روضة الصائم

أدب قضاء: فيما للقاضي وما عليه (15)

19 يونيو 2017
19 يونيو 2017

زهران بن ناصر البراشدي/ القاضي بالمحكمة العليا مسقط -

ومما استدل به القائلون بالجواز أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فحكم لها من غير بينة ولا إقرار؛ لعلمه بصدقها.

وجه الجواز: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بعلمه فيما سبق ذكره؛ ولو لم يكن جائزا لم يحكم، وبأنه يجوز للقاضي أن يقضي بالبينة، فيجوز القضاء بعلمه بطريق الأولى، لأن المقصود من البينة ليس عينها، بل حصول العلم بحكم الحادثة. وعلمه الحاصل بالمعاينة أقوى من علمه الحاصل بالشهادة، لأن العلم الحاصل بالشهادة علم غالب الرأي وأكبر الظن، والحاصل بالحس والمشاهدة على القطع واليقين، فهو أقوى، فكان القضاء به أولى.

ويعترض على هذا الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه في قضية سعد وعبد ابن زمعة في ابن وليدة زمعة، وإنما حكم باعتراف سعد بأن أم الغلام كانت فراشا لزمعة والاعتراف أقوى الأدلة، إذ كان افتراشه لها مشهورا ولم ينكره سعد، وأما قضية زوجة أبي سفيان فكانت في واقعة البيعة وفي بعض رواياتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلا عليها: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» الممتحنة 12، قالت هند: لا أبايعك على السرقة فإني أسرق من زوجي فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مبايعتها حتى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه.»

وقد اختلف أهل العلم في تأويل هذه القصة التي لم يذكر فيها السرقة والاستحلال هل هي حكم من الرسول صلى الله عليه وسلم أم فتوى فقط وعلى فرض أنها فتوى فهي خارج عن الاستدلال، والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال.

وأما رواية ابن عباس في قصة الرجلين فلا دليل فيها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بالوحي لا بمجرد العلم إذ جاء فيه ما نصه: «.. فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنه كاذب إن له عنده حقه. وأمره أن يعطيه حقه» كما مر آنفا.

ومذهب الإمام أبي حنيفة: أنه يجوز للقاضي في حقوق الآدميين أن يقضي بعلمه الذي استفاده في زمن القضاء وفي مكانه، ولا يجوز له القضاء بعلمه الذي استفاده في غير زمن القضاء، وفي غير مكانه، أو في زمن القضاء في غير مكانه، وعلل ذلك بأن هناك فرقًا بين العلمين، فإن العلم الذي استفاده في زمن القضاء ومكانه علم في وقت هو مكلف فيه بالقضاء، فأشبه البينة القائمة فيه، والعلم الذي استفاده قبل زمن القضاء هو في وقت غير مكلف فيه بالقضاء، فأشبه البينة القائمة فيه.

وقال المخالفون: إن العلم في الحالين سواء.

وقال الحنفية: إن المعتمد عدم حكم القاضي بعلمه في زماننا لفساد قضاته.

وما قاله المتأخرون من جواز قضاء القاضي بعلمه هو بخلاف المفتى به وذهب بعض المالكية إلى جواز قضاء القاضي بعلمه الذي يحصل بين يديه في مجلس القضاء، كالإقرار. ولكن ذلك في الحقيقة ليس حكمًا بعلم القاضي، وإنما هو حكم مبني على الإقرار.