روضة الصائم

علم المنطق: هل الدين يوحد الناس أم يفرقهم؟

18 يونيو 2017
18 يونيو 2017

علي بن سالم الرواحي -

إن الدين الإسلامي دين فكر وعلم وعمل، متفتح على جميع العلوم البشرية المفيدة، ومن ذلك علم المنطق، جاء لعمارة الأرض وفق منهج سماوي مستقيم، يضمن السعادة للصالحين في الدارين.

تكلمنا فيما سبق عن العلم وأقسامه، وأن الله لا يبتلينا بدون العلم، بل أنزل سبحانه علينا القرآن وسطر فيه جميع الأشياء مفصلة أو مجملة، وعرفنا أن الاختلاف في الدين وقع بعد العلم، أي أن من أسبابه الجهل وهو الجهل المركب، وسنتكلم هنا عن اختلاف الناس في دين الله. كان الناس الأولون أمة واحدة، قال الله تعالى:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، نقِل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ. فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين)، وغاية ما في الأمر أن الناس كانوا مختلفين قبل النبيين، وكانوا قبل اختلافهم، أمة واحدة مهتدية، قال الله تعالى:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، وقال تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، قال الله تعالى أيضاً:(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، وصراط الله واحد جامع، قال سبحانه:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، باستقراء هذه الآيات نجد أنها تدل على وجوب الاجتماع والوحدة، وأن الدين يوحد ولا يفرق حتى إنه يمنع معاملة أعداء الدين بالاعتداء وإنما تكون معاملتهم بالقسط والبر، لكن يرد اعتداءهم إذا اعتدوا مع مراعاة مكارم الأخلاق في التعامل معهم دائماً، والصبر فيه خير كثير، والدين في المعاملة لا يعترف باللون ولا بالعرق ولا بالمال ولا بالديانة، فلا يجوز الاعتداء على غير مسلم إن سالمنا، كذا لا يجوز السكوت على مسلم إن اعتدى، لأن أصل الناس واحد وجميعهم سواسية في الحقوق والواجبات الإنسانية، ولا يقتصر التوحد بسبب الدين على البشر، بل يشاركه كل الكون من أحياء وجمادات فكل يسبح بحمده، هذا هو قانون الكون، ولم يخرج عن الطاعة إلا القليل من البشر والجن، ولذا فإن المؤمن ينعم بوحدته المتناغمة مع الكون، هذا ولا تعني الاختلافات المذهبية أن الدين يفرق لأن لا إنكار في الاختلاف في الفروع والاجتهاد بل هو محمود، بل هو رحمة وسعة ومرونة. أما الخلافات الأصولية المتنافرة المذمومة جاءت عن الفهم الخاطئ للكتاب والسنة وآثار العلماء الأولين وليست عن الدين، إلى جانب الانجرار خلف أذناب الهوى والدنيا والنفس والشيطان، ومن التخرص والتقليد الأعمى، وقد جاء هذا في السياقات القرآنية. وهكذا جاء اختلاف أهل الكتاب بعد علم تشككوا فيه ولم يترسخ فيهم ولم يسلموا الأمر إلى الله، قال الله تعالى:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) وقال الله تعالى:(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا)، فهؤلاء القائلون بالجبر قالوه عن غير علم، وما يثبته المنطق والعلم إننا أحرار مريدون في أعمالنا ولسنا مكرهين، ثم يعلم الله نبيه الكريم في رده على هؤلاء المشركين وشبهتهم، بأن يقول لهم:(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، فلله الحجة التي تبلغ كل مذهب وكل مقصد، فالله يريد من الناس أن يتبعوا شرعه، وفي هذا الاتباع وحدتهم من أن تتفرق بهم السبل عن سبيله. ومبدأ الإسلام في الدعوة هو (أعقل لكي تؤمن) بينما مبادئ الديانات الأخرى هو (آمن لكي تعقل). والله قادر على أن يكره الناس على الإسلام كما يستلهم من الآية السابقة ومن قول الله تعالى:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، وإن قلنا أن الدين يوحد، أما كان الأحسن للناس أن يهديهم الله حتى لا تتفرق كلمتهم، أم ماذا؟ والجواب أن مشيئة الله القدرية أو التكوينية أن يقيم الله حجته على الناس، في الابتلاءات الدنيوية، فمنهم من ينجذب إلى قطب الخير ومنهم من ينجذب إلى قطب الشر، وذلك بكامل حرياتهم واختياراتهم، والله يريد الاختلاف لأنه لا يريد أن يجبر العباد على الطاعة، والاختلاف سنة البشر، فيختلفون في الدين نتيجة فهمهم الخاطئ له. والله سبحانه يريد أن يؤمن كل الناس به، فتلك مشيئته الشرعية، قال الله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، إذا لا تضاد بين المشيئتين لاختلافهما في المحل، ففي إحداهما جبر للناس وفي الأخرى اختيارهم، وهذا هو سر ومحك البلاء الدنيوي، ومحمول الجزاء.

وإذا كان القرآن والسنة لا يخلوان من قياس الغائب بالحاضر، فما هو القياس المنطقي، وما هي أقسامه، وما هي قضاياه؟ هذا ما سنعرفه إن شاء الله في الحلقة القادمة.