أفكار وآراء

لماذا تناور أمريكا مجددا بمعركة تحرير الرقة؟

24 يونيو 2017
24 يونيو 2017

د . واصل القعيطي -

عبارة «عزل الرقة» التي وردت في تصريحات المسؤولين الغربيين تجتاح الرؤوس المتعبة، وتعتمل فيها كطاحونة قديمة لا تنتج إلا التساؤلات والهواجس. لقد بدا واضحا أنّ سلسلة المعارك التي جرت في الآونة الأخيرة في محافظة الرقة وتحديدا في ريفها الشمالي الغربي والغربي (الطبقة)، ما هي إلا هدف من سلسلة أهداف استراتيجية كجزء من خطة ورؤية أكبر، لمسار المخطط الأمريكي التي يعمل عليه الأمريكيون بالتعاون مع ميلشيا (سوريا الديمقراطية)، والهدف بالأساس هو تحقيق شروط وإملاءات تحاول بعض القوى الإقليمية الحليفة والشريكة والداعمة للمشروع (الإسرائيلي - الأمريكي) بالمنطقة فرضها على سوريا.

لا يمكن إنكار حقيقة أنّ محافظة الرقة بموقعها الاستراتيجي بشمال شرق سوريا، تشكل أهمية استراتيجية بخريطة العمليات العسكرية السورية وتحتل أهمية استراتيجية، باعتبارها مفتاحا لسلسلة مناطق تمتد على طول الجغرافيا السورية، فهي نقطة وصل بين مناطق وسط سوريا وشرقها وشمالها، امتدادا على طول شريط المناطق الحدودية المرتبطة بالجانب العراقي والتركي، إضافة إلى كونها تشكل نقطة ربط بين المناطق الجغرافية السورية المرتبطة بمدينة دير الزور شرقا وحلب شمالا، وهذا ما يعكس حجم الأهمية الاستراتيجية الكبرى لمحافظة الرقة في خريطة المعارك المقبلة بالشرق والشمال الشرقي والشمال السوري بشكل عام.

في هذه المرحلة وتحديدا بعد إعلان أمريكا عن انطلاق حملتها على الرقة من الواضح أنّ مؤشرات الأحداث على وجه الخصوص، تعكس حجم الأهداف المطلوب تحقيقها في سوريا ومجموعة من الرهانات الأمريكية المتعلقة بكل ما يجري فيها. وهي أهداف تتداخل فيها حسابات الواقع المفترض للأحداث الميدانية على الأرض مع الحسابات الأمنية والعسكرية والجيوسياسية للجغرافيا السياسية السورية وموازين القوى في الإقليم مع المصالح والاستراتيجيات للقوى الدولية على اختلاف مسمّياتها، كما تتداخل فيها ملفات المنطقة وأمن «إسرائيل» والطاقة وجملة موضوعات أخرى.

هنا يجب التأكيد على أنّ ما يجري في الرقة يؤكد استمرار أمريكا وحلفائها في مسار حربهم المباشرة وغير المباشرة على سوريا، ويؤكد بما لا يقبل الشك في أنّ أي حديث عن مؤتمرات هدفها الوصول إلى حل سياسي للحرب على سوريا، ما هو في النهاية إلا حديث وكلام فارغ من أيّ مضمون يمكن تطبيقه على أرض الواقع، فأمريكا وحلفاؤها في الغرب والمنطقة كانوا وما زالوا يمارسون دورهم الساعي إلى إسقاط الدولة السورية بكل أركانها بفوضى طويلة تنتهي حسب رؤيتهم بتقسيم سوريا.

وإلى حين اقتناع أمريكا وحلفائها بحلول وقت الحلول للحرب على الدولة السورية ستبقى سوريا تدور في فلك الصراع الدموي، إلى أن تقتنع أمريكا وحلفاؤها بأنّ مشروعهم قد حقق جميع أهدافه، أو أن تقتنع بانهزام مشروعها فوق الأراضي السورية، وإلى ذلك الحين سننظر إلى مسار المعارك على الأرض لتعطينا مؤشرات واضحة عن طبيعة ومسار الحلول المستقبلية للحرب على الشعب السوري الخاسر الوحيد من مسار هذه الحرب المفروضة عليه، ولكن نهاية المعركة لن يعني بالضرورة نهاية الحرب.

وعلى المدى الطويل، ستكون القوى الإقليمية هي التي ستعيد تشكيل مستقبل المناطق المستردة - وليس الولايات المتحدة أو أغلب شركاء التحالف الدولي. ستكون الحدود الكردية - العربية المتاخمة لبعضها البعض في شمال سوريا والعراق مسرحا مهما للتنافس بين القوى المحلية والإقليمية على حد سواء. تركيا وعلى الرغم من الفشل والإحباط الذي مُنيت به في التوصل إلى تسوية مع روسيا وأمريكا فيما يخص الرقة، لا تزال ملتزمة في الحفاظ على وجود طويل الأمد في المنطقة ولتحقيق هذه الغاية، تعمل أنقرة على إقامة مناطق آمنة في شمال سوريا والمحافظة على روابطها الاقتصادية والأمنية مع شمال العراق، ولكن ستثير أهداف تركيا انتباه طهران المنافسة، التي تنوي أيضا إدارة المناطق المستعادة في سوريا والعراق كما تراها مناسبة لسياساتها. وبطبيعة الحال فإن عدم الاستقرار في هذه المناطق سيجعل عملية حكمها مسعى صعبا وخطيرا للقوى الخارجية، ولكن ذلك لن يمنعهم من التنافس على النفوذ في تلك المناطق، وغالبا برؤى مستقبلية تنافسية.

وفي الوقت نفسه، تجد روسيا انخراطها في سوريا نفوذا استراتيجيا إيجابيا لها على المدى الطويل، حيث يمكنها استخدامه في تعاملها مع الولايات المتحدة. على الرغم من ذلك، كان الأمر على ما يرام في المدى القريب قبل الحملة العسكرية على الرقة. حيثُ سدَّ الهجوم الذي نفذته قوات سوريا الديمقراطية لإغلاق الدائرة المحيطة بالمدينة جزءا كبيرا من الطريق السريع 4، وهو ممر مهم جدا للقوات الموالية للحكومة السورية المدعومة روسيا، التي كانت قد خططت استخدامه للوصول إلى مناطق المعارك القريبة من الرقة. مع عدم وجود تقدم سهل إلى العملية، ستواجه روسيا وقتا أصعب باستخدام دعمها للقوات الموالية في سوريا كورقة مساومة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وينتظر التحالف الدولي مهمة صعبة جدا في الحملة العسكرية الوشيكة. ولكن بمقارنة الجوانب التكتيكية الأكثر وضوحا لجهودها في عملية تخليص الموصل والرقة من «داعش»، تعتبر عملية تحقيق الاستقرار في المناطق المُسيطر عليها في أعقاب زوال التنظيم مهمة ضبابية جداً. وكلما حققت الدول التي تحارب التنظيم تقدما في ساحة المعارك اشتدت الانقسامات بينهم. فبينما تضع واشنطن تركيزها على محاربة المجموعة المتطرفة في الموصل والرقة، تلوح الأسئلة بشكل أكبر حول كيفية تقاسم السلطة السياسية في هذه المدن، وتعزيز النمو الاقتصادي، ومنع التطرف وتزويد ضحايا العنف بالاحتياجات اللازمة. كل عضو في التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» لديه إجابة مختلفة، وكذلك هو الأمر بالنسبة للقوى الإقليمية والفاعلين المحليين المنخرطين في المعركة.

مما لا شك فيه أن «داعش» قام خلال السنتين الماضيتين بوضع مخططات الدفاع عن المدينة وإنشاء ما تستلزمه هذه المخططات من بنية تحتية كالتحصينات وخطوط الدفاع التي جعلها تزنّر المدينة من جميع الجهات بحسب ما توفر لديه من إمكانات، وهي في أغلبها عبارة عن خنادق وأنفاق وكمائن وحقول ألغام، وارتكزت قوات «داعش» في الرقة على عدد من الكتائب والألوية العسكرية المدربة جيدا والمدججة بأحدث أنواع الأسلحة التي يمتلكها. وبعض هذه الكتائب هي من قوات النخبة التي تتكون من مقاتلين أجانب غالبيتهم من حملة الجنسية الفرنسية، وثمة معلومات استخبارية تربط بين هذه الكتيبة والتفجيرات التي حدثت في بروكسل.

إذًا كيف يعيش سكان مدينة الرقة في ظل حكم تنظيم داعش؟ هذا السؤال بات يتبادر إلى أذهان الكثيرين، خاصة أن الرقة التي يتخذها التنظيم عاصمة لـ(دولته)، أضحت مختبرا حقيقيا يحاول من خلالها «هندسة» مجتمع يلبي برامجه القادمة من أقاصي التاريخ. يحاول «داعش» بعث دولة الخلافة من جديد عبر قوانين وتشريعات إسلامية، وعبر إخضاع وترهيب كل من يعارض مخططاته. ولإحكام قبضته على مدينة الرقة دأب على استصدار مراسيم وبلاغات، أخذت تشمل كل مناحي حياة سكان المدينة. فمن إغلاق المدارس، ريثما تصدر مناهجها التعليمية الجديدة، إلى التدخل في لباس الرجال والنساء، إلى «حفلات» الإعدام وقطع الرؤوس في الساحات والشوارع الرئيسية، وصولا إلى إعادة تشكيل المنطقة ديموغرافيا، حيث بدأت تستولي على الملكيات العامة والخاصة وتصادر المساكن وتوطن «دواعش» قادمين من كل أصقاع الأرض.