أفكار وآراء

الاقتصاد والسخرية

05 يوليو 2017
05 يوليو 2017

مصباح قطب -

السخرية يمكن ان تكون إحدى أدوات القوة الشاملة للدولة! ، هذا ما خرجت به من أجواء ردود الأفعال تجاه قرار الحكومة في مصر رفع أسعار المواد البترولية (المحروقات) صبيحة يوم 29 مايو الماضي. كان وزير البترول قد استبعد ليلا رفع الأسعار ثم فوجىء الجميع بالقرار في الصباح الباكر، وقد أعطت الميديا والصحف لهذه الواقعة اكثر مما تستحق وتوقفت عندها بالهجوم والنقد بل والمطالبة بإقالة الوزير لأنه لم يكن صادقا مع الرأي العام، مع ان الأصل في الأشياء ان واجب الوزير بل والحكومة كلها ألا تفصح عن موعد هذا القرار لأن معرفة التوقيت قبلها، ولو بعدة ساعات تؤدي الى موجات ضخمة من تهريب الوقود من المحطات بغية بيعه لاحقا بالسعر المرتفع، أو الإقبال الهائل عليه من المستهلكين لملء سياراتهم وتخزين ما يمكن تخزينه بالسعر القديم.

وقد نجحت الحكومة ولأول مرة فى مباغتة السوق بالفعل، بل وأصدرت القرار في وقت غير متوقع بالمرة فهو قبل يوم واحد من الاحتفال بيوم 30 يونيو يوم هبة المصريين للدفاع عن الهوية الوطنية لبلادهم وعن الحداثة والمدنية والديمقراطية والحريات العامة ويوم إزاحة التيار الذي يحكم باسم الدين. صدر القرار أيضا في خضم العيد الصغير والإجازة الممتدة التي تم منحها للموظفين بمناسبته وبالتالي كان كم الحركة في الشوارع محدودا والاحتياج الى السيارات والنقل قليلا ، بل وصدر في ظل مساندة غير متوقعة من قوى الطبيعة حيث اشتدت موجة الحر منذ ايام في مصر - ولا تزال - بشكل دفع الجميع الى لزوم منازلهم . من الناحية الموضوعية قال كثيرون ان القرار سيقود الى موجة تضخمية اخرى تضاف للموجة الى اجتاحت الاسواق بعد تحرير سعر الصرف في نوفمبر الماضي، وان ذلك سيكون عبئا ثقيلا على المواطنين، وان هناك بدائل اخرى يمكن اللجوء اليها لخفض عجز الموازنة غير هذا البديل ، كما ان توزيع الاعباء - من وجهة نظرهم - غير عادل بين القادرين وغير القادرين، وكتب او علق كثيرون بالقول بأن تحريك اسعار المحروقات هو مقدمة لازمة للحصول على الشريحة الثانية من قرض صندوق النقد الدولي ، وهو ايضا احد شروط الصندوق،  وان القيام به ييسر عملية طرح حصص من شركات البترول في البورصة.

ومن الناحية الموضوعية ايضا ردت الحكومة بانها أصدرت قرارات بحزمة إجراءات اجتماعية ضخمة قبيل رفع اسعار الوقود ويعني ذلك انها تحاول ان تعوض المضارين عن الرفع وان توجه الدعم الى من يستحقه فعلا واعلنت ان اصلاح عجز الموازنة و إصلاح الاقتصاد عموما يتم طبقا لبرنامج وطني للإصلاح هو في مصلحة المواطنين وبصفة خاصة لأنه سيقود الى خلق المزيد من فرص العمل وزيادة الدخول ، كما أوضحت الحكومة أنها مرتاحة لرد فعل الشارع الذي تفهم الزيادات. ولان تضرر المجتمع كان كبيرا فقد دخل رئيس الجمهورية على الخط واعلن انه يقدر ما يتحمله المصريون من معاناة وانه فخور بالوعي الذي جعل كل مواطن يدرك انه ورغم المعاناة فإن الإصلاح ضروري وقد تأخر كثيرا وانه في النهاية في صالح المواطنين . بعض الأصوات نبهت الى ان الرئيس يتخذ ما يراه من إجراءات تخدم المصلحة العامة بتجرد سياسي وبغض النظر عن تأثير ذلك على الشعبية وانه لو كان يريد الشعبية قبل المصلحة العامة لأتبع أساليب أخرى ولقام بتأجيل الإصلاحات كما فعل السابقون غير أن أي تأخير سيجعل ثمن الإصلاح افدح وافدح.

في الجانب غير الموضوعي كانت السخرية هي بطل الحدث المتوج فقد انطلقت كمية رهيبة من النكات والرسوم والصور التي يتم تركيبها وإدخال تعليقات عليها عبر آلية فوتوشوب وأشكال كاريكاتورية وتعليقات خاطفة بأشكال مبتكرة وفيديوهات لم يسبق ان رأينا مثلها في مصر منذ سنوات طويلة. وإذا فكرت ان انقل منها الى صفحتي على موقع “ فيس بوك”  كنوع من المشاركة وجدتني عاجزا عن ملاحقة الإنتاج الغزير فاكتفيت بقلة من التعليقات. برز الحمار في الصدارة في الأيام الأولى بالذات فقال كثيرون مثلا للحمار : الآن نحن محتارون بين ان نأكلك أو نركبك، و أشاروا مرارا الى ارتفاع أسعار الحمير لأنها ستكون وسيلة المواصلات الأساسية بعد رفع أسعار البنزين ، وظهرت صورة تكررت تشير الى شكل معارض السيارات بعد رفع الأسعار، و أنها ستكون ساحة تضم عددا كبيرا من الحمير المربوطة الى عربات خشبية مما يتم تحميل الاثقال المراد نقلها عليه. وقال من قال: إن أي بنت ستتخذ من قدرة العريس على تفويل (ملء سيارته) من البنزين لمدة أسبوع متواصلا - مثلا -  معيارا لقياس القدرة المالية له ولأهله. أو ان تفويل (العربية) مرة كل أسبوع سيكون احد شروط والد العريس عند الخطبة. وقال ساخر: إن عصير القصب ارتفع ويبدو انه عصير 92 (نوع بنزين تم رفعه)، وتم تحوير مقتطفات معروفة  لتجيء على لسان مشاهير لتسخر من رفع الأسعار، واكثرها تفجيرا للضحك تلك التي تقول على لسان الفنان الكوميدي مصطفى خاطر (من مجموعة مسرح مصر): الناس اللي بتقول إحنا داخلين على أيام سودا ...ياللا ياحبايبي علشان وصلنا خلاص) !! ،  و ” بوست”  آخر من امرأة تقول لصديقتها بالهاتف: أنا نازلة اهوه بسرعة من الطبقة المتوسطة الى الطبقة المهدودة ولما أوصل حا ارن لك ! . فيض من خفة الدم والذكاء وسرعة البديهة غير معقول. مصر تستعيد ذاتها إذا. تستعيد روحها وتغادر - ولو جزئيا  الآن- الكآبة التي رانت على أرواح أهلها في السنوات الطوال الماضية . لقد برز من بيننا قوم يحرمون الضحكة ويعتبرونها جريمة ويقاومون خفة الدم بالدم والعراك وحرق البيوت بل ودور العبادة ... متجهمون يحسبون انفسهم أوصياء على الناس . كما برز في جانب آخر من يحولون كل شيء الى تجارة ، فلكي تضحك يجب ان تدفع. الآن الفرجة على المشاع والبهجة للجميع رغم الأنواء والأجواء الصعبة بل والقاسية اقتصاديا حقا . انه لمعنى خطير ان يتحول المصريون من الاحتجاج بالعنف - كما حدث في يناير 1977 مثلا - او بعدها ، الى ان يحتجوا بالسخرية . هي سلاحهم المجرب عبر آلاف السنين . سلاح محلي فعلا لكنه ناجز الى أبعد حد . أثق ان صاحب النفس الصافية الضحوك يمكن ان يحقق الكثير مناضلا أو معارضا من أهدافه ، وبأوقع كثيرا من الذي يلجأ الى العنف أو التطرف . ثم ان العنف يولد العنف ويدخلنا جميعا الى دوامة لا تنتهى خسائرها في نهاية المطاف تقع على اضعف الفئات مرة أخرى . إنها لحظة تستحق التأمل.

ولهذا وكما قلت فى بداية المقال ان السخرية هي إحدى ركائز القوة الشاملة للدولة . فقد لعبت دورا كبيرا فى التعبير عن الاحتجاج على القرارات الخاصة بأسعار الوقود ، لكنها ايضا اضافت الى وعي المواطنين الكثير ، و ازاحت عن نفوسهم عبئا نفسيا ، وجعلتهم أقوى احتمالا للصعوبات واقدر على مواصلة الحياة والكفاح من جديد لتحسين ظروف وشروط حياتهم . وفرت السخرية ما كان سينجم من خسائر العنف ، و أضافت الى الأصول القومية أصلا معنويا مهما هو إنسان عامل خال من العقد . إنسان أخذ حقه من السلطة التي يعتقد أنها ظلمته لحظيا فلم يعد يعاني المرار. الى ذلك فإن السخرية هي مستودع طيب لتقديم وجوه فنية جديدة الى المسرح والسينما والتليفزيون والسوشيال ميديا المدفوعة او غير المدفوعة . إنها  اصل منتج للمنافع المادية والنفسية . الفنانون المصريون زعماء الإضحاك في العالم العربي ، غير ان الوعاء يتآكل لان النجم في زمننا لم يعد يعمر طويلا لأسباب لا مجال لشرحها ، وعليه لابد من ظهور وجوه جديدة بشكل مستمر . علموا شعوبكم السخرية النظيفة البريئة . من المصاعب المؤلمة تولد الضحكات . فاللهم أدمها نعمة . نعمة الضحكات طبعا.

[email protected]