1029566
1029566
روضة الصائم

روائع المساجـد الأثريـة العـمانية - مسجد المزارعة بنزوى .. جدرانه وسواريه غنية بالكتابات الخطية والتواقيع والتوثيقات

06 يونيو 2017
06 يونيو 2017

محمد بن سليمان الحضرمي -

أدخل مسجد المزارعة داخل حارة العقر بنزوى، وأتذكر الناس الذين سبقوني إليه، مصلون وفقهاء ومعلمو قرآن ومتعلمون ومعتكفون وغيرهم كثير، وأشق درجا ضيقا يصعد بي إلى فناء المسجد الخارجي، المسجد ذاته لم يتغير، جدرانه وأعمدته ومحرابه ومرافقه، وتتعاقب الأجيال على هذا الصرح العريق، حاملين أمانة الله إليه، وملبين نداء التوحيد فيه، ولا تزال كل قطعة فيه، وكل شبر في مساحاته المحدودة، مشحونة بعبق الأزمان الماضية، ولا تزال سراياه الدائرية تحمل تواقيع الأوائل، وأحاسيسهم وانفعالاتهم بما يحدث في أزمانهم.

أدخل المسجد وأقف في صرحه الخارجي، فناء فسيح من جهتي الشرق والشمال، ومن حوله تلوح أطلال حارة العقر الأثرية، بحصونها وقصورها وشرفات منازلها، وبأسوارها وبواباتها وبساتينها التي تحفها من جهات مختلفة، الحارة أنموذجا للمدن القديمة.

وأقف أتأمل تشققات الجدران، والميازيب الفخارية وهي تسكب الماء في مواسم الغيث، وأرى عراقة المكان بعيني في كل ناحية، وأقلب بصري في أنحاء المسجد من الداخل، السَّواري كما هي لم تتغير، والجدران ملونة بالكتابات، لكن المسجد يعيش شيخوخة مترهلة بدأت تفعل فعلتها فيه، حيث انهار جزء من السقف، بعد أن ظل متماسكا أكثر من نصف قرن هجري بعد آخر ترميم له، وذلك بتاريخ الخامس من شهر شعبان عام 1371هـ.

محراب المسجد متواضع، يصفه الباحث الإيطالي بلديسيرا بأنه في غاية البساطة والتقشف، وخال من كل زخرف، ويؤكد في بحثه عنه بأنه من الصعب تحديد تاريخ بناء المحراب، إذ لم يجد دليلا واحدا عليه، شكل المحراب البسيط بقبابه المركبة يتكرر في كثير من المساجد الطينية، ولفت انتباهي صانع المحراب الذي نحت آية (إنما يعمر مساجد الله ..) في أعلاه، محاطة بشريط من الزخرفة الجصية لأشكال هندسية متناسقة، وبعد تمعن له ومحاولة ربط المحراب بالآية، خمنت أن يكون الترميم السابق للمسجد قد طمس النقوش الجصية، وأبقى على المنطقة العلوية من المحراب، ولذلك ضاع اسم الفنان وضاعت معه تحفة فنية.

ومما يؤسف له أن بعض المتشددين لهم دور في تضييع مثل هذه المحاريب، حيث لا يكترثون بمثل هذه الجماليات الفنية، ويرى بعض الفقهاء أنها تشغل وتلهي المصلين عن الخشوع في الصلاة، وبهذا المنطق ضاع إرث حضاري مهم، مثلما ضاعت كثير من الجوامع والمساجد التي هدمت بالكامل، لغرض بنائها من جديد، دون اكتراث بالقيمة الأثرية والجمالية للمعمار القديم.

في داخل المسجد أربع سوارٍ دائرية، يبدو من أولى الساريتين آثار الترميم بالإسمنت، بسبب سقوط الجص المتشقق، الأمر الذي جعل من شكلهما نشازا عن الساريتين الأخريتين، وعن بقية مكونات المسجد، وبسبب تلطخ الإسمنت انطمست آثار الكتابة على الألواح الجصية، أما الأسطوانتان الأخيرتان، والقريبتان من المحراب فمتماسكتان بما تحويانه من كتابات فريدة وتوثيقات مهمة، أدرت ناظري إلى السقف فقرأت في إحدى الحوامل الخشبية توثيقا بترميم للمسجد، وكان ذلك في عهد الإمام محمد بن عبدالله الخليلي عام 1371هـ، وفي سقف الرواق الأول أعلى المحراب، إشارة خطية غير واضحة العبارة، كتبت بخط جميل في أحد الألواح، تعود إلى عصر الإمام سالم بن راشد الخروصي (مات مقتولا عام 1920م).

جدران المسجد مليئة بالكتابات النثرية والشعرية والتواقيع وبخطوط واضحة، وبعضها غير واضحة الحروف، تعود إلى 3 قرون، من بينها توثيق لحريق هائل وقع في المال غربي الحصن، وذلك في عام 1105هـ، وتوثيق آخر لوقوع الغلاء بنزوى، كما نقرأ ما يشبه الأخبار عن وفاة شخصيات علمية، إلى جانب نشر نصوص كثيرة من شعر الحكمة، وكأن جدران المسجد الأربعة بسواريه أشبه بنشرة صحفية، تكتب ليقرأها الآخرون، وبهذه الطريقة تنتشر الأخبار وتتوثق أيضا.

أما الدرج المؤدي إلى ما يعرف بالبومة، وهي القبة الصغيرة التي تقوم مقام المئذنة، فقد تم تجديدها واستبدال الخشب بالحديد، وتثبيته بالإسمنت.

وإذا كان هذا مسجد المزارعة بولاية نزوى بمحراب متواضع ومتقشف، إلا أنه غني بالكتابات المهمة، التي أصبحت مصدرا للباحثين العمانيين، وقدمت شخصيات كانت مغمورة، لولا أنه كتب عن تاريخ وفاتها لنسي اسمها، ولم يعد يذكرها أحد.

كنت أمعن النظر في الفجوة التي أحدثها انهيار أحد الأسقف داخل المسجد، وأتساءل مع نفسي متى يأتي دور ترميم هذا المسجد، وبعد إبداء السؤال لأحد القائمين عليه، أخبرني أنه سيغلق بعد شهر رمضان لصيانته وترميمه، ودعت المسجد على أمل أن أزوره مرة أخرى بعد الترميم.