أفكار وآراء

كيف دمر الاحتلال ديمقراطية إسرائيل؟

13 يونيو 2017
13 يونيو 2017

جيرشوم جورينبيرج -

ترجمة قاسم مكي -

الفاينانشال تايمز -

لقد حدث كل ذلك على حين غرة قبل 50 عاما. أعني نشوب الأزمة بين مصر وإسرائيل والحرب التي بدأت في الخامس من يونيو 1967 وامتدت من جبهة واحدة إلى ثلاث جبهات وسكوت المدافع بعد ستة أيام فقط من اندلاعها ورسم خطوط وقف إطلاق النار التي حددت الأراضي التي استولت عليها إسرائيل في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان وسيناء وقطاع غزة. ففجأة كانت إسرائيل تحتل أرضا خارج أراضيها السيادية وتحكم شعبا يعيش هناك. وولد تعبير رسمي ملطف (كناية) ذلك الصيف.   

فالأرض الجديدة المحتلة ستسمي «المنطقة المدارة»، وفي الخريف لم تعد الخرائط الرسمية تبرز حدود ما قبل الحرب. فالخرائط الجديدة صارت تعبيرا ملطفا أيضا ولكن في شكل مصور. غير أن حقيقة الاحتلال ظلت كما هي. لقد تغير الكثير بما في ذلك حجم الأرض المحتلة.

ولكن بعد 50 عاما لا نزال (نحن الإسرائيليين) نملك احتلالا. أو بالأصح لا يزال الاحتلال يملكنا. لقد أمسك بنا (وضعنا في قبضته). إنه الإدمان الذي لا تملك إسرائيل منه فكاكا. لقد كتب الكثيرون عن الكيفية التي يؤثر بها الاحتلال على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي وكيف أنه يقيد حرية حركتهم وحقوقهم السياسية وأحلامهم. ولكني أود أن أضيف إلى ذلك شيئا أقل وضوحا. فالاحتلال هو ما يمنع إسرائيل من أن تكون ما يمكن أن تكونه. إنه يجرجرنا إلى الأسفل. من المتصور أن الاحتلال كان يمكن أن يكون أقل قهرا وربما أقصر عمرا لولا أن شيئا ما حدث في عام 1967.

فقد بدأت إسرائيل حينها توطين مواطنيها في الأرض المحتلة. لقد اعتقد الاستراتيجيون الإسرائيليون أن المستوطنات ستسهم في أمن إسرائيل. وكان ذلك مفهوما ينطوي على مفارقة تاريخية ويرتكز على الكيفية التي صمدت بها الكيبوتزات (المزارع الجماعية اليهودية) أمام جيوش عربية ضعيفة نسبيا في عام 1948. ولكن حرب يوم كيبور (حرب رمضان) عام 1973 كان ينبغي لها دفن هذه الفكرة. فقد كان على الجيش الإسرائيلي إخلاء مستوطني الجولان في أثناء معمعة القتال مع فرق مدرعة سورية قوية. واليوم من الواضح أن المستوطنات تحولت إلى عبء عسكري متزايد باطراد. فوحدات الجيش الإسرائيلي المتواجدة في الضفة الغربية عليها حمايتهم. ويتم تدوير الجنود الذين تلقى بعضهم تدريبا عاليا لأداء مهام ضرورية، من وحدات أخرى للقيام بمناوبات الحراسة في المستوطنات بما في ذلك المراكز الاستيطانية الأمامية التي توجد بها حفنة عائلات. وبسبب نطاق السرية المضروب لا أحد يعلم تماما كم يكلف هذا الهدر العسكري.

في الحقيقة لا أحد يعلم بالضبط تكاليف المشروع الاستيطاني برمته. فالحوافز والدعومات المالية التي تشجع الإسرائيليين على الانتقال إلى المستوطنات مبعثرة على مختلف بنود الموازنة الحكومية. وكمثال واحد فقط أصدر مؤخرا «مركز أدفا»، وهو معهد للسياسات الاجتماعية في تل أبيب تقريرا يشرح بالتفصيل الكيفية التي تمتعت بها المستوطنات على مر السنين بتمويل حكومي مركزي لموازنات البلديات أكثر كرما من مخصصات المجتمعات المحلية الإسرائيلية الأخرى. ولكن إجمالي تلك الأموال يتم إخفاؤها جيدا.

فمثلها في ذلك مثل المال الذي ينفقه مدمن الخمر على خمرته دون حساب لأنه إذا حسبه سيواجه مشكلته (العواقب المالية لإدمانه). كل ما نعلمه أن إسرائيل بدون هذا الصرف المالي كان يمكن أن يتوافر لديها المزيد من الأموال لإنفاقها في خفض معدل فقر الأطفال بها، وهو الأسوأ في العالم المتقدم وإيجاد وظائف أكاديمية إضافية تحول دون نزيف العقول (هجرة العلماء) وتمديد ساعات اليوم الدراسي وخفض أحجام الفصول. ( فقر الأطفال مفهوم يقصد به ظاهرة الأطفال الذين يعيشون في أوضاع الفقر إما لأنهم من أسر فقيرة أو لأنهم أيتام لا يحصلون على نفقات كافية - المترجم) فنحن كبلد أداؤنا أقل قياسا بما يمكن أن نحققه لو كنا بدون إدماننا (إدمان الاحتلال).

ولكن ربما أن الضرر الأسوأ الناجم عن الاحتلال هو ذلك الذي يؤذي ديموقراطية إسرائيل. فعلى الجهة الأخرى من حدود غير معلمة على الخرائط، تحكم حكومتنا الملايين من الناس الذين لا يمكنهم التصويت. ومع قبول هذا الانحراف المميت ( عن معايير الديموقراطية) واعتباره أمرا عاديا صار من الأسهل إجازة قانون انتخابي عام 2014 استهدف (دون نجاح) إبقاء الأحزاب التي يدعمها المواطنون العرب خارج البرلمان. ويحاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحلفاؤه بانتظام تكميم أفواه منظمة «كسر الصمت» التي تضم قدامي المحاربين وتنشر شهادات الجنود عن الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة. ويمكن جدا لهؤلاء (نتنياهو وحلفاؤه) أن يعلنوا بالصوت العالي تفضيلهم الاحتلال على تقاليد الحوار السياسي الحر والشرس في إسرائيل. كان الفيلسوف والصحفي الفرنسي ريمون آرون قد أجرى في أحد أيام صيف العام 1967 مقابلة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها ليفي أشكول. لقد عثرت على نسخة من تلك المقابلة أو جزء منها في ملفات مكتب أشكول. قال رئيس الوزراء أشكول إذا لم تتمكن إسرائيل من الوصول إلى اتفاق سلام بشروطها مع الأردن «فسنبقي حيث نوجد». وسأله آرون عما إذا لم يكن يخشى انتفاضة شعبية. رد أشكول بقوله «لا.هذه ليست الجزائر». إجابة أشكول أظهرت أنه يعرف الرجل الذي كان يجري معه المقابلة. فقبل عقد من ذلك التاريخ، صدم آرون زملاءه الساسة المحافظين في فرنسا بمقاله الذي كتبه تحت عنوان «المأساة الجزائرية». لقد جادل في ذلك المقال بأن من مصلحة فرنسا التخلي عن مستعمرتها. «فالاحتفاظ بالجزائر بالقوة ينتهك القيم الليبرالية في حين أن « فقدان» الجزائر ليس نهاية فرنسا». إن الضفة الغربية، من نواح عديدة، ليست الجزائر. ولكن رغما عن هذا كان أشكول مخطئا. وتظل ملاحظة آرون صحيحة بالنسبة لإسرائيل والاحتلال. ففقدان الاحتلال ليس نهاية إسرائيل. أما التشبث به فقد يعني ذلك.

• الكاتب مؤرخ وصحفي إسرائيلي. من مؤلفاته «إمبراطورية الصدفة: إسرائيل ومولد المستوطنات، 1967-1977» وأيضا كتاب «تفكيك إسرائيل».