أفكار وآراء

عالم الحركة

07 يونيو 2017
07 يونيو 2017

مصباح قطب -

الحركة من الثبات أو الثبات بعد الحركة هما من طبائع الأمور، غير أن الحياة تطرح علينا الكثير -ربما كل يوم- مما لا يتوافق مع طبائع الأمور أو مجرياتها العادية فما العمل؟. أكثر من ذلك فإن المرء يكاد أن يوقن بأن عالم اليوم في حركاته وسكناته هو عالم الحركة من الحركة وليس أقل من ذلك، بمعنى أنه يتعين عليك أن تأخذ قرارا وأنت تجرى أو تتصرف مع أمر طرأ بينما انت مشغول في آخر، ولا وقت لأن تنتهى من واحد لتتفرغ للآخر، أو تنحني لعاصفة بينما أخرى هبت عليك والأولى لم ينته أثرها بعد وهكذا. بعد أن بدأت العمل في الصحافة بفترة اكتشفت أن معلمي وهو الكاتب والمؤرخ الأستاذ صلاح عيسى، لا يقرأ على مكتبه إلا وأكثر من كتاب مفتوح أمامه، كما انه يطالع الصحف في الوقت نفسه، ويستمع الى الراديو، ويسرح عينيه من وقت الى آخر الى شاشة التلفاز لير بعضا مما يتم عرضه، ويرحب بضيوفه، وبدأ الأمر كاللغز وكنت أتساءل أحيانا هل يستطيع الرجل حقا أن يقوم بكل ذلك في وقت واحد؟ وهل يتحصل على منفعة فعلية أم أن من الأجدى إن يركز في جانب واحد من تلك الأنشطة الى أن يفرغ منه فينتقل للآخر؟. بعد فترة ليست بالقليلة اكتشفت أني مجبر لأن أقوم بشيء شبيه. في الصحافة - وهي المهنة التي أعرف عنها أكثر ولكل واحد أن يتحدث عن مهنته -  لا مجال أمامك لكي تتابع كل ما يدور من أوسع منظور ممكن إلا أن تسقط في مثل هذا الفخ  الطوعي. واجب معرفة الكثير في أقصر وقت ممكن، وحيث لا تتركك عجلة المطابع ومواقيتها في حالك، يدفع الإنسان الى أن يخصص عدة ساعات من يومه للمتابعة والقراءة وتشغيل الدماغ بتلك الطريقة، وبعد أن تدور المطبعة فإن بالإمكان عمل جدول جديد للمعايشة والقراءة، وإن كان صرع الجدول الأول - الحركة من الحركة أو عمل أكثر من شيء في آن واحد - يشكل ما يشبه القيد الذي يفرض نفسه عليك حتى في أوقات القراءة الخفيفة الى تؤهل للنوم. أقول كل ذلك وأنا أتابع أكثر من مشهد. في مصر وبمناسبة مناقشة الموازنة العامة للعام المالي 2017 /‏‏2018  في البرلمان هذه الأيام بغية إقرارها يحار المرء كيف يتعامل وزير المالية - الحالي أو من كانوا قبله - ومعه نوابه ومساعدوه، مع كل هذه المشغولات في وقت واحد؟. اجتماعات منتظمة لمجلس الوزراء، والمجموعة الاقتصادية، واجتماعات برئاسة الجمهورية من وقت الى آخر، ولجان البرلمان النوعية وبخاصة الخطة والموازنة واللجنة الاقتصادية، وجلسات عامة في البرلمان، ومطالب نواب ومقترحات لهم، ومطالب من محافظين ووزراء ورؤساء جامعات تتعلق بزيادة في المخصصات أو تقليل أعباء ما أو حل متراكمات سابقة، والمتابعة اليومية لحصيلة الضرائب وسير العلاقة مع الممولين والمتعاملين مع الجمارك ...هيئات عامة خدمية أو اقتصادية لها مشاكلها التي لا تنتهى، وعدد كبير من الصحافيين وأهل الإعلام يطلبون لقاءات أو تصريحات أو توضيحات يوميا وكلهم في وقت واحد،  وزيارات وفود من الداخل أو من الخارج، وزيارات خارجية ومشاركات في مؤتمرات دولية وتواصل مع العاملين والقيام بواجبات اجتماعية حتمية (عزاء - أفراح- معاودة مريض) واتصال مستمر مع مؤسسات الأعمال ومع المجتمع المدني، والرد على ما يثيره النقابيون والنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي والاشتباك معه أحيانا،  وإصدار بيانات صحفية ومراجعتها لأن كل كلمة بحساب، ومتابعة التطوير التكنولوجي وتغيير منظومات التعامل من ورقي الى إلكتروني، وحل ما يرتبط بذلك من مشاكل وتحديات، وإعداد وثائق التخطيط الاستراتيجي وخطط للتطوير المؤسسي ومتابعتها، واختيار وتعيين القيادات العليا وتقييم القائم منها ومتابعة تحقق أهداف السياسة المالية (نمو تشغيل عدالة)، والحوار شبه اليومي مع البنك المركزي لتوفيق السياسة المالية مع النقدية،  والموافقة على إصدار التقارير الشهرية والربع سنوية والسنوي والتقديم لكل منها، فضلا عن البيان المالي السنوي والبيان الإحصائي والبيان التحليلي للموازنة والحسابات الختامية والتحاور بشأنها مع جهاز المحاسبات الحكومية. كل ذلك يجب أن يمر على الوزير أو يكون تحت عينه. والاجتماعات الداخلية المستمرة بالوزارة مع النواب والمساعدين وقيادات العمل الأساسية، ودراسة أي أمور ذات طابع قانوني أو قضائي تخص الوزارة وهذا أمر له مستجداته كل يوم تقريبا أيضا، بل أن تفاصيل صغيرة يومية أخرى تستهلك هي الأخرى وقتا ليس بالقليل مثل الترخيص بسفر هذا الموظف القيادي أو ذاك الى هذا البلد أو ذاك أو لهذه المهمة أو تلك. إن كومة الأوراق التي يجب أن يقرأها الوزير أو نائبه لهى من الضخامة بحيث لا يكاد المرء يصدق أن المهمة تتم في النهاية، ووسط مشاغل لا حصر لها وظروف طارئة لا تخطر على البال كل يوم تقريبا. ما العمل؟ ألم يكن ذلك هو السؤال الذي طرحته بأعلى؟. لا حل إلا بالحركة من الحركة، واليقظة التامة وتدريب العقل والحواس على العمل في اكثر من اتجاه.. مع تنبه مضاعف. بطبيعة الحال فان المالية وأى وزارة أخرى بها تقسيم واضح للعمل: الوزير وهيئة مكتبه ومكتبه الفني .نواب. مساعدون. مستشارون.

رؤساء قطاعات .. رؤساء إدارات مركزية إلخ، ويتوقف الأمر تسهيلا أو تعقيدا على طبيعة فرق العمل داخل أي وزارة ومدى كفاءتها والتعاون بينها، لكن الحمل الذي يحمله الوزير في مصر على عاتقه - وبسبب المركزية المفرطة التي لم تزل تحكم الكثير من مساراتنا - حمل بالغ الثقل بالفعل. المواطن العادي نفسه يمر بدورة مصغرة من مثل تلك الدورات ربما كل يوم أيضا. في بيتها أو عمله. وقد ترتفع وتيرة تداخل الأعمال عنده ومدى احتياجه اكثر واكثر الى حركة من حركة، إذا كان مستثمرا صغيرا أو ناشئا أو حتى كبيرا. كما أقول دائما إن النصيحة هي “ابدأ القلق ابدأ الحياة” وليست “دع القلق وابدأ الحياة” كما قالوا، فما الحياة إلا قلق دائم والماهرون وحدهم من يجعلونه قلقا إيجابيا خلاقا مضيفا لقيمة للإنسانية وللفرد وللأسرة وللوطن.