المنوعات

كـيف يعـمل عقـل إنسـان مزدوج اللغة ؟

07 يونيو 2017
07 يونيو 2017

مدريد، «د.ب.أ»: كيف تتعايش لغتان معًا داخل مخ بشري؟ هل الأشخاص مزدوجي اللغة أكثر ذكاء؟ إلى أي مدى يؤثر عامل السن في تعلم لغة ثانية؟ في هذه الأيام، ومع اعتبار اللغات من العناصر المؤثرة في السيرة الذاتية وفي الترقي بمجال العمل، تثار الكثير من الأسئلة حول ظاهرة ازدواجية اللغة التي تشهد تزايدًا ملحوظًا في أنظمة التعليم المختلفة.

في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب. أ) يقول الباحث الإسباني البرتو كوستا «أحيانًا تستخدم ازدواجية اللغة كسلاح هجومي، من منظور سياسي، وهذا يتسبب في كثير من التشويش». ولهذا من أجل كسر الصورة النمطية وتبديد الشكوك مع التدليل بالبراهين العلمية، قام أستاذ علم النفس الإسباني، والمشرف على فريق بحثي حول ازدواجية اللغة بجامعة بومبيو فابرا ببرشلونة بنشر كتاب بعنوان «العقل مزدوج اللغة علم أعصاب اللغة».

تجدر الإشارة إلى أن كوستا خبير متخصص في دراسة كيفية نحت العقل لتجرب ازدواجية اللغة، ويعتمد على دراساته لتأكيد أن تطوير التحكم في مراكز الانتباه يختلف من الأشخاص مزدوجي اللغة إلى الأشخاص أحادي اللغة، مما يرجح تفوق مزدوجي اللغة على غيرهم في كثير من أوجه التركيز والتفاعل بذكاء. ويضيف كوستا: «كما لو أن الدماغ مزدوج اللغة يقوم بممارسة بعض التدريبات الرياضية البدنية، ولكن ذهنيا»، مشيرًا إلى أنه مع التقدم في العمر يتداعى نظام الانتباه، ومن ثم فإن استخدام أكثر من لغة بصفة مستمرة يزود العقل بمخزون معرفي يجعل تدهور المنظومة أكثر بطئًا.

بالإضافة إلى أن الاستخدام المتواصل لأكثر من لغة، سواء منذ الميلاد أو بالتعلم في مرحلة لاحقة يزود العقل بخاصية يطلق عليها الباحث الإسباني «المرونة المعرفية»، وهي ما يعرفه الكثيرون على أنه مهارة القيام بمهام متعددة أو « multitasking»، وهذا لا يعني فقط إمكانية القيام بالكثير من الأمور في نفس الوقت، بل الإحلال والتبديل فيما بينها بدون حدوث تداخل أو ارتباك، حسب قوله. وعلى عكس الشائع، لا تعمل ازدواجية اللغة على حدوث قصور في الانتباه، بل تجعل صاحب هذه الخاصية أكثر تركيزًا، نظرًا لأنه لكي يتمكن من الحيلولة دون تداخل اللغتين، يظل الذهن حاضرا باستمرار والتركيز في أعلى درجاته.

وأخيرا، فإن الشخص الذي يجيد لغتين يصبح أيسر بالنسبة له تعلم الثالثة. إلا أن كوستا في هذه النقطة يوضح أن المهم إجادة قواعد النحو أو معرفة كم كبير من المفردات. على سبيل المثال عندما يقوم شخص مزدوج اللغة: إسباني-إنجليزي، بتعلم الصينية، فإنه سيعاني على الأرجح نفس صعوبات المفردات اللغوية وقواعد النحو، مثل أي شخص إسباني أحادي اللغة. الفرق يكمن في القدرة على التحكم: «مزدوجو اللغة نمارس أكروبات لغوية بين لغتين، نتحكم فيهما طوال الوقت، وهذا هو ما يحتاجه أي شخص يتعلم لغة»، حسب وصفه.

على الرغم من ذلك، الأمر لا يخلو من عيوب، ومن أبرز عيوب ازدواجية اللغة، المعجمية أو المفرداتية في كل واحدة من اللغات التي يتقنها المتحدث، فبطبيعة الحال عندما يتم المزج بينهما تتوافر لديه مفردات أكبر بكثير من تلك التي لدى شخص أحادي اللغة، ولكن على العكس من ذلك، فإن حصيلته في كل واحدة منهما ستكون أقل من تلك التي لدى شخص أحادي اللغة، بحسب تقديرات عالم النفس الإسباني، حيث يرى أن الأمر ذاته يسري على خاصية الطلاقة اللغوية «تصبح تلك اللحظات حينما نعجز عن العثور على الكلمات المناسبة، متكررة الحدوث مع الأشخاص مزدوجي اللغة مقارنة بأحادي اللغة».

ومن ثم كلما كان تعلم لغة ثانية في سن مبكرة كان الوضع أفضل، علما بأن الإنسان يظل يتعلم مفردات جديدة طيلة عمره، سواء في لغته الأم أو في أية لغة أخرى، بينما تزداد صعوبة تعلم التركيبات اللغوية مع تجاوز سن البلوغ، أما بالنسبة للصوتيات، فيرى كوستا أنه مع تقدم السن تصبح «نافذة الفرص» أضيق في هذه الجانب من اللغة، موضحا أن «العام الأول من عمر الإنسان يمثل علامة فارقة في تعلم اللغات، وحتى قبل أن يتعلم الصغار نطق حروفهم الأولى».

يوضح كوستا أن «هذا لا يعني أنه مع تجاوز مرحلة عمرية معينة فلن يكون بوسع المتحدث إجادة لغة ثانية: جوزيف كونراد على سبيل المثال، يعد واحدا من أهم وأبرز الروائيين في الأدب الإنجليزي، إلا أنه حين كان يتكلم لم يكن أحد يفهم منه شيئا، بسبب لكنته البولندية الظاهرة»، ولهذا، بالرغم من أنه لم يتم بحث الأمر بصورة كافية، يدافع كوستا عن فكرة تولي المدرسين الأجانب تعليم اللغة الأجنبية في المدارس للأطفال في المراحل العمرية الأصغر، وليس العكس عندما يقتصر ذلك على المراحل العمرية المتقدمة فقط.

«فلنقدم لهم الأفضل بينما هم في نعومة أظفارهم؛ لأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر»، يلخص الباحث الإسباني القول.

أما إذا كان شخص قد تعلم لغة ثانية في الكبر، فيؤكد كوستا أنه ليس هناك ما يدعو للقلق؛ لأن الأمر له مميزاته أيضا: نظرًا لأن التداخل العاطفي من جانب اللغة الأم يكون له تأثير على قدرة المتحدث على الحكم». ويتابع «في كثير من المواقف يصدر عنا بصورة تلقائية رد فعل عاطفي تجاه الخيارات التي تطرح علينا، وهذا يجعلنا ننحاز إلى بعض التوجهات، إلا أن هذه الانحيازات لا تكون ظاهرة عند استخدام لغة ثانية: كما لو كنا أكثر تحليلًا وأكثر تدبرًا، وقد يؤدي هذا لأن نحسن اختياراتنا بشكل أكبر».