1039756
1039756
المنوعات

صاحب «قطعة ليل»: هذا ما جرى حينما اصطحب البساطي صديقه جورج إلى مائدة الرحمن

20 يونيو 2017
20 يونيو 2017

الكاتب المصري أحمد الخميسي يتحدث عن الفرق بين رمضان في مصر وروسيا -

القاهرة - حسن عوض -

حينما يتعلق الأمر بشهر رمضان يتذكر الكاتب المصري الكبير أحمد الخميسي حكاية طريفة سمعها من الروائي الراحل الكبير محمد البساطي. كان البساطي مع أحد أصدقائه المسيحيين ويدعى جورج، وقررا أن يذهبا إلى مائدة رحمن. هناك انتظرا قليلاً قبل المغرب حتى وضع القائمون على المائدة أطباق الأرز والخضار واللحم أمامهما. جورج سأل البساطي بصوت عال: «مفيش شوكة وسكين؟!»، فأجابه البساطي: «كُل وأنت ساكت يا عم جورج». انتبه الناس إلى أنه مسيحي بالطبع.. ولم يعترضوا، غير أن أحدهم قال ضاحكاً: «طب أنت بتتعالى علينا ليه يا عم جورج؟!».

يقول الخميسي إن هناك اختلافاً كبيراً بين رمضان قديماً والآن، هو بالضبط قدر الاختلاف بين المجتمع المصري منذ سنوات، والمجتمع الحالي، ويضيف: «كنا ننزل للاحتفال إلى الشارع بالفوانيس، أذكر أن كل أطفال شارع السروجي بالجيزة، حيث أسكن كانوا يتجمعون منذ اليوم الأول، وفي يد كل منهم فانوس، كان بإمكاننا مشاهدة مجموعات أطفال مثلنا في كل شارع. كان رمضان قادراً على لمِّ شمل الجميع، كنا نتعامل مع الفانوس باعتباره طقساً رئيسياً، إذا امتلكت الفانوس فهذا يعنى أنك في رمضان، والعكس صحيح».

يضحك: «كان لدينا صديق اسمه علي، ظل يحضر إلينا لمدة ثلاثة أيام بدون فانوس، كانت ظروفه صعبة، وبالطبع كان الحزن يبدو واضحاً على وجهه، ولم يكن بأيدينا شيء لنفعله له، غير أنه حضر فجأة بفانوس، وسأله أحدنا: من أين أحضرته يا علي؟! فقال: صديقنا حسين نسيه على سلم منزله، فقلنا له إن هذا خاطئ ولا بد أن يعيد الفانوس فوراً، فيرد قائلا شيئاً عجيباً للغاية: أنا عندي استعداد أعمل أي شيء لإرضاء ربنا. كان هذا فهمه، أنه بدون فانوس بعيد عن طقوس رمضان، وكان لا بد أن يتصرف بأي شكل، حتى ولو من خلال السرقة، غير أننا أفهمناه خطأه، واعتذر لحسين».

يرى الخميسي أن هذا الطقس، طقس الفانوس، اختفى تماماً، والتواصل الاجتماعي أخذ أشكالاً أخرى بين الناس في رمضان. يعلق: «كان شهراً لتجديد العلاقات والغفران، وتصفية الخلافات مع أصدقائك وأقربائك وكل من تعرفهم، مهما كان حجم الخلاف، ثم إنه كان يمثل لنا قديماً البديل عن الفن، فلم نعرف وقتها سوى الإذاعة، والتلفزيون لم يدخل إلا في الستينات، ولم نكن نعرف السينما، كنا نجلس لنقصّ على بعضنا ما سمعناه في الإذاعة أو ما قرأناه، كنا نتبادل النكات، وكان هناك شيء فني في كل ما نتبادله من أحاديث في ذلك التوقيت... لكن يظل الشعور بأن رمضان له رهبة وحرمة، الناس تدخل خلاله إلى غرف الحقيقة للاعتراف ومراجعة أنفسهم».

منزل والد عبدالرحمن الخميسي كان قبلة للمثقفين. يقول: «كان منزلنا عبارة عن جراج، معظم الناس في الحياة الثقافية مرّواَ به، وباتوا فيه، أذكر أن عبدالرحيم منصور على سبيل المثال ظل مقيماً لأكثر من شهرين، أمل دنقل كان دائم الحضور أيضاً، الأبنودي كان يمر أحياناً، وكذلك يحيى الطاهر عبدالله، وسلوى بكر، وبالطبع أحمد فؤاد نجم».

يحكي قصة ساخرة أخرى جرت أحداثها في رمضان. كان أحمد فؤاد نجم مصراً على إضحاكهم. قال لهم إنه سيرتدي بلوزة وجيبة، وسيضع شعراً مستعاراً. وطلب منهم السير خلفه بمسافة أمتار لمراقبة ما سيجري. واختاروا شارع عدلي بوسط البلد. كان الوقت متأخراً، الساعة الثانية صباحاً، وكان غريباً أن تسير امرأة بمفردها في هذا التوقيت. اقترب أحد الأشخاص من نجم، ثم رأى ملامحه الذكورية التي لم يستطع الشعر المستعار أن يخفيها ولو جزءاً بسيطاً منها، وأطلق صيحات ذعر، وجرى حتى اختفى من أمامهم، كأن عفريتاً يلاحقه.

يقول الخميسي: «كان نجم صديقنا، وأذكر مثلاً أنه أثناء مظاهرات الطلبة أغلقنا عليه غرفته وقلنا له إنه لن يخرج حتى يسلمنا أغنية تصف ما يجري، ثم سمعنا طرقه على الباب، وقال لنا من الداخل إنه سيكتب الأغنية بشرط أن نحضر له سجائر وشاياً، وقد فعلنا، وبعد نصف الساعة بالضبط سلمنا أغنية: رجعوا التلامذة يا عم حمزة».

حينما اندلعت مظاهرات الطلبة في عام 68 كان الخميسي على وشك أن يبدأ عامه الدراسي الثاني في قسم الفلسفة جامعة عين شمس، ثم قبضوا عليه، واستمر في المعتقل ثلاث سنوات، مع أحمد فؤاد نجم، وصلاح عيسى، وآخرين، وبعد خروجه شعر بأنه سيعود إلى السجن مجدداً، لأنه شخص مشاكس. يقول: «شعرت أيضاً بأن هناك شيئاً آخر بداخلي يريد التعبير عن نفسه، وحتى أحسم الصراع مع نفسي قررت السفر إلى روسيا، ولمدة ست سنوات درست الأدب في جامعة موسكو، واحتجت أيضاً لثلاث سنوات أخرى للانتهاء من رسالتي للدكتوراة، وقررت العودة، غير أنني لم أكن أمتلك شيئاً بالقاهرة، وفكرت في العمل بالعراق أو ليبيا، ولكنني اخترت في النهاية الاستمرار بموسكو للعمل كمراسل لإذاعة وجريدة عربية، حتى استطعت شراء شقة صغيرة بالقاهرة، وهكذا قررت العودة في مطلع التسعينات».

يقول الخميسي إن الغربة تجعل الناس أكثر تشبثاً برمضان، كنا، نحن المصريين، نبحث عن بعضنا البعض في روسيا، ونطبخ الأكلات المصرية سوياً. لم يكن الروس يعرفون (الفول المدمِّس)، ولكنهم كانوا يبيعون الفول في أماكن معينة كأعلاف للخيل، وهكذا كنا نذهب إلى هناك ونشتري الأعلاف ثم نطبخها».

يواصل الحكي: «في إحدى المرات اقترح أحدنا أن نأكل فتَّة. لم يقف أمامنا شيء. أحضرنا رؤوس الماشية التي سنضيفها إلى الفتة، كان مشهداً مبهجاً حتى ظهرت صديقة روسية. كانت تصرخ فينا: يا إلهى، أووه، ما هذا، هذه بربرية، هذه وحشية، وضد الإنسانية؟ ماذا تفعلون؟! وقلنا لها: لا شيء يخصك في الأمر، لا تأكلي معنا، يمكنك أكل طعام آخر، ثم ذهبنا لتجهيز بعض الأطباق الأخرى قبل الإفطار، وحينما عدنا فوجئنا بأنها مسحت الطعام من فوق الصينية، لم تلقه في القمامة، ولكنها أكلته، أو بشكل أدق: أجهزت عليه، كنا سنموت من الغيظ، ولكننا لم نستطع منع أنفسنا من الضحك». يرى الخميسي أن رمضان في الخارج يكتسب معنى آخر أكبر من المعنى الديني، وهو المعنى الوطني: «يجعلك تبحث دائماً عن وطنك. تحاول بكل الطرق إظهار ذلك الجانب فيك، أقصد انتماءك الوطني». وحول قراءاته وما يكتبه في هذا الشهر يقول: «رمضان يولد فيَّ إحساساً كبيراً بالتركيز، ولكنه لا يغير من نمط قراءاتي.. وخلال هذه الأيام انتهيت من قراءة روايتين للكاتب السعودي الحاصل على البوكر محمد حسن علوان: موت صغير، وطوق الطهارة»، وينهي قائلاً: «رمضان يعطيني فسحة من الوقت، غير أنني لا أفعل شيئاً غريباً أثناءه، ولا أغير من عاداتي، وحالياً أكتب عملاً كبيراً على مستوى الحجم، لا أريد أن أسميه رواية، فهذه الكلمة ترعبني، وهو عمل يستفيد بمحطات من حياتي ومشاهداتي، وأتمنى أن أنتهي منه قريباً». أصدر الخميسي عدداً من المجموعات القصصية منها «الأحلام الطيور الكرنفال» عام 67 بالاشتراك مع أحمد هاشم الشريف وأحمد يونس، «رائحة الخبز» عن هيئة قصور الثقافة ديسمبر 1999، و(قطعة ليل) «دار ميريت» 2003، ترجم عن الروسية «معجم المصطلحات الأدبية» ونشر في أعداد متوالية من مجلة (أدب ونقد) عام 1984. ترجم «المسألة اليهودية» للأديب العالمي دوستويفسكي. أصدر أيضاً «قصص وقصائد للأطفال»، اتحاد الكتاب العرب دمشق عام 1998.