أفكار وآراء

العنصرية آفة الشعوب المعاصرة

25 يونيو 2017
25 يونيو 2017

إميل أمين/ كاتب مصري -

هل للمرء أن يتساءل عن آفة الشعوب المعاصرة في القرن الحادي والعشرين بنوع خاص؟

الشاهد إننا نجد أنفسنا اليوم بإزاء إزدواجية غير عقلانية بالمرة، فعوضاً عن أن تكون العولمة عاملأُ مجمعاُ ومقرباً للأمم والشعوب ها نحن نراها ترسخ وتعمق أفكار العنصرية والقومية، وتدفع نعرات الطائفية إلى الاستيقاظ.

أنظر إلى الخريطة الجغرافية من مشارق الأرض إلى مغاربها سوف تجد حالة غير مسبوقة من تصاعد العنصرية البغيضة، فالامريكيين ومن جديد يسعون إلى فكرة «أمريكا أولاً» وهذا في واقع الأمر رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر ، لشعار الرايخ الثالث زمن «أدلوف هتلر»، «المانيا فوق الجميع».

وعلى الجانب الأخر من البسيطة نجد روسيا تسعى لأن تغير نشيدها الوطني لتستبدله بالنشيد القديم «حفظ الله القيصر»، أما عن أوربا فحدث ولا حرج عما يجري فيها من صيحات يمينية متطرفة تكاد تعصف بهدوءها واستقرارها الذي حافظت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة .. من يدلنا على فهم ما يجري ولماذا يجري على هذا النحو؟

لعل أفضل من نظر لتلك الاشكالية مؤخراً هو البروفيسور «علي راتانسي» استاذ علم الاجتماع الزائر في جامعة ستي، لندن، عبر كتابه الشيق «مقدمة قصيرة عن العنصرية»، تلك التي باتت تتبدي في أشكال عدة في كل مظاهر المجتمع تقريباً، من التمييز في كل نواحي الحياة اليومية والفضائح في السياسة أو حتى أحداث مثل الجلد في الجنوب الامريكي والاستعمار الثقافي، والتطهير العرقي .... على أن السؤال متى دخل مصطلح العرق في قاموس الشعوب المعاصرة؟

من المسلم به الأن بصفة عامة أن مصطلح «العرق» دخل إلى اللغة الانجليزية في بواكير القرن السادس عشر. كان هذا أيضاً في الوقت الذي أكتسب فيه المصطلح ذيوعاً في لغات أوروبية أخرى، على سبيل المثال في الفرنسية أو الايطالية، والبرتغالية، والاسبانية، وبحلول منتصف القرن السادس عشر، كان معنى واحد مشترك قد بدأ يكسب أرضية.

أضحى مصطلح العرق يشير إلى الأسرة والنسل والسلاله، وفي هذا كان هناك قدر من الاستمرارية عبر أجيال في العائلات الإرستقراطية والملكية.

من هنا يمكن القطع بأن البشرية بدأت تسلك مسلكاً سلبياً، فيه تفاخر أمم على أمم وشعوب على شعوب بفكرة الجذور والأعراق، وقد عاشت أوربا على نحو خاص عقود طوال من «المد العرقي الأصولي» إن جاز التعبير، وخيل للناظرين أن تلك المرحلة قد أنتهت بوصول الاوربيين إلى فكرة الاتحاد الأوربي الذي يعامل جميع الشعوب الأوربية على قدم المساواة، لكن كان من الواضح أن هناك ملامح ومعالم عنصرية خافية تحت الجلد الأوربي المؤدلج منذ عقود طويلة.

يؤكد البروفيسور «راتانسي» على أن قليلين في عالم اليوم، خارج صفوف الاعضاء المتعصبين في جماعات النازية الجديدة والجماعات اليمينية المتطرفة الأخرى، هم من يقرون بأنهم عنصريون، ومع ذلك فحتى المجاهرون بعنصريتهم يبدو أنهم متفقون بشأن القليل فيما يتعلق بعدد الاعراق الموجودة، وكيفية التمييز بينها تحديداً مثل مناصري مفهوم العرق في الماضي ... هل من سبب لذلك؟ السبب ببساطة هو أن البشرية لا يمكن أن تصنف إلى أعراق.

على أنه إذا لم يكن للاعراق وجود حقاً، أنطلاقاً من أن الجنس البشري له أصل واحد، وقليلون هم من يعترفون بأنهم عنصريون، فما الذي يجعل الأمر ممكناً بالنسبة إلى الباحثين في العلوم الاجتماعية، والصحافيين، والساسه، وعدد كبير من المواطنين العاديين، ليزعموا بأن العنصرية لا تزال واسعة الانتشار في العالم المعاصر، لاسيما في أوربا وأمريكا الشمالية على نحو خاصة؟

الشاهد وبحسب البروفيسور «راتانسي» أنه عندما يدخل العرق إلى المعادلة تكون النتيجة خليطاً من التصنيفات المركبة، كما يتجلى الأمر في مسوح التعداد السكاني، وكذلك في الاستمارات النمطية لرصد المجموعات الأثنية، بناء على التصنيفات الاحصائية السكانية، التي يجب أن يملأها المرض عند حضورهم إلى المستشفيات والمنشآت الطبية الأخرى.

على أن علامة استفهام جوهرية لابد من طرحها ونحن في سبيل البحث عن الاسباب التي دعت إلى تفاقم ظاهرة العنصرية في القرن الحادي والعشرين ... هل الحركات والتحركات السياسية لها علاقة ما بصعود أو هبوط منحنى العنصرية؟

بداية لابد أن نشير إلى أن طروحات العولمة، بما صاحبها من أفكار رأسمالية متجاوزه للحدود، وعابره للسدود، قد سعت في جعل العالم سوقاً كبيراً، لا تجمعات إنسانية لها خصائص بشرية، بمعنى أن الذي يهم الشركات العابرة للقارات، والتجمعات المعروفة بـ «لوبيات الضغط»، كالمجمع الصناعي العسكري الامريكي، أو المجمع المالي في وول ستريت، باتت تتعامل مع الدول على أنها كيانات تابعة، أو أرقام مالية لا تخضع إلا لمعايير الربح والخسارة، وهنا أكتشفت أمم وشعوب كثيرة أنها باتت تتماهى مع غيرها إلى حد الذوبان في الأخر، ومن ثم ضياع الملامح الشخصية، وإضمحلال التراثات الروحية والثقافية والمؤكد هنا أن الغلبة كانت ولابد من نصيب القوى الأكبر والاكثر قوة ومنعة على كافة الأصعدة السياسية والعسكرية، المالية والاقتصادية.

في هذا السياق كان لابد لكثير من أمم وشعوب العالم أن تسعى للعودة للاحتماء خلف جدران القوميات والهويات الدينية والانسانية، ما خلق إشكالية أخرى هي الهوية والتي باتت بدورها تتقاطع مع أزمة العنصرية ... كيف ولماذا؟ في قراءة أخيرة يضعنا المثقف اللبناني الكبير، الوزير الاسبق والاستاذ الجامعي على الدوام «غسان سلامة»، أمام واقع حال الازمة، وعنده أن أخطر ما هو قائم الآن في العالم، تصنيف الناس وفق هوياتهم، وليس وفق أفكارهم وكأنهم أدوات أو أشياء وليسوا بشراً، بينما ما يميز العنصر البشري هو أن الهوية أمر لزج، بمعنى أنك في الصباح تعيد تركيب عناصر هويتك كما تشاء، فقد تعتبر أن عنصراً فيها هو أهم من غيره، وذلك ذكر أو أنثى، طبيب أو مهندس، شيخ أو شباب، في كل هوية عناصر عديدة والحرية أو تحديدها في عالم اليوم تكمن في حرية كل فرد بأن يعيد تركيب عناصر هويته مع طلوع كل شمس وفق ما يشاء، وبذلك هو قادر على رفض التصنيف الذي يحاول الشعوبيين فرضه علينا.

يتضح لنا إذن أن إشكالية العنصرية باتت وثيقة ولصيقة بحركات اليمين الشعبوي، والذي يصنف الناس وفقاً لانتماءاتهم المتعددة، ومن يخرج عن تلك التصنيفات أو التوصيفات يقرع بأنه عدو تماما كما حدث مع اليهود في المانيا على نحو خاص اثناء الحكم النازي.

على أن هناك بعداً أخر في المسألة يتصل بأشكال الكفاح السياسي التي مارستها مجموعات تابعة لمدة نصف قرن قد تركت أثراً مهماً، فقد استحوذت حركات حقوق الإنسان المدنية و «القوة السوداء» في الولايات المحدة الامريكية على وصف «أسود» الذي كان وسماً ازدرائياً حتى ستينات القرن العشرين، وأعيدت إليه قيمته، ومنح شعار «الاسود الجميل»، التمكين لمجموعات سكانية كانت تزدري بوصفها «الزنوج» و «الملويين» في كفاحهم لنيل الحقوق المدنية.

هل يمكننا إذن أن نضع تعريفاً للعنصرية في حاضرات أيامنا؟

يقدم لنا البروفيسور «راتانسي» رؤية يمكن أن نعرف من خلالها العنصرية المتشددة بانها الاعتقاد بوجود أعراق منفصلة ومتمايزة ومحددة بيولوجياً، وبأن هذه الاعراق يمكن أن ترتب هرمياً على اساس سمات وقدرات متفوقة فطرية، وبالتالي غير قابلة للتغيير، وأن العداوه طبيعية بين هذه الاعراق.

والمؤكد أن كل عنصر بمفرده شرط جذوري، لكنه ليس كافياً لتمييز العنصرية المتشددة .. يمكن أن يقال عن العنصرية إنها أكثر تشدداً كلما زاد عدد مثل هذه الاعتقادات التي يحتويها، وهناك عناصر أخرى وثيقة الصلة أيضاً، قد تتضمن بعض صيغ «العنصرية المتشددة»، أفكاراً إضافية على سبيل المثال، وجهة النظر الشائعة للغاية في القرن التاسع عشر القائلة بأن «الاختلاط العرقي» أو « اختلاط الاجناس» أمر غير مرغوب فيه، لانه قد يسفر حتماً عن انحطاط في العرق المتفوق. وعليه فإن ثمة مسائل إضافية ينبغي مواجهتها قبل الخروج بحكم دقيق، بشأن مدى عنصرية أي شخص.

السؤال الحيوي قبل الإنصراف ... هل من أفق لمستقبل ما بعد عرقي؟

في عام 1903، تنبأ عالم الاجتماع الامريكي الافريقي الأصول والجذور «دو بويس» بأن «معضلة القرن العشرين ستكون مسألة الفصل العنصري»، وفي عام 2006 نشر المؤرخ البريطاني «نيال فيرجسون» ما أعلن عنه أنه بمثابة تفسير جديد رئيسي للقرن العشرين، وقد حاجج فيرجسون في كتابه «حرب العالم»، بأن فكرة «العرق» وطريقة تشابكها مع الأثنية وإنهيار الامبراطوريات متعددة القدميات كان أحد الدوافع الرئيسية، وربما العامل الضمني الاساسي في تحديد الصراعات في القرن العشرين. والمؤكد أن مسألة مستقبل العنصرية وتصاعدها، والمد القومي اليميني وتجلياته إلى مدى بعيد، بات أمراً مشكوكاً فيه، وقد جاءت الأنتخابات الفرنسية الأخيرة لتضعنا أمام حقيقة مثيرة، مفادها أن هناك ركب لم تجثو لبعل الاصولية والعنصرية الاوربية، كما حاولت بعض الاطراف والاطياف أن تسوق المشهد للفرنسيين، وقد خسرت الجبهة الوطنية الرئاسة، وفاز بها من يسعى إلى الامام في غير عنصرية بغيضة. ولعل ما يجعلنا نوقن بأن العنصرية ليس أمامها زمن طويل أو مستقبل عريض، هو أن إحياء النزاعات القومية المختلفة ومشاريع الاستثنائية الثقافية يجري في وقت يحدث فيه انفجار لعدد وافر من الهويات المتجاوزة للقومية، والشتاتية والاثنية والدينية والسياسية والمتعلقة بأسلوب الحياة، والجندر.

سوف تنهزم العنصرية حتماً وحكماً، لأننا نعيش في عالم يمكن للافراد أن يستحدثوا ويعيدوا استحداث هويات وخليط من الهويات، وكجزء من أزمة «إنتماء» مزمنة في فترة تشهد عولمة أكثر تكثيفاً يطور عدد كبير من الافراد ولاءات والتزامات نحو عدد وافر من الاماكن، والثقافات، المتجاوزة الروابط التقليدية للأمة، والاثنية والدين.

في الهند يشجع محبو فريق كرة القدم في «كولكوتا» فريق دولة البرازيل في كأس العالم، وفي اليابان نشأت ثقافات ثانوية للشباب «السود» حيث يصفف الشباب شعرهم في شكل عقائص، ويغنون موسيقى الراب، وستخدمون نسخاً من لغة الشارع الامريكية للسود واسلوبهم.

الخلاصة القرية الكونية تمج العنصرية وتطردها هارجاً وهذه هي الحقيقة التي تغيب عن ناظري العنصرين.