روضة الصائم

فيما للقاضي وما عليه (4)

08 يونيو 2017
08 يونيو 2017

زهران بن ناصر البراشدي - القاضي بالمحكمة العليا مسقط -

إن ما يؤمر به كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولًا وبالقرآن إمامًا ودستورًا، وبالسنة الصحيحة الثابتة عنه -صلى الله عليه وسلم- طريقا لامتثال أمر الله عز وجل، والسير على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم ، والاهتداء بهدي خيار أمته؛ ومن أعظم ذلك الصدق والأمانة؛ فهما دعامتان أساسيتان في حلية المؤمن الحق، ولما كان القاضي في منصب عظيم؛ منصب تحقيق العدالة، فإنه من باب أولى مخاطب بما خوطب به المؤمنون، سواءً أكان ذلك بينه وربه في جميع تصرفاته، أم فيما بينه وبين الخلائق؛ على اختلاف فئاتهم، فهو يمثل العلم والعدل والاستقامة والنزاهة والشرف والورع والحياد، كما يمثل السلطة في إظهار العدل، وإيصال كل ذي حق إلى حقه، لا تأخذه في الله لومة لائم. وقد امتدح الله عباده المؤمنين المخلصين بالبر والأمانة والصدق، ووعدهم غدا جناته في كثير من آياته منها قوله عز وجل: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وقال: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

ولأهمية الصدق وعلو منزلة الصادقين عند الله عز وجل فقد أمر بالكون معهم والدخول تحت مظلتهم قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وقرن الأمانة بالعدل تعظيمًا لشأنها وإيذانًا بارتباطها به وعدم استقامة العدل دونها فقد قال جل شأنه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا). وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

كما أوضح ذلك المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وبين أن مخالفة ذلك من النفاق والمنافق منبوذ في الدنيا والآخرة قال -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا». وقال: «آية النافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» وقال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر».

على أن الأمانة المذكورة ليست مقصورة على المال فحسب كما يفهمها الكثير من الناس؛ وإنما هي شاملة لجميع نواحي الحياة، وأوامر الشارع ونواهيه، اعتقادًا وقولًا وفعلًا وتركًا، فكل أمر من الشارع أمانة، وكل نهي أمانة، وإظهار العدل والحكم به أمانة، واستماع أقول الخصوم أمانة، وتدوينها والمحافظة عليها كسر من أسرارهم أمانة، وكتابة المحاضر على وجهها الصحيح أمانة، وتدوين الوقائع في الحكم أمانة، وتطبيق شرع الله والقانون -على الوجه الصحيح- الموافق للحق أمانة، والمحافظة على الدين والنفس والعرض والمال والنسل أمانة، وأداء الواجب العملي أمانة، وحفظ السر أمانة، وجميع التعامل مع بني الإنسان وجميع المخلوقات من كائنات وذرات إلى غير ذلك أمانة، بل جميع تصرفات القاضي أمانة. مطالب بأدائها على وجهها الصحيح مسؤول عن تضييعها.