرفي، خصوصاً فيما يتعلق بمحاكمات المورسكيين في إسبانيا، واللينكات التي تحيل إلى اليوتيوب، ويبدو خلفها أيضاً جهد بحثي كبير، هل واجهتك متاعب كبيرة أثناء الكتابة حتى تستطيع تضفير المعرفي بالسرد أو تحويله إلى جزء منه.. هل كان ذلك نوعاً من التحدي بشكل ما أمامك؟

لم أشعر بأي جهد بحثي بقدر ما كنت أشعر بمتعة اكتشاف أوجه أخرى للحقائق المعروفة، كل وجه كان يحيلني إلى تصور عما يجب أن تكون عليه الرواية. نيتي منذ البداية كانت كتابة رواية تنقد التاريخ وتفنده، تقوّض الرواية الرسمية للسلط التي تدين الموريسكيين وتتهمهم بالخيانة وتحيل كل ما حدث لأسباب دينية، في حين أنها كانت سياسية بحتة. كل الصراعات كانت نابعة من طموح توسعي لتأسيس امبراطورية مترامية الأطراف، ولم يكن ذلك ممكن التحقيق دون الانتقام من الامبراطورية الإسلامية وإذلالها. الكتابة كذلك لم ترهقني في شيء، لأنها عادة ما تكون المرحلة قبل الأخيرة، السابقة لإعادة الكتابة، واللاحقة لتكوين العالم السردي في ذهني والمشاهد والأحداث. أنا أكتب بسهولة، دون تعثرات، بأقل مجهود ممكن، بل ولا أحتاج لكثير من التفكير لأضفر الأحداث. كل شيء يأتي مثل شلال، الأحداث تنادي الأحداث، والشخصيات تنادي الشخصيات، والعالم السردي يرتب نفسه من تلقاء نفسه، وأنا ككاتب أشبه المخرج المسرحي الذي ينظم العرض مع ممثلين محترفين. ما أفعله، بكل صدق، أني أستسلم لخيالي، وكلما أخلصت في هذا الاستسلام، كانت النتيجة مرضية بالنسبة لي. من هنا أعتقد أن الأدب، على عكس العلم، يحتاج إلى عدم التخطيط، إلى الفوضى وكسر النظام. الأفكار تأتي من تلقاء نفسها، وقادرة على تطوير لنفسها لو استمعنا لها جيدًا، ما علينا إلا الإخلاص في الإصغاء.

■ رغم حرصك على تدوين التواريخ والأسماء بدقة كبيرة إلا أنك لم تذكر اسم الراوي الرئيسي إن جاز التعبير.. هل هذا كان بهدف التأكيد على محو أو طمس هوية الموريسكيين في أشد الفترات المؤلمة التي واجهوها؟

الأسماء غالبًا أول وسيلة لمعرفة هوية شخص، سواء هويته الدينية أو العرقية. لذلك، كان تواتر أسماء الرواة والشخصيات هامًا لمعرفة مدى التحول من مسلمين إلى موريسكيين متنصرين. في حالة الراوي الإطاري نحن أمام بطل يعاني من أزمة هوية، ويسعى ليبحث عن جذوره في أراض بعيدة، لذا بدا لي من الأفضل فنيًا أن أجهّل هذه التفصيلة، بل أجهّل كل ما يحيط به باستثناء ما يفيد الحبكة الرئيسية.

■ في أوراق إبراهيم ميجيل دي مولينا وعائلته محمد بن عبد الله ومانويل بن مريم بنت عبد الله وعائشة بنت مريم بن عبد الله، وغيرهم، كانت اللغة تختلف قليلاً من شخص إلى آخر.. ولكن لم يكن ذلك الاختلاف الضخم الذي يسم رواية شخصيات مثل هذه الرواية.. كان هناك شيء مشترك في لغة الجميع.. ما فلسفتك وراء ذلك؟

أعتقد أن التاريخ البشري هو تاريخ اللغة، وأعتقد أن لكل أمة لغتها الخاصة. لا أقصد باللغة هنا تراص المفردات وتكوين العبارات، بل اللغة كحامل للثقافة والموروث، واللغة كمشكلة تواجه الأفكار وليست وسيلة للتواصل بين البشر. في «حصن التراب» كنت أمنح لكل فرد صوتًا يميزه عن الأصوات الأخرى، لكن مجمل الأصوات ينتمي إلى نفس السلالة والثقافة والمرجعية والموروث. الاختلاف بينهم كأفراد لم يجعل أيًا منهم منبتًا عن أجداده، بل إن توارث اللغة كان تأكيدًا على التمسك بالجذور. تتوتر اللغة كهذيان مع مانويل الذي تحول لحجر، وتتوتر كأنها «تعديد» مع عائشة التي سقطت منها ذراع مرة وشاهدت موتها من شرفتها مرة أخرى، وتتسم بالحكمة عند محمد بن عبد الله وهو يبدأ تدوين ما بعد سقوط غرناطة، وفيما يحاول ميجيل الكتابة بلغة تساؤلية حينًا ونوستالجية حينًا، يذهب ابنه إبراهيم إلى لغة تميل للأسطورة متقاطعة مع الواقع التاريخي. هذه الأساليب المختلفة تمثّل مراحل مختلفة في التاريخ الموريسكي، إنها مثل أشعة مختلفة نابعة من نفس الشمس، تنويعات عدة على نفس اللغة. ما أطمح إليه ككاتب، في هذه الرواية وروايات سابقة، أن أجعل اللغة نفسها معبّرة عن المضمون، ليس فقط في مفرداتها، بل في إيقاعها وموسيقاها.

■ تباين أفناط الرواية، المزج بين الفنط العادي أو الأسود لم يكن بالنسبة لي بهدف الفصل الحاد بين ما هو وثائقي أو ما هو سرد، أو حتى للفصل بين الأصوات، كانت مهمته إن جاز التعبير عكس كل ما سبق، والإيحاء أيضاً بأن كل أوراق العائلة اختلطت، أو أصبحت متشابهة.. خصوصاً وأنك أيضاً تدخلت في بعض الوثائق، أو ألفتها بالكامل.. هل توافق على ذلك الطرح؟

صحيح، فالتكنيك كان عبارة عن أوانٍ مستطرقة، كلما طرقت هنا رن الصدى هناك. بذلك كانت كل الأصوات تتكامل، السردي والوثائقي، «الحقيقي» والمزيف، صوت شخصية وصوت أخرى. الراوي الإطاري كانت حكايته تكمل حكاية سارد آخر رئيسي هو إبراهيم دي مولينا، والأم التي تختفي هنا كانت تظهر هناك بصورة أخرى، وحكايات الآباء يمكن قراءتها كحكاية واحدة. أتفق معك في تصورك، لأن طموحي الفني كان طرح تصور جديد عن رواية الأجيال، وهو طموح يتلاقى مع كتابة رواية تاريخية بتصور مختلف، ينصهر فيها ما تم الاتفاق على أنه حقيقي مع ما هو مزيف، بل يبدو فيها ما هو مزيف أكثر حقيقية. تقول الوثائق الرسمية، مثلا، إن المسلمين في الأندلس فسروا سقوط غرناطة باقتراب يوم القيامة، ومنهم من أرجعه لتقاعس الدولة العثمانية عن مساندتهم. أنا لا أصدق بأحادية هذه الرؤية، بل أميل إلى تصور أنهم أرجعوا سبب السقوط للتناحر بين ملوك الطوائف. من يملك الحقيقة؟ لا أحد، لكن التاريخ تملكه السلطة، والروائي أفضل مؤرخ.

■ في أكثر رواياتك واقعية، أقصد هذه الرواية، لم تنس أنك كاتب يأتي من منطقة الفنتازيا، وحولت الراوي في أحد الفصول إلى تمثال رملي.. هل الكاتب عموماً مهما جرَّب، وهذه عادتك، ينبغي أن يربط كل أعماله بخيط ما؟

الأكيد أن الكاتب مهما جرّب وتنوعت أعماله عادة ما يبقى جوهره متنقلًا معه من عمل لعمل. ربما هذا ما يسمى ببصمة الكاتب، أو أسلوبه. يبدو لي الأمر مثل حجر ملتصق بظهورنا فلا يمكننا التخلص منه. ربما أوجز لو قلت لك إني أرى العالم من هذا المنظور، وفنيًا أجد نفسي في المجاز وأنحاز له. لكنه ليس فقط انحيازاً فنياً، إنه ارتباط بالفطرة، فالإنسان كائن فنتازي منذ مولده، وكما يقول بورخس «تتجلى الفنتازيا منذ الفصل الأول بالتوراة».

■ لماذا تقول دائماً إن هذه الرواية ليست تاريخية بالمعنى المتعارف عليه؟

- لأن هناك فارقا جوهريا بين الرواية التاريخية والرواية التأريخية. الأولى تتسق مع التاريخ الرسمي ولا تهدف هدمه، بل تستعيده لتسلط الضوء على الحاضر من خلاله، مثل الزيني بركات لجمال الغيطاني، أما الثانية فتعارض الرواية الرسمية للتاريخ وتدرك أن التاريخ كتبه المنتصر، بالتالي تشكك فيه وتفككه وتقوضه، وتحاول الوصول على أنقاضه إلى وجهة نظر مختلفة. «حصن التراب» إذن رواية تأريخية، تسعى لإعادة التفكير في الرؤى المطروحة حول الموريسكيين، وتعمل على بناء سردية عربية متماسكة للتاريخ الموريسكي من وجهة نظر أخرى.

■ هناك مشهد شديد التأثير في العمل، وأعتبره «ماستر سين» الرواية، وهو اصطحاب الراوي لجثة أبيه على مركب. هل كنت تود التأكيد على المأساوية التي يتعرض لها المورسيكيون؟ لو تركت جثة الأب في الأراضي الإسبانية كان يمكن القول إن هناك عزاء للبطل بشكل ما، ولكن اصطحابه لها يعني أنه حتى الجذور غير موجودة؟

هذا المشهد آلمني شخصيًا أثناء كتابته، وأثار فيَّ أسئلة كثيرة حول الموت والحياة. ربما يمكن اعتباره التمثيل الأكبر لهذا الصراع الهوياتي في العمل، أن تكون هنا وترغب في أن تدفن هناك لأن جذورك هناك. هو هاجس كل شخصيات الرواية، وطموح لا يتخلون عنه حتى لو تخلوا عن حياتهم نفسها هناك. لماذا نريد أن نُدفن في أرضنا بالذات؟ لاحظ أنه طموح الفلسطيني أيضًا، وطموح كل المهاجرين لبلدان عربية وأجنبية، وسيكون عن قريب طموح السوريين المهجرين من ديارهم. لاحظ أن مستقبل الشخصيات في الحياة هو تسجيل ماضي أجدادهم، ومستقبلهم بعد الممات هو العودة إلى أرض الأجداد. إنها حلقة مغلقة بيد حديدية تدور فيها عائلات موريسكية لا هي قادرة على التقدم نحو الغد ولا التخلي عن تاريخها. إنها مأساتنا البشرية التي تتزايد يومًا وراء يوم، وسؤالنا القائم حول هويتنا ذاتها.

■ اللغة الحوارية كانت تكشف تعالي القائمين على المحاكم، ولكنها كشفت أيضاً عن التحدث والقوة في لغة من يواجهون الطرد.. كيف ذلك في ظرف شديد المأساوية ويستدعي الخنوع لا التحدي؟

الحقيقة أنك أمام ندّين، وكون محاكم التفتيش هي صاحبة السلطة لم يكن يعني خنوع الموريسكيين. بالطبع كانوا يتجنبون المواجهات ويأثرون العيش في سلام، لكن المطاردات والاضطهاد والإجبار على ترك أبواب بيوتهم مفتوحة والكثير من ممارسات التعصب ضدهم، كلها أسباب جعلتهم في حالة استنفار ضد السلطة وقدرة أكبر على المواجهة. لا تنس كذلك أنهم عزيز قوم ذل، ولديهم من الكرامة والكبرياء ما يجعلهم يناطحون محاكم التفتيش نفسها حتى لو كانت نهايتهم، أو لأن نهايتهم، الموت المحتوم. هنا أعود إلى التاريخ مرة أخرى، إذ لن تجد وثيقة تاريخية تقول لك كيف كان الموريسكيون أثناء محاكماتهم، ببساطة لأن السلطة لا تنظر إليهم إلا باعتبارهم مجرمين.

■ هذه رواية عن الأسى، وعن استبداد سلطان التاج، واستخدامه للدين في إحكام قبضته.. الرواية تغافلت قليلاً وجهة النظر الأخرى.. هناك إشارات قليلة عن كراهية التاج للمسلمين غزاة إسبانيا.. هل كانت تلك الإشارات كافية في وجهة نظرك لتفسير الكراهية المطلقة؟

وجهة النظر الأخرى موجودة خارج الرواية بكثرة، تملأ كل كتب التاريخ بشكل مفرط. وفي الرواية كانت موجودة في حدود ما يخدم التصور الفني للعمل، مثلاً، ظهروا في النقاش ما بين الابن والأم عند وصوله لكوينكا وحصن التراب، ومن خلال اليوميات المتناثرة. لكن لا تنس أن هذه رواية عن الموريسكيين، وحاولت أن أمنحهم المساحة الأكبر لأسمع صوتهم المبتور. التاج الكاثوليكي أضر إسبانيا اقتصاديًا وسياسيًا وقتها، هذا بالإضافة للضرر الملحق بالمسلمين، لأن حجته كانت عدم ولائهم وخيانتهم وتهديدهم لمملكته، وكلها أسباب فندها بعد ذلك مؤرخون أكثر اعتدالًا. وجهة نظرهم موجودة، في رأيي، بما يكفي لفهم المسألة.

■ هذه الرواية تقول إن هناك عملاً آخر لم يكتب حول المورسكيين في المغرب.. هل يمكنك يوماً أن تتصدى لتجربة كهذه.. أم أنك أغلقت التجربة إلى الأبد؟

الفكرة موجودة، لكن لا أعرف متى يمكن إنجازها. دعني أخبرك أني أخاف من تكرار التجربة بنفس الطريقة. الحاسم في الموضوع عثوري على جديد يمكن أن أقوله دون أن أكرر ما قلته من قبل. على أي حال، أنا أستجيب للفكرة وأسير وراءها لنهايتها، ولا أحد يمكن أن يتنبأ أين يمكن أن تأخذك الفكرة، حتى لو كانت إلى الجنون.