أفكار وآراء

المنحة      

21 يونيو 2017
21 يونيو 2017

مصباح قطب -

لا يزال الطابع الأبوي يحكم الكثير من العلاقات بين المرؤوسين والرؤساء في منظمات وشركات الأعمال العربية وفي الدواوين والمصالح الحكومية المختلفة. لم تترسخ بعد ثقافة الأعمال العصرية ذات الطابع التعاقدي الواضح والمحدد، والمعروف فيه سلفا لطرفي العلاقة ما هي الحقوق وما هي الواجبات، وما هي المهام وما هي العوائد ؟ ما الحوافز المادية والمعنوية، وما هي العقوبات والجزاءات. لا أدعي ومن خبرة الواقع والحياة أن الطابع الأبوي سلبي كله، لكن فقط أقوم بالتوصيف الدقيق للوضع الى أن نستخلص ما يجب استخلاصه من عبر للمستقبل .

يجسد الحالة الأبوية في علاقات العمل خير تجسيد ما كان يحدث منذ سنوات بعيدة حين كان رئيس الدولة المصرية يخطب أمام العمال وقيادات الدولة في مناسبة عيد العمال، وفي مرحلة ما من الخطاب يقوم احد الحاضرين من النقابيين بالسؤال عن المنحة (المنحة يا ريس!) أي ما سيمنحه الرئيس للعمال من مكافآت نقدية بتلك المناسبة. استمر هذا التقليد لأكثر من ثلاثين عاما وبنفس الطريقة وذات الإيقاع وبكل تفصيل السيناريو الى أن قام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في أواسط التسعينات بتغيير قواعد اللعبة على الهواء إذا أعلن قبل ان يقول مطالب من القاعة: أين المنحة؟، تحويل المنحة السنوية الى علاوة دورية تضاف الى المرتبات والأجور حتى تستقر علاقات العمل ولا يكون العمال بحاجة الى المطالبة في مناسبة عيدهم. ومع ذلك لم تتغير المعادلة كما كان يتصور من حللوا تصرف الرئيس والذي كان له منطقه العصري بكل تأكيد .فما حدث ان نداء المنحة هذا انتقل الى مطالبة بالمنحة لدى المستويات الأقل ..بمعنى أن موظفي أو عمال أي مصنع أو إدارة أو هيئة أو مصلحة يطالبون رئيسهم المباشر في نفس الإدارة أو الأعلى في الجهة بالمنحة، وخاصة في الفترات التي يزيد فيها الإنفاق العائلي مثل الأعياد الدينية ودخول المدارس أو قدوم شهر رمضان الفضيل. وتدور مناورات كلامية بأساليب لا تنتهى للحصول على المنحة أو أي مكسب مادي في تلك المناسبات، ليعين على مواجهة المتطلبات خاصة مع ارتفاع التضخم. ويدخل الشعر على الخط في مثل تلك المطالبات، بل والفن والكاريكاتير والحكم المأثورة والأمثال الشعبية والمقتبسات الفيلمية والمسرحية وكل فنون الاستعطاف التي يعرفها أو يتقنها بمعنى أدق الموظفون مع تقسيم أداور مبهر حقيقة ما بين تشدد أو مطالبة بلغة هادئة.

يناشد الموظفون عادة في الرئيس الأعلى لهم “ الأب والإنسان والحكيم والمحنك وقائد المسيرة ورب الدار وقائد القافلة والملاح “ وغير ذلك، ولا أظن انهم يخسرون في اكثر الأحوال . صحيح أن بلادنا العربية وبأشكال مختلفة تنتقل شيئا فشيئا الى علاقات عمل اكثر وضوحا ومعايير تعيينات وتقييم أرقى وأبعد عن أن تكون شخصية أو انطباعية، ويوما وراء يوم يرفض الجيل الشاب من الموظفين والعمال أسلوب المنحة ويبحث عن حلول ذات منطق عصري ومختلف لقضايا الأجور مع تقبل يرتفع باستمرار لفكرة تسعير المهارات والأجر والتضخم والإنتاجية وترابطهم معا والتقسيم العادل للدخول ما بين عوائد العمل وعوائد الرأسمال، لكن يظل الطابع الغالب حتى الآن وكما أشير هو الطابع الأبوي. في بلاد الشرق عموما يتعين تكييف القواعد العالمية أو المعايير المستقرة مع الواقع الاجتماعي بشرط عدم تفريغ ما هو عالمي من مضمونه بحجة تكييفه مع الواقع المحلي. ان ذلك واحد من أهم مفاتيح تحقيق التقدم بسلاسة وتقليل المقاومة السلبية للتغيير ولا يوجد ما يمنع أبدا من تمثل وهضم النزعة الأبوية هذه في قواعد العمل بما لا يخل بترابط المعايير الدولية للعمل اللائق من جهة، أو بالعلاقات الصحية والتقاليد الإيجابية داخل مؤسسة الأعمال من جهة أخرى. وكثيرا ما رأينا كيف تلعب العلاقات الأبوية في كيانات كبيرة حكومية أو حتى خاصة أدوارا إيجابية في التصدي لأزمات حادة تمر بها الجهة أو خلال أوقات عصيبة يكون المطلوب فيه إنجاز أعمال يصعب بكل المعايير العادية إنجازها في الوقت المحدد أو التكلفة المحددة. فالتقارب الاجتماعي السليم يزيد من رغبة الجمهور العامل في تحمل أعباء صعبة في الأوقات الصعبة ولا تستطع قواعد العمل العادية ان تفسر ذلك أو تقدم بديلا له مهما اجتهد مديرو الموارد البشرية في ابتكار برامج للتحفيز المادي والمعنوي للعاملين تجعلهم يقومون بالصعب الذي أشرت إليه.

لكن في ظل الطابع الأبوي أيضا يصعب تطبيق ميزان عادل للثواب والعقاب، و لا يمكن إنكار ذلك، فكثيرا ما يضغط العاملون على رب البيت/‏‏ العمل أو رئيس الجهة، لرفع جزاء موقع على موظف “ عشان ولاده أو ظروف بيته “،  أو إعادة موظف مفصول، أو ترقية موظف لا يستحق، بل وتقرير مكافأة بلا سبب حقيقي لموظف، لنفس الأسباب (بيته و أولاده)، وهذا أمر في المجمل غير عقلاني وغير مقبول لكن ما نجده في الأوقات الصعبة من إنجازات يقوم بها العاملون مدفوعين بتقديرهم للاب كما قلت يحير العقل.. هل نترك هذا النمط يستمر أم نقضي عليه ونحل ما هو حديث ويعمل به اغلب الكيانات في العالم كله؟. الإجابة تحتمل اجتهادات مختلفة وبل ولعلها تتغير في الظروف المختلفة فحين يواجه المرء موقفا يضار فيه في تعامله مع جهة حكومية ويكتشف انه يصعب ان تتم مجازة المقصر معه مثلا بسبب الطابع الأبوي السائد في الجهة فإن المرء يصب جام غضبه على الأبوية في علاقات العمل، وحين يجد موقفا آخر يقوم فيه العاملون مع رئيسهم بعمل إنساني أو وظيفي كبير بطريقه غير نمطية وتحت تأثيرات عاطفية يكون له رأي آخر، وفي ظني أن الأهم من كل ذلك هو استخلاص الجوهر الكامن في القيم الاجتماعية الموجودة في كل مجتمع أو مؤسسة وتحويلها الى قوة دافعة في العمل وفي علاقات العمل . والمعول عليه في النهاية هو تنافسية الجهة وهل تنجز أعمالها بالمستوى الذي يقوم به المنافسون أو النظراء أم لا ؟ . كيف نأخذ ما هو إيجابي في الطابع الأبوي ونحيد الآثار السلبية وأخطرها ضعف المساءلة وتراجع التنافسية وعدم انتظام دورة الأعمال أو وتيرة الإنتاجية.

مناسبة كل ما تقدم بالطبع هي قرب عيد الفطر المبارك أعاده الله عليكم وعلى الأمة العربية والإسلامية باليمن والبركات، وقد رأيت توا على صفحات العاملين بإحدى الجهات الحكومية المهمة في مصر ما دعاني الى مشاطرة القراء كل تلك التأملات. فالعاملون يأملون في حافز أو مكافأة قبل العيد تساعدهم على شراء احتياجات أولادهم وبيوتهم والجهة تسعى الى ان لا تجعل خيط الأمل ينقطع عندهم بيد ان مرور الوقت يزيد من لهجة الإلحاح ومن تكثيف استخدام الأدوات التأثيرية حتى تسارع الجهة بإقرار هذا الحافز . انه موقف صعب فما من شك ان للجميع الحق في ان يعيشوا في مستوى معقول ولا يجدون عنتا فى تدبير الاحتياجات الأساسية من مسكن وملبس وغذا ء وتعليم وصحة لهم ولأبنائهم، وفي المقابل لابد ان تكون هناك محددات عملية لصرف أي حافز ترتبط بالظروف المالية للجهة وللحكومة ككل ومستوى الأداء وطبيعة الحوافز في الجهات المختلفة في مثل تلك المناسبة، وحيثيات قانونية مؤيدة للصرف . لكن في آخر المطاف ووفق تحليل شخصي لسيرورة الأعمال فإن الواضح لي ان العاملين يفضلون بالفعل نظاما تحفيزيا مستقرا ومدروسا وله أبعاد واضحة وملامح محددة وتكليفات صارمة يقابلها إثابات معتبرة على المناشدات الموسمية هذه ولهذا فإني متفائل بالتحول الذي يجري ولابد للجهات العامة والخاصة ان تشجع ذلك ولا تهمل كما قلت الإفادة من القوة الدافعة ألتي يولدها المنطق الأبوي في الأوقات العصيبة بل وأيضا أثره الإيجابي في تفادى مازق ومشكلا ت وتوترات. والله من وراء القصد.