أفكار وآراء

زيادة السباق بين التغيير والكارثة

06 يونيو 2017
06 يونيو 2017

مرتضى بن حسن بن علي -

[email protected] -

الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا في القرن الثامن عشر وانتشرت في بلدان أوروبا الغربية ثم إلى الولايات المتحدة أدت إلى إحلال المكننة بدلا من العمل اليدوي. وقد أدت تلك الثورة الأولى إلى الثورة الصناعية الثانية في القرن التاسع عشر والتي كانت مدخلا إلى الثورة التكنولوجية الأولى وتداعياتها التي ما زالت مستمرة. 

وفِي تلك الفترة بدأت بريطانيا الرائدة، باختراع المحركات البخارية بداية التي تعمل على الحرارة من خلال العمل على مكائن معينة، وسرعان ما تحولت إلى آلات سريعة ومنتظمة لا تعرف الكلل شريطة تزويدها بالفحم الحجري والصيانة اللازمة.

بدون شك فقد عززت الثورة الصناعية بشكل واضح من قوة بريطانيا العظمى. وقد تبين أن أي دولة تحذو حذوها ستتمتع مثلها بارتفاع نسبي في الإنتاج والقوة القومية. أما الدول التي تعجز عن انتهاج سبيل التصنيع فسوف تبقى عرضة للأذى. ومثلما ثبت، بالرغم من كل المشاكل، إن الإخفاق في محاكاة الممارسات البريطانية يعد مشكلة كبيرة بحد ذاته. أما النجاح في محاكاة تلك الممارسات فقد كان ينطوي على تغييرات عميقة في أنماط الحياة والعمل وكسب الرزق. وهكذا تقدم الغرب وما زال فيما بقت الدول الأخرى متأخرة.

ومنذ خمسينات القرن العشرين بدأت البحوث العلمية المستمرة مؤدية إلى الثورة التكنولوجية الحالية. شهد عقد التسعينات اكتمال ونضج الثورة التكنولوجية التي ما زالت تزحف بسرعة هائلة، وهي ثورة غير مسبوقة تعتمد على المعرفة العلمية المتقدمة والاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة وبوتيرة سريعة.

وهذه الثورة تختلف عن الثورتين الصناعيتين في عدد مهم من الوجوه، فبينما كانت الثورة الأولى تعتمد على البخار والميكانيكا والفحم والحديد وعلى الرأس المال العصامي وعلى قوة الدولة العسكرية المباشرة لتأمين الأسواق من خلال الاحتلال العسكري السافر وبينما اعتمدت الثورة الثانية على الكهرباء والنفط والطاقة النووية وفن الإدارة الحديثة والشركات الوطنية المساهمة، فإن الثورة الثالثة تعتمد على العقل البشري والإلكترونيات الدقيقة والهندسة الحيوية والحاسوب المتطور والذكاء الصناعي وتوليد المعلومات في كل شؤون الأفراد والمجتمعات والطبيعة واختزان المعلومات واستردادها وتوصيلها بسرعة متناهية وتعتمد على الشركات العملاقة المتعددة الجنسية كأوعية تنظيمية لكل هذه العناصر ومضاعفة المعرفة البشرية في كل شأن من شؤون الحياة.

ويقدر العلماء أن حجم المعرفة الإنسانية إلى بدايات القرن العشرين كانت تتضاعف كل قرن ونصف القرن تقريبا وبعد الحرب العالمية الثانية كانت تتضاعف كل ربع قرن وفِي التسعينات من القرن المنصرم فإنها كانت تتضاعف كل عشر سنوات أما الآن فإنها تتضاعف كل سنة ونصف السنة تقريبا ويقدر أنها ستتضاعف قريبا كل ١٢ ساعة تقريبا. أي أن المعرفة المتولدة خلال السنوات القادمة ستتضاعف مرتين كل يوم عما تراكم من معرفة إنسانية منذ بداية التاريخ المسجل عند الإنسان.

ولأن العقل البشري، وليس القوة العضلية أو الميكانيكية، هو العماد الأول لهذه الثورة التكنولوجية الثالثة - وما ستليها من ثورات قادمة - ولأنه يمثل طاقة متجددة لا تنضب، فإن هذه الثورة سوف لن تكون حكرا للمجتمعات الكبيرة المساحة أو الكثيفة السكان، أو الغنية بمواردها الأولية أو القوية بجيوشها التقليدية، إنها ثورة يمكن لجميع شعوب الأرض أن تخوض غمارها. سواء كبيرة أو صغيرة إذا ما أحسنت إعداد أبنائها تربويا وتعليميا واجتماعيا لذلك وتمكنت أن تتخلص من عصبياتها القديمة وانشغالها بصراعاتها عن ماضٍ لن يعود.

ويبدو واضحا اليوم أننا إزاء شكل جديد من التطور المجتمعي يعتمد في سيطرته ونفوذه على المعرفة عموما والعلمية منها بشكل خاص. مثلما يعتمد على كفاءة استخدام المعلومات في كل مجالات الحياة، حيث يتعاظم فيه دور صناعة المعلومات بوصفها الركيزة الأساسية في بناء الاقتصاديات الحديثة، وتتعزز فيه مكانة الأنشطة المعرفية لتتبوأ أكثر الأماكن حساسية وتأثيرا في منظومة الإنتاج الاجتماعي.

وكان التطور الأبرز في هذا المشهد ظهور نمط معرفي جديد يقوم على وعي أكثر عمقا لدور المعرفة والرأسمال البشري في تطور الاقتصاد وتنمية المجتمعات وهو ما يطلق عليه ((اقتصاد المعرفة)).

فقد أصبحت المعرفة موردا اقتصاديا يفوق بأهميته الموارد الاقتصادية الطبيعية، بل إن القيمة المضافة الناتجة عن العمل في التكنولوجيا كثيفة المعرفة تفوق بعشرات أو مئات المرات القيمة المضافة الناتجة عن العمل في الزراعة أو الصناعة التقليديتين. ويكفي إلقاء نظرة مقارنة على مساهمة القطاعات الاقتصادية والشركات التي تعمل في مجالات الذكاء الصناعي والبرمجيات والتقانات الحيوية والزراعة المعدلة وراثيا وبعض أنواع العقاقير إضافة إلى الاتصالات وأنظمة التسلح.

ترتب على هذه التحولات نتائج وآثار مباشرة وبعيدة المدى في آن. فلم تعد المعرفة سلطة وقوة فقط، بل أصبحت أبرز مظاهر القوة في عالم اليوم ولم يعد مجديا بالنسبة للدول والمجتمعات التي تحاول تنمية اقتصادياتها واللحاق بركب التقدم العلمي تجاهل هذه الحقائق أو التأخر في أخذها بالحسبان.

ولعل في رأس هذه الأولويات، إجراء زيادات حاسمة في الإنفاق المخصص لتعزيز إنتاج ونشر المعرفة، وخصوصا في مجالات التعليم بمراحله المختلفة والبحث العلمي بمراكزه وميزانياته فضلا عن استراتيجيات بناء القدرات البشرية، بما في ذلك إعداد الخبراء والباحثين وتشجيع الابتكار والبحث العلمي وبراءات الاختراع وحماية المجيدين.

وإذا ما نظرنا حولنا اليوم فنرى أن الانفجار التكنولوجي المعرفي يعم البلدان المتقدمة اقتصاديا والتي يشهد أغلبها نموا سكانيا بطيئا بل سلبيا أحيانا، فيما يحدث الانفجار السكاني في الأقطار ذات الموارد التكنولوجية المعدومة أو القليلة والتي تملك حفنة صغيرة أو معدومة من العلماء والعمال المهرة، واستثمارا ضعيفا أو معدوما في مجالي البحث والتطوير والاستثمار في البحث العلمي والتكنولوجي كما تسود فيها تحيزات ثقافية وأيديولوجية تعارض التغيير، وتكنولوجيا العالم المتقدم تنطوي على أذى لتلك الأقطار الأكثر فقرا وتأخرا في المعرفة العلمية حين تحيل أنشطة متزايدة إلى مشروعات لا جدوى منها.

والاكتشافات العلمية المتتالية إذا لم نتمكن أن نستوعبها فسوف تقوم بتهميش اكبر لاقتصاديات تلك الدول. وإذا لم تتدارك الأمور فإن التكنولوجيا الحديثة سوف تكون اكثر فاكثر عبئا على كواهل تلك الدول وبالعكس سوف تنطوي على منفعة كبيرة إذا ما تم استيعابها. إن كيفية إدارة الموارد البشرية والتكنولوجية لتلك الدول - بما في ذلك نحن - يلعبان دورا كبيرا في تحديد قدراتها على مواجهة التحولات الكبيرة الجارية.

إن قوى التغيير التي تواجهنا عميقة التأثير ومعقدة ومترابطة، بحيث لا تحتاج على ما هو اقل من إعادة تعليم معظم العرب، وإلا فإن السباق بين التعليم الحديث والكارثة سوف يزداد شدة، وهو سباق تزداد حواجزه ارتفاعا لدى اقترابنا من العقد الثالث في القرن الحادي والعشرين.

إن التاريخ يجيء دائما ليقدم قوائمه بالفائزين والخاسرين، ذلك أن التغييرات الاقتصادية والعلمية والتطورات التكنولوجية، شأنها شأن الحروب والدورات الرياضية، لا تنطوي في العادة على منفعة لجميع الأطراف.

إن من ينتفع بالعلم والتكنولوجيا هي الجماعات والأمم التي غدت قادرة على تسخير العلوم والوسائل الحديثة لمصلحتها، فيما لحق الضرر بالأمم الأخرى الأقل استعدادًا للاستجابة للمتغيرات التكنولوجية والثقافية والعلمية.