أفكار وآراء

القانون ينشط مبدأ «الحوار» عبر الوساطة

07 يونيو 2017
07 يونيو 2017

د. عبد القادر ورسمه غالب -

Email: [email protected] -

الحفاظ على الحقوق يعتبر من المبادئ الدستورية القانونية الأساسية وتدعمه كل الأنظمة والنظم. ولذا عند فقدان أي حق أو عند التنازع على هذا الحق، يجوز للطرف صاحب الحق أو المتضرر من فقدان الحق، اللجوء للمحاكم القضائية وتقديم كل البينة أمامها لاستعادة حقه أو حقوقه المفقودة أو المهضومة أو “المتغول” عليها من الآخرين. ولكن مع مرور الزمن وتشعب العلاقات بين البشر، كثرت المنازعات أمام المحاكم بمختلف أنواعها وتعدد درجاتها، وهذا أدى لتكدس القضايا أمام المحاكم وهذا بدوره قاد الى الانتظار كثيرا حتى “يأتي جودو”... بالعدالة وربما لا يأتي. وتأخير العدالة، كما يقول فلاسفة القانون، يعني بطلان أو انعدام العدالة لأن “العدالة ناجزة”، ويجب أن نراها ونلمسها ونشعر بطعمها وهي “ناجزة”.

إن التأخير في الفصل في القضايا والمنازعات أمام المحاكم القضائية، قاد أصحاب الحقوق والقضايا للبحث عن بدائل أخرى لتسوية المنازعات التي تطرأ بين الأطراف لأي سبب من الأسباب. وكما يقولون صاحب الحق يبحث عنه في كل مكان، للتدليل على أنه يقلب كل الحجارة للبحث عن حقه أو.

والأنظمة والقوانين تمنح المحاكم القضائية الاختصاص القضائي والولاية القانونية التي تشمل سلطة الفصل النهائي في المنازعات القضائية، وكذلك سلطة تنفيذ القرارات والأحكام النهائية الصادرة من المحاكم بشأن هذه المنازعات، حتى يجد كل صاحب حق حقه ويعيش الجميع في عدالة تحت مظلة حكم القانون الذي يسود ويطغى في جميع الحالات والأحوال. ولكن، تراكم القضايا وتأخير الفصل فيها في العديد من الدول أضر بالحقوق وأضر بالأعمال التجارية والاستثمارات وغيرها من الأعمال والحقوق المرتبطة بها. ولهذا، كان لا بد من البحث عن البدائل الأخرى المناسبة لحسم المنازعات القانونية بين الأطراف.

وتحقيقا للعدالة الناجزة، أخذت الأنظمة والقوانين اتجاها واضحا في تشجيع البحث عن البدائل القانونية لتسوية المنازعات بعيدا عن المحاكم. ومن البدائل التي تجد التشجيع القانوني نجد مثلا الصلح الودي بين الأطراف، والتحكيم والتوفيق لتسوية المنازعات، وكذلك من البدائل التي تشجعها الأنظمة والقوانين نجد “الوساطة” القانونية.

وهذا البديل القانوني الذي يختاره أطراف النزاع لتسوية المنازعات والمتمثل في “الوساطة القانونية” يعتبر بديلا هاما. وفلسفة بديل الوساطة تقوم أساسا على دعم وتشجيع “الحوار” بين الأطراف المتنازعة حتى يتم الوصول الى تسوية النزاع نهائيا أو اللجوء للبدائل الأخرى إذا دعا الحال.. ومبدأ “الوساطة” يقوم على اتفاق الأطراف و “تحاورهم” في شأن اختيار “الوسيط” الذي يقوم بمهمة “الوساطة” بين الأطراف المتنازعة. من مهام “الوسيط” العمل على جمع الأطراف المتنازعة في طاولة واحدة للحوار وتقريب وجهات النظر بينهما وتحديد نقاط نزاع الاختلاف بينهما. وبعد ذلك يبدأ “الحوار” المنهجي والعلمي بين الأطراف المتنازعة، وقد يطول هذا الحوار أو يقصر لكنه يستمر بين الأطراف تحت إشراف ورعاية “الوسيط” الذي لا يتبني وجهة نظر طرف على الطرف الآخر أو التأثير على أحد الأطراف على حساب الطرف الآخر. بل هو مجرد “وسيط” لتقريب وجهات نظر الأطراف المتنازعة وإفساح المجال لهم للتداول والتحاور في شان الأمور الشائكة بينهما.

من واقع التجربة في مجال الوساطة القانونية فان باب “الحوار” الذي كان مغلقا بين الأطراف، بسبب العداوة والتباغض والشحناء بينها، يبدأ في الانفتاح بمجرد بداية “الوساطة” ويسود جو آخر جديد ملئ بالتفاؤل يبحث عن “الحوار” الذي يؤدي للحلول. وكلما كان “الوسيط” مقتدرا وله إمكانيات وكفاءة في إدارة الحوار، كانت نتائج الحوار أسرع وأفيد وتقود لحسم النزاع ويعود الأطراف لعلاقتهم الأولى الفطرية.

كما هو معلوم هناك وسطاء قانونيون كثيرون الآن بسبب المنازعات بين الأفراد أو بين الشركات، وكذلك المنازعات الدولية الحادة بين العديد من الدول، ولا تخلو الأخبار الآن من الحديث عن الوسطاء والحوارات التي يقومون بها. وقد ينجح أو يفشل “الحوار” بين الأطراف بسبب هذه الوساطة والوسطاء اللذين يقفون خلفها. والأمثلة كثيرة سلبا أو إيجابا، لكنها في جميع الأحوال فتحت باب “الحوار” بين الأطراف وهذا في حد ذاته يعتبر مكسبا كبيرا للمستقبل المنظور. وعبر باب الوساطة والوسطاء أتاحت الأنظمة والقوانين فرصة “الحوار” بين الأطراف خاصة وأن قبول مبدأ الوساطة في حق ذاته يدلل على قبول الأطراف لمبدأ “الحوار” الذي يشيد به القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكل الحضارات السابقة والحاضرة وذلك لأهمية “الحوار” والتحاور بين البشر حتي يستمر العالم في هدوء ونماء...

إن الوساطة القانونية، في الأساس، تقوم على الحوار الذي يبدأ بنبذ الخلاف بين الأطراف وفتح صفحة جديدة بينهما تقوم على التحاور والحوار الجاد والهادئ وعبر هذا المنهج العلمي يحصل كل طرف على مبتغاه أو على “جزء من الكيكة” وهذا مكسب بعيد عن الاختصام والتنازع الذي لا يأتي بفائدة لأي طرف من الأطراف. وهناك طرق علمية يجب أن يتبعها الوسيط حتي يأخذ “الحوار” مجراه بطريقة سلسة وبدون تشنج أو تعصب للرأي الشخصي، وإذا ظهرت مثل هذه الإرهاصات يجب على الوسيط التدخل لإعادة الحوار وتوجيهه في مجراه الصحيح وهذا من ضمن مهامه القانونية التي يجب عليه الحرص على تنفيذها بمهنية وتجرد تام.

ولا بد من الإشارة الى أن قبول مبدأ الحوار عبر الوساطة القانونية يشكل دليلا دامغا على أن الأطراف بدأوا يفكرون في علاج النزاع من منظور ثنائي أو متعدد يمثل حقوق كل الأطراف المشتركة في الحوار. ولهذا، يقوم كل طرف بتجهيز نفسه وإعدادها الإعداد التام حتى يكون ملما بكل النقاط القابلة للحوار ومتى يبدأ بالنقطة الأولى ومتى يعود لها ومتى يبدأ الحوار مع الطرف الآخر ومتى يصمت قبل إعادة الحوار ثانية. وهناك عدة مناهج للحوار وعدة مدارس وجميعها متاحة لأطراف الحوار بغية تمكينهم من إتمام الحوار بصورة سليمة وما يترتب عنها من النتائج.

هناك حوار وتحاور بين أطراف النزاع وهذا يمثل “الحوار” الأساسي لتكملة مشوار الوساطة القانونية. وهناك حوار أو حوارات متعددة تتم بين كل طرف والوسيط على حدة. وهذا المنهج في قانون الوساطة يسمى ال “كوكاس” أي اجتماع الوسيط بأحد أطراف النزاع منفردا وذلك للحوار بشأن نقاط محددة تخص هذا الطرف بعينه أو الوساطة بصفة عامة. ووفق مبدأ ال “كوكاس” يكون الطرف الآخر في النزاع على علم بهذا الاجتماع ولكن دون أن يطلب من الوسيط أفادته بما تم في الاجتماع. واجتماع ال “كوكاس” بين الوسيط وأحد الأطراف يجوز لكل طرف أو الوسيط طلب عقده كلما كانت هناك ضرورة ملحة تستوجبها مصلحة الوساطة القانونية وليس مصلحة أحد الأطراف على حساب الطرف الآخر...

من واقع تجربتي العملية في الوساطة القانونية، أذكر كان هناك عداء بغيض بين شركتين كبيرتين ونزاع مستمر لفترة طويلة. لحسن الحظ، قرر الأطراف اللجوء للوساطة القانونية لتسوية المنازعات بينهما. وأذكر بعد استمرار الحوار بين رؤساء هذه الشركات، تحت إشرافنا كوسطاء، قال أحد الرؤساء إن هناك معلومات كثيرة كانت غائبة عنه وأنه توصل إليها بعد الحوار الصريح والأمين مع الطرف الآخر.. وبعد أن أستمر الحوار الهادف بينهما توصل الأطراف للصلح الذي أنهى الخلافات والانشقاق والعداوة بينهما... وهكذا، عبر الحوار الذي تم وفق الوساطة القانونية تم قفل الخلافات وتم فتح صفحة جديدة ما كانت لتفتح لو لا “الحوار” الذي كشف الحقائق الواضحة لكل الأطراف... وكل هذا، من حسنات وتباشير “الحوار” الهادف الذي يقود دائما لأفضل النتائج لكل من شارك في الحوار أو مهد له عبر الوساطة القانونية.

كما يتضح، فان القانون عبر الوساطة فتح أبوابا واسعة للحوار بين الأطراف المتنازعة.. وهذا يدلل على أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه “الحوار” في تسوية المنازعات بين الأطراف وقفل “باب الشر” بينهما خلال فترة وجيزة وبدون رجعة. وهكذا يضع القانون مبدأ “الحوار” في المكان الذي يستحقه للنهوض بالمجتمعات عبر توفير العدالة التي تأتي من باب الحوار البناء وليس من أي باب آخر.