المنوعات

«ضفاف» :كتابة معطرة بالمحبة

08 يونيو 2017
08 يونيو 2017

ماجدة الجندي -

لم أكن قد قرأت كتاب عمر طاهر، الكاتب المصري، متعدد الموهبة «صنايعية مصر» وقت صدوره قبل بضعة أشهر، بسبب ظروف سفر، لكني تابعت ما أحدثه من صدى واسع سواء في مكتبات القاهرة أو من خلال أجهزة الإعلام والشاشات. وحين توقفت مع الكتاب تعرفت إلى نوع من «الكتابة المعطرة بالمحبة»، في هذا العمل بالذات.. محبة وود غامران نثرهما عمر طاهر علي من اسماهم بصنايعية مصر، وتسللت القطرات إلى المتلقي.

عمر طاهر، في جيله ظاهرة لديها إمكاناتها الخاصة.. هو يكتب بنكهة تخصه، وله أيضا، أشرعة فنية تتجاوز الكتابة إلى الأفق الفني الأوسع الذي الذي تضعه بمنتهى البساطة في حزمة الفنانين الشاملين وهم ندرة.

عرفته قبل اقل قليلا من خمسة عشر عامًا.. أيامها كان يعمل في مجلة نصف الدنيا، التابعة لمؤسسة الأهرام..

وكانت معالجاته الصحفية تكشف عن «عين» ترى بما يتجاوز العين الصحفية، العابرة، علاوة على موهبة حاضرة في التقاط المس الساخر، وكنت وقتها أتشرف برئاسة تحرير الإصدار الموجه للأطفال والتابع لمؤسسة الأهرام أيضا «إصدار علاء الدين»، تعاونا معا في إصدار ملحق صيفي، لإصدار علاء الدين واخترنا له اسم «سمر».. سمر من المسامرة وسمر أي صيف بالانجليزية..

كشف طاهر في الملحق عن قدرات هائلة في توظيف المتعة باتجاه الجدية، أو إكساب الجاد، صبغة ممتعة، وهكذا نجحت المعادلة نجاحًا هائلًا.. عمر قصاص وكاتب سينما وشاعر وصحفي وصاحب برامج إذاعية وتلفزيونية.. لكن له كتابًا حقق أرقاما غير عادية في التوزيع، حمل عنوانًا ساخرًا دون مواربة «شكلها باظت» مستثمرًا سياقًا سلسًا للتعبير عن أمور جادة، غلفها بنكهته الخاصة في الكتابة وشق به سكته الخاصة في عالم الكتب، ككاتب سوف تتوالى مساهماته التي ترسخ لنوعية من الأعمال أظنه انفرد بها، حملت إلى القارئ سلاسة، ومسا من السخرية الراقية والعميقة في آن واحد، لكنه في آخر ما أصدره عن دار الكرمة القاهرية، اختار أن يمزج معنيين، ويصبهما في قالب واحد، كان بمثابة رسالة ذات مغزٍ نبيل هو التحية والتقدير لأسماء أنجزت وأضافت، هم بعض من «بناة» مصر بحسب تعبيره الذين لم يحصلوا على نصيبهم من الضوء والمحبة، والاعتراف بالفضل»، فقرر أن يقوم هو بتلك المهمة، أن يضعهم في بؤرة الاهتمام، في لحظة تراءت له في احتياج إلى بعث قيمة التقدير من ناحية، وقيمة العمل المتقن الذي يستحق من يقوم به وصفًا مصريًا عتيقًا هو «الصنايعي». «الصنايعي» في القاموس الشعبي المصري ليس مجرد متقن للصنعة، لكنه «مبدع» فيها.. فنان فيها.

من هنا، كتب عمر طاهر عن أناس في مجالات شتى، بعضهم رحل والقليل منهم مازال على قيد الحياة والرابط بينهم هو ما أحدثوه من أثر عميق في الحياة. سوف يندهش القارئ حين يراه يشكل باقة أزاهيره من صنايعية مصر، ممن لا يمكن بالفعل أن يجمعهم غير الأداء المبدع..

فما الذي يربط اندريا رايدر أشهر موزعي موسيقي الأفلام بمحمد سيد ياسين مؤسس صناعة الزجاج بمصر..

أو ما هو الرابط بين أبلة نظيرة صاحبة أشهر وأقدم كتاب عن الطهي وأول مبعوثة مصرية إلى انجلترا لدراسة فنون الطهي والمليونير أبو رجيلة مؤسس صناعة الأتوبيسات.. وهكذا يكتب عمر عن المهندس صدقي سليمان واحد من أشهر أن لم يكن الأشهر في بناء سد مصر العالي، وعن فنان المسرح بديع خيري وصيدناوي صاحب المحلات الشهيرة، وجوززيف ماتوسيان صاحب أقدم مصنع للأدخنة، وسعد لبيب أول مدير للتلفزيون المصري.

حوالي اثنان وثلاثين شخصية، حملت الكتابة عنها إلى جانب «عطر المحبة»، امتنانًا وتوثيقًا لكل المصادر التي استعان بها عمر طاهر، وهو أمر محمود استلزم تقصيا دؤوبًا. توقفت عند رصده اللطيف للفرقة التي كانت تعزف وراء «الست»، أو وراء أم كلثوم. هؤلاء جنود معظمهم جرت بمصائرهم المقادير، وباستثناءات محدودة خصوصًا بعد رحيل «الست» لم تكن هذه الفرقة تستخدم نوتًا للعزف على الرغم من أدائها المبهر، وبعدها تمامًا عن أي خروقات موسيقية. الفرقة كانت مكونة من ثمانية وعشرين عازفا، أما القائد فكان المايسترو الخفي عازف القانون محمد عبده صالح الذي ظل معها منذ عام ١٩٢٩، والذي لولاه لاضطرت «الست» إلى استخدام النوت الموسيقية.. جد عبده صالح كان العازف الشخصي للناي للسلطان عبدالحميد.

اختار عبده صالح مع أم كلثوم أفراد الفرقة، وكانت نظريته المؤسسة هي البروفات المستمرة حتى يصبح اللحن جزءا من شخصية العازف. حتى التجويد في اللحن كانت له بروفات.

كان أجر الفرقة حوالي ٦٥٠ جنيهًا، وأجر عازف الكمان خمسة عشر جنيهًا للحفل وسبعة عشر للبروفات.

كان الحفناوي هو عازف الكمان الأول ومعه سبعة عشر عازفا للكمان، ومن بينهم محمود القصبجي وعازف الناي سيد سالم الذي قال انه يتأهب لعمله مع «الست» كمن يتأهب لصلاة. عقب وفاة أم كلثوم قام بتوزيع موسيقي لأغنيات أم كلثوم، ثم هاجمه المرض عام ١٩٩٤.

على آلة الكونترباص كان فاروق سلامة الذي خصه بليغ حمدي بمساحة في أغنية سيرة الحب، وبها حجز لنفسه مقعدًا ثابتًا خلف الست». أما الذي تربي على أغنياتها والذي درس الحقوق وتربى فعليا على أغنيات الست.. يذاكر عليها.

والتي لأجلها قرر العزف على الرق مع مسؤول إدارة للفرقة.. حسين معوض، ضابط الإيقاع الذي ترك المحاماة ليعزف على الرق خلف أم كلثوم.. وأنا أقرأ أسماء هذه القامات التي كانت تعزف وراء أم كلثوم، كانت وجوههم تمرق أمامي حية بانفعالاتها التي اكتشفت أنها التصقت بذاكرتي واستحضرها كتابة عمر طاهر المعطرة بالمحبة فعلا، والتي ربما تستبقينا معها للأسبوع القادم.