أفكار وآراء

الهجــرة واللجــوء والحلـم الليبرالي

11 يونيو 2017
11 يونيو 2017

د. واصل القعيطي -

تعرّف الهجرة، عمومًا، بأنها: انتقال شخص من دولته الأصليّة إلى دولة أخرى، بُغية الاستقرار بها على نحو مؤقت أو دائم.. سنهتم في هذه المقالة بالضربين من الهجرة، والتحدّيات التي يطرحانها أمام النظرية الليبرالية، وسنعبّر عن صيغة من حلم ليبرالي، وهو: أن يتجه عالمنا نحو انفتاح الدول والشعوب على بعضها البعض، وأن تصبح الحدود بين الدول مفتوحة، قدر الإمكان، وأن يتمتّع كل شخص، مهما كان البلد الذي ينتمي إليه، بحقّ دخول أي بلد في العالم، والاستقرار فيه، متى شاء وطاب له ذاك، وهو حلم، أيضًا، بأن لا يكون أحد في هذا العالم، مُكره على مغادرة بلده وموطنه الأصلي، لأي سبب كان؛ سواء الاضطهاد السياسي، أو العرقي، أو الديني، أو الثقافي، أو لإكراهات اقتصادية، وعدم قدرة بلده الأصلي على أن يوفّر له أسباب تحقيق الذات، والأسس الاجتماعية لاحترام الشخص .

إن ما نحلم به: هو أن تكون الهجرة طوعيّة، ولأسباب شخصيّة وذاتيّة؛ كالحاجة، إلى تغيير نمط العيش وأسلوب الحياة، أو لرغبة في القطع مع الرتابة وضيق الأفق في البلد الأصلي، أو سعيًا وراء فرص الكسب والتألق والإشعاع على الصعيد العالمي، أو غيرها من الأسباب الذاتية لا الموضوعية، وهذا الحلم، الذي سبق أن راود عديد المفكرين والفلاسفة الليبراليين، ليس بعزيز المنال، في نظرنا، رغم المسافة التي تفصلنا عنه، وهو يختلف عن الحلم الكوسموسياسي؛ الذي راود كانط في نص أصدره سنة 1793م، تحت عنوان «النظرية والممارسة»، اعتبر فيه أن مسيرة البشرية صوب تحقيق غرضها الأخلاقي، تقتضي وضع دستور كوسموسياسي للشعوب، يجعل تعايش الحريات دون صدام، في إطار جمهورية كوسموسياسية، وفي كنف قانون كوني، أمرًا ممكنًا . ولو توفر الإيمان بقابلية هذا الحلم بالمواطنة العالمية على التحقق، لأخذ تداولنا، اليوم، في شأن اللجوء والهجرة، ومدى مشروعيتهما، وصواب مسوّغاتهما، منحى مغايرا، لذلك الذي يجري فيه غير أنه، حتى كانط نفسه، قد تراجع في نصّه اللاحق 1797م، «مشروع للسلام الدائم»، عن هذا الحلم، وقصر مدى الحق الكوسموسياسي، فقط، في حقّ الزائر لبلد ما، في إكرام مثواه مدة إقامته فيه المحدودة الزمن؛ كما تبيّن لنا اليوم، أن العالم كلما زاد انفتاحًا، وقويت نسق العولمة فيه، كلما تشبّث الناس بدولهم القومية، وبحدودهم الجغرافية، ورفضوا فكرة الحكومة العالمية الواحدة . لذلك؛ فالحلم الذي عبّرنا عنه، يبدو لنا أكثر واقعية، من الوجهة الكوسموسياسية الليبرالية أيضًا؛ فهذا الحلم يمكن أن يندرج، ضمن ما أسماه رولز بـ(اليوطوبيا الواقعية): التي تنظر إلى الفضاء الدولي، كعالم متشكل من دول قومية، تنضوي داخلها مجتمعات وشعوب سمحة، تحترم حقوق مواطنيها، وتسود داخلها معايير العدل في توزيع الخيرات والثروات الوطنية، وتقيم علاقات فيما بينها، على أساس التعاون والاحترام المتبادل. ورغم ما يعرفه عالمنا اليوم من حروب أهلية دامية، وانقسامات، ومآس، وتشريد، وتهجير، وصعود لقوى قومية متطرفة في البلدان الديمقراطية، التي كانت مهدًا للحلم الليبرالي الذي قدمناه، إلا أن ذلك لا يجب أن يحجب عنا ما حققته البشرية من تقدم، في سبيل عالم يعمّه السلام، ويستقبل فيه اللاجئون بدل أن يصدّوا، وتُصان فيه حقوقهم، وتحفظ فيه كرامتهم، ويُعترف فيه بحقوق المهاجرين، ولا تكون فيه الحرب والقوة، أداة للسياسة الدولية، ولا وسيلة لحلّ المشاكل السياسية الداخلية لدولة ما. ومسألة اللجوء لأسباب إنسانية، وأهميتها بالنسبة إلى الدول؛ التي ضمنت في دساتيرها، التزامًا باحترام حقوق الإنسان بمفهومها الكوني، والاختلاف داخل النظرية الليبرالية؛ بين موقف يدافع عن الحق في الهجرة اللامشروطة، وضرورة اعتماد مبدأ الحدود المفتوحة، وبين موقف آخر ليبرالي، لكنه قومي، يرى ضرورة الاعتراف بحق الشعوب في تقييد شروط الهجرة، ودخول الأجانب إلى بلدانها. لنؤكد، في النهاية، يمكن أن نعتبر أن مدى استعداد بلد ما، لقبول لاجئين لأسباب إنسانية على أراضيه، ومدّ يد المساعدة إليهم، مقياسًا لمدى تحضر ذلك البلد، وتوفر الشعور لدى أبنائه بوجود مصير مشترك .

وتشير عديد من الدراسات، إلى أن اللاجئين الذين اضطروا إلى مغادرة بلدانهم، إثر ثورات الربيع العربي، استقروا، في معظمهم، في بلدان عربية وإسلامية؛ وإذا أخذنا في الاعتبار ما أشارت إليه الباحثة في شؤون الهجرة (كترين ويهتول ويدين) صاحبة موسوعة أطلس للهجرات، الصادر سنة 2016م، أن البلدان العربية والإسلامية، مرشحة أكثر من غيرها لاستقبال العدد الوافر من اللاجئين، كلما حصلت اضطرابات سياسية في بلد عربي أو إسلامي، تهدّد سلامة مواطنيه، وهو ما يقتضي تضامنًا من المجتمع الدولي، لمساعدة البلدان المضيفة، ودعم لقدراتها اللوجستية والمادية، حتى تستطيع أن تتكفل بهذه .

ولا يبدو لنا أن هذا التحوّل في الموقف الغربي تجاه الهجرة، مقترنًا بالتحوّلات التي ما فتئ يعرفها الاقتصاد الرأسمالي، فقط، واتجاهه أكثر فأكثر نحو الاعتماد على قطاعات تستخدم التكنولوجيات المتطورة، وتقتضي كفاءات إنتاجية عالية، ويد عاملة ذات مهارات جيّدة، والتخلي عن الصناعات المعتمدة على يد عاملة ذات كفاءة متدنية، وأجور منخفضة، وإنما، أيضًا، بانحسار تأثير الفكر الليبرالي في الثقافة العامة للمجتمعات الغربية، واسترجاع النزعة القومية المعادية لليبرالية لعنفوانها، ويبدو لنا هذا التراجع مرتبطًا، أيضًا، بصعوبات تجدها النظرية الليبرالية، في تسويغ موقف فلسفي، منسجم ومتناسق، حول مسألة الهجرة.

إن أول الأسباب التي تجعل من الهجرة مشكلًا في البلدان الديمقراطية؛ هو أنها تفرض تكاليف وأعباء على البلد المضيف، ولا تجلب له فوائد فقط، وفي حين يؤكد علماء الاقتصاد أن نتائج حرية التنقل إيجابية، عمومًا؛ لأن وجود أسواق تنافسية للعمل، يدفع نحو الاستخدام الأكثر فاعلية للموارد المتوفرة، وينبّه بعض الدارسين إلى أن تدفّق المهاجرين، لا يفيد كلّ الدول على نحو مباشر، وعلى حدّ السواء، كما أن الأعباء والتكاليف التي يقتضيها استقبال اللاجئين، ومواءمة متطلباتهم، لا تقع على كاهل جميع مواطني الدول المضيفة، على قدم المساواة؛ إذ يتحمل آثارها بعض المواطنين، أكثر من البعض الآخر، وفق هوية المهاجرين، وتوزيعهم الجغرافي، والقطاعات الاقتصادية؛ إذ سيتنافسون فيها مع المواطنين الأصليين، في مواطن الشغل، واستخدام المرافق العمومية المتوفرة، فضلًا عن ذلك، يوجد سبب آخر يجعل الهجرة مشكلًا بالنسبة إلى الدول بدرجات متفاوتة؛ ففي هذه المجتمعات، تُوفر الدولة أو تضمن جملة من المنافع العامّة، وتشمل هذه المنافع المهاجرين، بوصفهم مستفيدين محتملين من هذه المنافع والخدمات، حينما تقبل مطالبهم في الإقامة، لذلك؛ يتعين على كل دولة مضيفة، أن تأخذ في الاعتبار هذه الحاجات المتزايدة لتلك الخدمات والمنافع، وقدرتها على تلبية طلبات هؤلاء المهاجرين، لذلك؛ تركزت النقاشات والمجادلات الأكاديمية، حول الهجرة في الفترة الأخيرة، على السؤال حول القيود المفروضة على الهجرة، وحول مدى انسجامها مع الليبرالية، وقد برز، في هذا الصدد، موقفان داخل الفلسفة الليبرالية:

- موقف ينادي بفتح الحدود؛ لأن تقييد حركة المهاجرين، يتضارب مع حقّ أساسي من حقوق الإنسان، وهو: حق التنقل في العالم.

- موقف يدافع عنه قوميون ليبراليون: يرى أن تقييد الهجرة، لا يتنافى مع الليبرالية؛ لأنها ضرورية لحماية خيرات عامة، ذات أهمية بالغة لاستمرارية المجموعة، مثل؛ الثقافة القومية المشتركة، أو نظام توزيع الثروة، والموارد، والدخل القومي، بين الشركاء في الوطن. ويعكس الاختلاف بين الموقفين تجاه قضية الهجرة، التوتر القائم في صلب النظرية السياسية الليبرالية، بين وجهتين أخلاقيتين؛ الأولى: كونية، والثانية: ذات منحى خصوصي.