روضة الصائم

حجج القرآن أسلوباً ومضموناً ومميزات

22 يونيو 2017
22 يونيو 2017

علي بن سالم الرواحي -

إن حجج القرآن يسلم لها كل عقل، لكن قد يعاندها الإنسان، بسبب فطرته الآسنة أو هواه الجامح أو قلبه المريض، وحينما ندعو إلى الله نتبع ما رسم الله في القرآن من منهاج، وما أمرنا به من التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتحقق ذلك باتباع الأسلوب الحكيم من قول وفعل الخاليين من الفساد ويتمثل ذلك في تعاليم الكتاب والسنة، كذا اتباع الموعظة الحسنة بتذكيرهم بالوقائع السابقة حتى ينزجروا عن المعاصي، وكذا اتباع الحجاج الأحسن في الدعوة إليه سبحانه وهو المتشرب للطف واللين المؤثر في النفوس، وهذه الأشياء الثلاثة كفيلة بضمان نجاح الدعوة، قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وهذا ما اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: « ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا «. قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ « قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: « وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ «. قَالَ: « أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ « قَالَ: لَا. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ قَالَ: « وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ «. قَالَ: « أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ « قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: « وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ «. قَالَ: « أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ « قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: « وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ «. قَالَ: « أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ « قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: « وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ «. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: « اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ « قَالَ : فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (رواه أحمد)، حيث ناقش النبي ذلك الفتى بما لا يرضاه لنفسه، ثم قاس الناس عليه فهم لا يرضونه لأنفسهم.

هكذا نرى اللين النبوي في دعوته -صلى الله عليه وسلم- حيث يدعوهم برأفة وحنان، ولطف واطمئنان، وبحب وعقل، وبوضوح وعلم، وهذا هو سر استجابة الناس السريعة لدعوته إلى الإسلام، وكل ذلك من رحمة الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، وبهذا أمر الله رسوله موسى وهارون عليهما السلام في دعوة أقسى الجبابرة، قال تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، لأن أي الإنسان عادة يتقبل باللين ما لا يتقبله بالخشونة، فانفعال الغضب يكون عادة ضد الخشونة لا ضد اللين.

وردت حجج القرآن منوطة بالحكم التكليفي من أمر ونهي وإباحة، ومنوطة بالجزاء، من وعد ووعيد، وهذا ينطلق من كونه هداية للناس، ومن منطق الإسلام عدم ترك الآخرة، وإن الحياة هي لهو ولعب وزينة، وقد أفرز الناس إلى ثلاث طوائف مسلمين ومشركين ومنافقين ولكل طائفة منها اعتقادات وسلوكيات واضحة، وأعمال الكافر سراب وهي وإن كانت خيرة فإنه يجازى بها في الدنيا دون الآخرة، ولا ريب أن جدل وحجج القرآن هو من النوع المحمود إذ هو لإظهار العقيدة الصحيحة بالحجة تجعل الشيء كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها، لذلك فإن جدل القرآن ليس كجدل المتكلمين، لكنه جرى على عادة العرب المعروفة، فقد نزل بلسانهم، قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، وبأسلوب يفهمه البسيط، ، لأن حججه واضحة كل الوضوح، دامغة لكل شبهة، ومسقطة لأي كذبة، فهي بينة كل البيان، صادقة لا يمتري فيها اثنان، فقائلها العليم الديان، فأسلوب أهل الكلام يفهمه الأقلون، وأسلوب القرآن يفهمه كل من نظر إليه أو سمعه، وأسلوب أهل الكلام المألوف ألغاز في ألغاز، تحتار فيه العقول، وأسلوب القرآن لا يحتاج إلى عميق فكر، فبمجرد التدبر، وانشراح الصدر، يحصل الفهم والإقناع، والقرآن يخاطب العقل والعافية بلفظ واحد وهذا ما لا تستطيعه البشرية في كلامها، ثم أن أدلة القرآن مأخوذة من الكون المشهود، لذلك هي حقائق يقينية قطعية، بينما تبقى أدلة المتكلمين والفلاسفة، ظنية لوقوع الخلاف فيها، ولحاجة مقدماتها هي الأخرى إلى براهين، لما فيها من الشك والوهن، ومن هنا نرى استخدم القرآن مبادئ للتفكير السليم، بما فيه من تصورات كونية وتصورات شرعية حقيقية لا زائفة، فهو الصدق المطلق وما خالفه فهو كذب مقلق.

والقرآن لا يعالج جانبا واحدا من جوانب الموضوع، بل يعالج كل الجوانب بلا شطط، وهو إذ يعالج يعطي كل جانب حقه، وبالتالي فإن التصور القرآني متوازن في ذلك.

والقرآن عندما يخاطب المشركين لا ينطلق من مسألة الضلال المطلق المخيم عليهم، من منطلق إنهم يملكون بعض الحقيقة وإن عراهم اللبس فيها، ومن منطلق فطرتهم السليمة، وصدق الله إذ يقول: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ )

- See more at: http://www.alro7.net/ayaq.php?langg=arabic&sourid=34&aya=24#sthash.q5NiEQfa.dpuf

وقد سيقت حجج القرآن من أجل إبطال الشرك وتقرير عقيدة التوحيد، وإثبات البعث، والرد على منكريه، وأبطال تقليد المشركين لآبائهم، والرد على بني إسرائيل في اقتصارهم على اتباع دينهم ومعارضتهم لدين الإسلام رغم أنها جميعا تنبعث من مشكاة واحدة، ومن أجل أبطال مزاعم أهل الكتاب بأن لهم الجنة دون المسلمين، والرد على منكري الوحي على شتى طوائفهم.

وتمتاز الحجج القرآنية بمخاطبتها للعقل والوجدان بكلام واحد، وقوة أثرها عليهما، كما إنها واضحة لكل فرد على مختلف المستويات من أعمار ومن مال وجاه، ولا تحتاج كعلم الكلام إلى مقدمات، ولقوتها ووضوحها تلزم الخصم للانصياع لها، إذا سمع لصوت الفطرة وصوت العقل اللذين يتجلجلان في خلجات نفسه، وهذه الحجج متكاملة فيما بينها فهي موجودة في العقيدة و الأحكام التكليفية، وهي شاملة تضمنها أمور العقيدة والشريعة، وتمتاز بعرض مختلف الأدلة في القضية الواحدة.

ولا يقتصر أسلوب عرض الحجج على المناظرة والجدل، بل يتعدى ذلك إلى القصة والحوار، فالمناظرة مثل ما وقع بين سيدنا إبراهيم عليه السلام و النمرود، أما الحوار فمثال حوار ربنا جل وعلا مع الملائكة عند خلق آدم عليه السلام، ومثال القصة، قصة بقرة بني إسرائيل حيث سيقت لإثبات البعث، قال الله تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، والأسلوب الرابع هو أن يسوق الله سبحانه الحجة من غير تعلق بحوار أو قصة أو حوار، كمثل سوقه للآيات الكونية المختلفة كدليل على الغيبيات والعقائد.

وبالجملة فإن الاحتجاج القرآني في ألفاظه يشكل اعجازاً دالاً على أن القرآن من عند الله ومبرهناً على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وفي الحلقة المقبلة يكون الكلام عن القياس بالتمثيل في القرآن، إن شاء الله.