yousef
yousef
أعمدة

كفاية يا عين؟!

30 يونيو 2017
30 يونيو 2017

يوسف القعيد -

قال لي الدكتور سيد عويس، يرحمه الله، إنه كتب كتابه: «هتاف الصامتين»، من أجل أن يبحث عن فكرة مواجهة المصريين للمجهول في حياتهم، وذلك بعد الصدمة الهائلة، التي تعرض لها الضمير والوجدان المصري، في الخامس من يونيو 1967.

تجول الرجل في أنحاء مصر، ورصد الكتابات التي يكتبها أصحاب السيارات عليها. سواء أكانت السيارات ملاكي أو تاكسي أو نقل، رأى في الكتابات جهازاً إعلامياً من الطراز الأول، يجوب أنحاء مصر، يحاول أن يجمع روحها المبعثرة، مثلما فعلت إيزيس عندما كانت تجمع أشلاء أوزوريس من زوايا وأركان بر مصر.

كان هدفه معرفة الروح الخالدة الصامدة في قلب كل مصري. رأى سيد عويس، أن الناس يكتبون ما يكتبونه علي سياراتهم ليعبروا عما في نفوسهم، دون أن يراهم أحد. أي أنهم يحاولون أن يهتفوا ولكن في صمت. معبرين عن أفراحهم وأحزانهم ودعاباتهم وعن بعض القيم التي يقدسونها.

استغرقت الدراسة منه ثلاث سنوات، من 1967 إلي 1970. خرج الباحث منها بألف عبارة. منها 19 عبارة تكررت 310 مرات. وهي: يا رب سترك (45 مرة) يا رب رضاك (35 مرة)، ما شاء الله (34 مرة)، الصبر جميل (25 مرة)، توكلت على الله (25 مرة)، عين الحسود فيها عود يا حلاوة (15 مرة)، في التأني السلامة وفي العجلة الندامة (15 مرة)، يا حاسدين الناس، مالكم ومال الناس (15 مرة). والعبارات لها ثلاثة أشكال، عبارات ذات شكل شعبي تمثل: 38%، وعبارات ذات مضمون ديني تمثل 32%، والباقي أشكال أخرى.

والكلمات ذات الشكل الشعبي مأخوذة من أغاني الزمان الجميل، أبو سمرة السكرة (محمد قنديل) اعطني حريتي أطلق يديّ (أم كلثوم). تراعيني قيراط أراعيك قيراطين (عبد الوهاب) حلو وكداب، وسواح ماشي في البلاد سواح (عبد الحليم حافظ) سالمة يا سلامة (سيد درويش) مين ينصر المظلوم ويحاسب الظالم (ليلي مراد) كايده العزال (عايدة الشاعر).

تليها الكلمات الشعبية: النبي تبسم، (إنت اللي فيهم)، حمال الأسية، خليها على الله، ربنا عاوز كده وأنا أعمل إيه؟ معلهش يا زهر، نصيبي كده. وعبارات تحذير: إن خلص الفول أنا مش مسؤول، حاسب ما عنديش إلا هيَّه، حاسب وراك محاسب، ما تبصليش بعين رديَّه، بص للي انصرف عليه.

الأمثال الشعبية المصرية موجودة: اجرِ جري الوحوش، غير رزقك لن تحوش. الباني طالع والفاجر نازل. العيشة منجهة والحياة أبهة، اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، يا ناس يا شر كفاية أر. امشِ في طريقك عدل يحتار عدوك فيك. كفاية يا عين. وهى أكثر كلمة ترددت كتابتها على السيارات.

وهناك دعوات وابتهالات: نظرة يا شيخ العرب، مَوِّنّا بالسولار وصلّ علي النبي المختار، الحمد لله علي نعمته، الله يرعاك، اللهم اعطني خير الزاد واكفني شر العباد، استرها يا رب. اللطف عند القضا. الفاتحة لحضرة النبي. مدد يا أم هاشم. مدد يا أهل البيت. مدد يا حسين مدد. نظرة يا أبو العباس، نظرة يا بنت الحسن والحسين.

آيات القرآن الكريم، كان لها مكان على هياكل هذه السيارات: (إن مع العسر يسرا). باسم الله مجريها ومرساها. هذا من فضل ربي، (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها). ومن الإنجيل: الله محبة، سلم للرب طريقك. الرب راعٍ فلا يعوزني شيء. وهناك طلب للخلاص من السيدة العذراء: يا أم المخلص خلصيني.

الأسماء والألقاب والأماكن دونت علي السيارات: لهاليبو، مبروكة، كايداهم، عنتر، أم صابر، أسطول المنوفية، حمامة السلام، سفينة الصحراء، سيارات النهر الخالد، شيال الحمول، عروسة المنصورة، قاهر المانش، ليلى أخت طارق، وحش الشرقية.

اعترف سيد عويس أن الخامس من يونيو إحدى مناسبات الموت الجماعي عند المصريين. وهى أيضاً مناسبة الحزن العميق، ويذكر نفسه وغيره أن الحي أبقى من الميت. فالمصري إنسان يعشق الحياة ويحبها ولا يرفضها ويحب الدعاية ويتقن صناعتها، وإذا بالغ في المداعبة استخدم معنى الموت، وإذا بالغ في حب شخص يقول له:

- أحبك موت.

كتب عن (مصر 67)، مصر الجريحة: - إن مصرنا الخالدة، لم يكن لها نيل واحد، يفيض على أراضيها بغزير مائه، ماء الحياة، إنه نهر الديانات. وهو أطول أنهار الدنيا، ظهر مع الخوف من المجهول، والاحتماء منه، والاستسلام لعدد من الآلهة. وانتهى بالإيمان بإله واحد. ثم جاءت المسيحية، وجاء الإسلام بعدها. وثمة نهر ثالث احتوى الثقافات المختلفة والعلوم والمدنيات والمثولوجيات وهى إشعاعات إنسانية اندمجت بعضها في بعض في وحدة أسهمت في تطور الإنسان واستمرار حيويته.

يتوقف الدكتور سيد إمام دلالات هذه العبارات وما تعبر عنه من مشاعر الهجر والفراق وكيد العزال. وظلم الظالم. والخوف من حسد الآخرين، حيث إن عامة الناس في مصر تخشى الحسد وتخافه وتقيم له ألف حساب. أيضاً فيها ذلك الصبر السلبي وتلك الحيرة والاستسلام.

إلي جانب الاستسلام والرضى بالمقدر والمكتوب علي الجبين الذي لا بد وأن تراه العين. هناك الكثير من القيم الإيجابية مثل معاني الأمل، والفرح، والدعابة. والغزل والتسامح والدعوة إلى الشطارة، والحث علي فعل الخير، حتى وإن رماه فاعله إلى البحر. وعدم الغش باعتباره من الأفعال المذمومة. كذلك لا فائدة من الندم على ما فات.

كثير من العبارات تطلب السلامة، وتنصح بالتأني وتبحث عن الستر، وتخشى الفضيحة، والنجاة من عذاب القبر، أمل كل حي في نظر المصريين. والكل يطلب رضا الله. ويدعوه، فالذين يركبون السيارات يكونون ودائع بين يدي الله. حتى يصلوا بالسلامة.

هل أطلب له الرحمة، بشكل تقليدي؟ أم أقول أنه واحد من القلائل الذين أودعتهم مصر مكنون سرها في لحظة من لحظات الصفاء والتجلي والوجدان. تماماً، مثلما فعلت مع عبد الله النديم ومحمود مختار وسيد درويش وبيرم التونسي.

ما أكثر الذين يغرقون في مستنقع التفاصيل الصغيرة. المكررة والمعادة والمملة، وما أندر الذين يضعون أياديهم علي الجوهر، إنهم لا يتكررون في تاريخ الأوطان. وكان سيد عويس «1903 - 1988» الذي قد لا يعرفه الكثيرون منا، واحد من هذه القلة النادرة.