أفكار وآراء

بقايا الهزيمة النفسية.. من حرب يونيو 67

03 يونيو 2017
03 يونيو 2017

د. عبدالعاطي محمد -

في أدبيات حرب 5 يونيو 1967 هناك شق كبير يتعلق بالجوانب النفسية لا يقل أهمية بالنسبة لإسرائيل عن الجوانب العسكرية. ومن عاش أحداث تلك الفترة يقف عند عديد الشواهد على حرب الدعاية الإسرائيلية التي سبقت الحرب العسكرية واستمرت عقب احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وكان هدفها هزيمة العرب نفسيا قبل هزيمتهم عسكريا.

واليوم وبعد مرور 50 عاما على هذه الحرب تحقق لإسرائيل نجاح على صعيد الحرب النفسية ضد العرب أكبر بكثير مما كانت تتوقعه وفاق ما كان يدور في تفكير قادتها وقتها على هذا الصعيد. فقد كان الهدف الرئيس آنذاك هو إظهار العرب على أنهم أمة عاجزة عن فعل أي شيء جاد، هي داعية كلام لا صاحبة فعل في أي مجال من مجالات العمل العام، ومنقسمة إلى حد كبير من الداخل على عكس ما تروجه بأنها موحدة وقادرة على العمل العربي المشترك فعلا لا قولا فقط .كما أنها أمة عنصرية معادية للسامية، لا تؤمن بالسلام وداعية حرب دائما، ومتخلفة سياسيا قبل أن تكون متخلفة اقتصاديا بينما إسرائيل واحة للديمقراطية ومزدهرة اقتصاديا.

وقد اجتهد خبراء الدعاية الإسرائيلية في الترويج لهذه الصورة الذهنية السيئة للعرب إلى حد استعارة الأساليب النازية في الدعاية السياسية بترويج الأكاذيب مرارا وتكرارا وبلا كلل إلى حد لا يكون هناك مفر من تصديقها من جانب المستهدفين بها. ولم يكن المستهدفون هم الإسرائيليين فقط من منطلق التعبئة والحشد دفاعا عن النفس كما كانت تقول الدعاية الإسرائيلية وقتها، وإنما كان المستهدفون بالدرجة الأولى هم العرب من جهة والعالم الخارجي وتحديدا الغرب من جهة أخرى. العرب للتشكيك في قدراتهم وزعزعة الثقة بالنفس وبأنظمتهم السياسية لتحقيق الهزيمة قبل أن تقع الحرب العسكرية، والغرب لاستعدائه على العرب وكسب دعمه لإسرائيل وتهيئته للقبول بالموقف الإسرائيلي مسبقا من هذه الحرب وبالمقابل رفض الموقف العربي جملة وتفصيلا.

ومنح الانتصار الإسرائيلي في الحرب ذات الأيام الستة فقط، في ترسيخ هذه الصورة السيئة عن العرب التي كانت أجهزة الداعية الإسرائيلية قد صنعتها بحرفية ماهرة. فبغض النظر عن النتائج المباشرة للحرب العسكرية، وهي المهمة الأساسية التي أوكلت للقوات الإسرائيلية ونجحت بامتياز في القيام بها، إلا أن ذات النتائج أكدت مصداقية الدعاية الإسرائيلية في نظر الإسرائيليين والشعوب والأنظمة الغربية، وفي نفس الوقت أحدثت تأثيرها العميق في إيقاع الهزيمة النفسية بين العرب. فقد تحول ما كان يعد مجرد احتمال تتم المراهنة عليه من جانب إسرائيل إلى واقع يتحدث عن نفسه من واقع التداعيات الانهزامية المتتالية التي لحقت بالعقول والنفوس العربية واستمرت هكذا لأمد طويل أكثر مما كانت تتوقع إسرائيل. وقد ظهر ذلك بصور مختلفة في عديد الأعمال الفكرية والأدبية والفنية، بل وفي الخطاب السياسي للقوى السياسية العربية على تنوع اتجاهاتها. ولم ينجح الإعلام القومي المصري في صد هذه التداعيات لأنها كانت بمثابة النيران التي اشتعلت في الهشيم وليس بالإمكان إطفاؤها. فلم يعد مقبولا وصف ما جرى على أنه «نكسة» وإنما هو هزيمة مكتملة الأركان.

ولا شك أن روح المقاومة التي دبت في شرايين العرب بعد الحرب، لرفض الهزيمة واستعادة الأرض التي تم احتلالها، والكرامة العربية التي تم إهدارها كان لها دورها المؤثر في قلب المعادلة العسكرية والسياسية على إسرائيل. ودون الدخول في تفاصيل تاريخ الفترة الممتدة من 1967 إلى 1973 حيث حدث انتصار أكتوبر الشهير، حيث هناك العديد من الشواهد التي أكدت استيعابه درس الهزيمة بالعمل على استعادة مصادر القوة العربية عسكريا وسياسيا واقتصاديا بما ساهم في نجاح حرب 1973. وآنذاك كان العنوان الأبرز ليس في الخطاب السياسي المصري فقط، بل في الخطاب العربي عموما هو النجاح في تحرير الأرض من ناحية، وإزالة الهزيمة النفسية من ناحية أخرى.

والمؤكد أن لا أحد يقلل من شأن التغيير العظيم الذي أحدثته حرب 1973 في تصويب معادلة القوة بين العرب وإسرائيل. ولكن ما لا يمكن إغفاله أن الجولان لا تزال محتلة والضفة الغربية لم تعد للأردن (كان قد ضمها لشرق البلاد في بدايات الخمسينيات من القرن الماضي). والمؤكد أيضا أن الوضع العربي شهد تحسنا ملحوظا على صعيد العمل العربي المشترك بعد الانتصار في هذه الحرب وحتى اتفاقيات كامب ديفيد 1979 ثم اهتز بفعل هذه الاتفاقيات التي لم تقبلها بعض الدول العربية، ثم استعاد العمل العربي المشترك قدرا من العافية منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي إلى يومنا هذا، ولكنها ظلت عافية ظاهرية عاجزة عن مواجهة المستجدات التي تتالت على المنطقة سواء ما تعلق بمصير الصراع العربي الإسرائيلي أو الوحدة السياسية أو الاقتصادية أو النهوض بمستوى معيشة الملايين من العرب وتحقيق التقدم المنشود.

وبرغم هذا وذاك، فإن الشق الثاني من معادلة القوة بين العرب وإسرائيل أي الجانب النفسي لا يزال يعمل لصالح إسرائيل ويفت من عضد العرب يوما بعد الآخر وكأن نصف قرن من الزمان لم يكن كافيا لتغيير هذه الحالة. والقصد أن ما تعيشه المنطقة العربية اليوم بعد مرور كل هذه السنوات الطويلة ليس منبت الصلة بما حدث في حرب 1967 من هزيمة نفسية للعرب. من المفهوم أن تتعمد إسرائيل القفز على الهزيمة التي لحقت بها في 1973 كلما حلت ذكراها وإن كانت أدبيات المرحلة سواء من جانب إسرائيل أو مراكز الأبحاث الغربية تكشف من وقت إلى آخر بعض جوانب الفشل العسكري والسياسي الإسرائيلي في هذه الحرب.

ولكن من اللافت أيضا أن إسرائيل حتى يومنا هذا تتعمد أن تفرج من وقت إلى آخر عن بعض وثائق حرب 1967 في اتجاه إحياء فاعلية وقوة تأثير الحرب النفسية ضد العرب بنفس العناصر تقريبا التي كانت تعتمد عليها آنذاك في شن هذه الحرب تثبيتا لمقولة أن العرب غير صادقين في تعهداتهم وغير قادرين على الوفاء بها حتى لو كانوا جادين حقا فيها، وهم بوجه عام أمة للكلام لا للفعل.

في بعض الأحيان على سبيل المثال لا الحصر تتعمد إسرائيل نشر مشاهد الإذلال التي لحقت بالجنود المصريين وأسراهم في حرب 67، أو أن قادة إسرائيل خلال أيام التأهب للحرب كانوا منقسمين بين من يصدق التقارير بأن مصر وقتها كانت تميل إلى حل سلمي للأزمة التي تصاعدت مع إغلاقها خليج العقبة وتجنب الدخول في حرب مع إسرائيل، وبين من لا يصدق ذلك ومنهم موشي ديان وزير الدفاع وانتصر الفريق المؤيد لشن الحرب على مصر بحجة أن العرب لا يريدون السلام مع إسرائيل، كما أن أشكول رئيس الوزراء كان مع فكرة طرد الفلسطينيين تماما إلى الخارج بمصادرة منازلهم ومن ثم إجبارهم على الهجرة، ومع ضم غزة لإسرائيل. وما كان لقادة إسرائيل أن يفكروا بهذه الطريقة إلا لاقتناعهم بعناصر الحرب النفسية التي بنوا عليها إستراتيجيتهم لإيقاع الهزيمة بالعرب، فهؤلاء في تقديرهم عاجزون عن فعل أي شيء جاد لأسباب عديدة تتعلق بأوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

المشهد العربي الراهن بكل ما فيه من انقسام وحروب متبادلة بالوكالة لم يكن قطعا في حسابات إسرائيل عندما شنت حرب 67 وإن كانت تتمناه بالطبع ولكنه ليس منبت الصلة بها، بل هو من تداعيات الهزيمة على مختلف الأصعدة التي أصابت الجسد العربي في مقتل، والتي لم يبرأ منها حتى اليوم. لقد نشأت بعد هذه الحرب نظم سياسية عربية رفعت رايات القومية والتقدمية والمقاومة لإسرائيل ولكنها تخاصمت مع بعضها البعض ومع غيرها من النظم العربية ولم تنجح في أي من هذه الشعارات. وبينما كانت الهزيمة قد أحدثت شرخا في العلاقة بين الشعوب وأنظمتها وقت الهزيمة ترتب عليه الافتقاد إلى المصداقية في السياسات حتى يومنا هذا، تعمق هذا الوضع بدرجة أكثر حدة مع مرور السنين بسبب الإخفاق المتواصل في هذه السياسات. ولم يكن مفاجئا في ظل هذا المناخ أن يتحرر التطرف من عقاله ويفرز ما أفرزه من إرهاب، وأن تتفتت المنطقة بأيدي أبنائها. ولم يكن مفاجئا أن يستمر مراكز الأبحاث الغربية وصناع القرار على مواقفهم المؤيدة لإسرائيل على طول الخط، لأن ما كان يجرى على أرض الواقع العربي من ممارسات كان بمثابة إعادة إنتاج للهزيمة التي حدثت في 67. واللافت أن هذه النظم ذاتها هي التي تدفع اليوم الثمن الأكبر لفاتورة الهزيمة. أما والأمر كذلك فلم تعد إسرائيل في حاجة لمزيد من الجهد حتى تبقى على خلل معادلة القوة بينها وبين العرب لصالحها، لأن تداعيات هزيمة 67 لا تزال تفعل أثرها.