أفكار وآراء

بين الاستهلاك والادخار

03 يونيو 2017
03 يونيو 2017

حيدر بن عبدالرضا اللواتي -

[email protected] -

الاستهلاك الكبير للعائلات في هذا الشهر الفضيل وفي مثل هذه الظروف الاقتصادية التي تمر بها الدول النفطية يفرض علينا طرح بعض التساؤلات حول استمرار الناس في الشراء بهذه الكميات الكبيرة من المواد الغذائية التي تشترى كل عام، وخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، وترمى في نهاية اليوم في سلة المهملات، بحيث بلغت فاتورة الواردات الخليجية من المواد الغذائية نسبة 25% من قيمة الواردات الإجمالية البالغة حوالي 468 مليار دولار، أي بواقع 117 مليار دولار عام 2016. وهذه الرقم الكبير للواردات الخليجية السنوية من مختلف السلع والمنتجات التي تأتي من جميع أنحاء العالم، يقابله صرف كبير من قبل أبناء دول المجلس على الشراء سواء من المواد الاستهلاكية أو الكماليات الأخرى، الأمر الذي لا يساعد الكثيرين منهم من جمع بعض المدخرات لهم للطوارئ مستقبلا في ظل الظروف التي تمر بها المنطلة.

ومن هنا فان قضية “الادخار” تعد اليوم واحدة من أهم القضايا التي تتركز عليها الأنشطة الأسرية لأفراد المجتمع في العالم، وكذلك تعد وسيلة مهمة لتحقيق التنمية في الدول أيضا. كما أن موضوع “الادخار” يعد من المواضيع التي نادت به الأديان ومختلف المذاهب والشرائع من بينها الدين الإسلامي. وهذا ما تركز عليها الدول والحكومات اليوم، وتنادي بها المنظمات الدولية بضرورة توجيه أفراد المجتمعات نحو الادخار باعتباره إحدى القنوات المهمة للصرف على القضايا التنموية في المجتمع. والادخار كما هو معروف عنه يعد ظاهرة قديمة قدم إدراك الإنسان لضرورة جمع بعض الأموال في وقت الرخاء والاستعانة والاستفادة منها في وقت الشدة والمحن. وتبدأ هذه العملية من خلال قيام فرد بوضع مبلغ معين في صندوق خاص بصورة يومية، أو من خلال إيداعه لمبلغ شهري في البيت أو أحد المصارف بحيث يستطيع بعد عدة أشهر أو سنوات استغلال هذا المبلغ المدخر في أمر أو موضع هو بحاجة أو أحد من أفراد أسرته إليه، أي أن يقوم الشخص بالاحتفاظ بجزء من الكسب لوقت الحاجة إليه في المستقبل ليكون له صمام الأمان، ويحميه وأفراد أسرته من الأزمات الطارئة.

وهذا الأمر وخاصة في المنطقة الخليجية يتطلب زيادة التوعية وثقافة أفراد المجتمع عامة والأسر بصفة خاصة تجاه موضوع الادخار، بحيث يمكن تحقيقه من خلال العمل بعدة اعتبارات، منها وضع أسس لميزانية شهرية للأسرة تجاه المصروفات والنفقات الضرورية، وفي نفس الوقت العمل على التقليل من الكماليات التي من الممكن أن تمضي الحياة بدونها، كما يجب الابتعاد قدر الإمكان عن الإكثار من استعمال بطاقات الاعتماد البنكية التي تقدمها المصارف للزبائن، والاكتفاء باستخدامها في أوقات الحاجة والضرورة القصوى ووفق احتياجات الأسرة، أي أن يكون الصرف على الاحتياجات الضرورية التي تلزم أفراد الأسرة من المأكل والمشرب والسكن والمأوى والملبس بجانب قليل من الترفيه والسياحة. أما الباقي من الرصيد فيمكن ادخاره واستثماره للاستفادة منه بعد فترة من الزمن، دون أن يقصّر الشخص في الواجبات التي تقع عليه تجاه أفراد أسرته في الحياة اليومية عملا بما ورد في القرآن الكريم: ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ** إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا).

كما تحتاج عملية “الادخار” إلى قيام رب البيت سواء الرجل أو المرأة بتبني ثقافة الادخار وتلقينها للأبناء في مرحلة مبكرة، وتعليمهم بضرورة مراعاة الحد الأدنى من الجانب الاستهلاكي في حياة الأسرة، والعمل على التقليل قدر الإمكان من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها. الأمر الذي يتطلب ادخار ما لديه من المبالغ الزائدة سواء على شكل وديعة لدى المصارف أو الاستثمار في القنوات التي تعود عليه بعائد مادي من خلال ممارسته لنوع معين من التجارة أو الاستثمار في القنوات الادخارية الصحيحة. وهناك اليوم الكثير من المؤسسات التي تقدم خدمات عديدة لاستفادة الأفراد من المبالغ التي يقومون بادخارها لاحقا سواء في أغراض تعليم الأبناء، أو الصرف على موضوع التأمين الصحي عند الكبر، أو الاستفادة من تلك المبالغ في الأسواق المالية للحصول على نسبة من الأرباح السنوية أو من خلال عمليات إيداع المبالغ في تلك المصارف.

كما أن هناك الكثير من الدول والشعوب التي نجحت في تثقيف مواطنيها بأهمية الادخار منذ الصغر، ومن ضمنها الحكومة اليابانية التي نشير إليها في هذه الدراسة كنموذج خارجي وبغرض المقارنة. وتجربة اليابانيين كبيرة في عملية الادخار باعتبارهم من الشعوب التي تتبنى هذا الأسلوب بغرض الاستفادة من المبالغ المدخرة سواء في عمليات التنمية الاقتصادية أو في الأمور الترفيهية أو السياحية. وهذا ما جعل اليابان واحدة من أكثر الدول الدائنة بمدخراتها الهائلة التي استطاعت جمعها من عمليات تصدير منتجاتها، ومن ادخار ربات بيوتها. وقد اشتهرت اليابان لمدة طويلة بأنها صاحبة أعلى معدلات الادخار بين البلدان الصناعية، حيث كانت الأسر اليابانية في أوائل ثمانينات القرن العشرين تدخر نحو 15% من دخلها بعد خصم الضرائب، إلا أن معدل الادخار تراجع تدريجياً منذ الثمانينات، فكان لا يزال عند مستوى 10% في التسعينات. وما زالت الأسر اليابانية تحتفظ بمبالغ ضخمة من المدخرات السائلة في هيئة حسابات توفير بريدية وودائع مصرفية.

لا شك أن موضوع” الادخار” يعتبر من القضايا المهمة في المنطقة حيث تحث الحكومات الخليجية وتعمل من أجل تطويرها وزيادة حصيلتها من خلال مختلف القنوات المصرفية والمالية والاجتماعية المتاحة، الأمر الذي يتطلب توعية المواطنين والمقيمين بأمور “الادخار” وبأهميته وضرورة العمل بهذه السياسة من خلال ادخار ما لديهم من أموال في قنوات معروفة خاصة، لدعم سياسات دول المجلس تجاه التنويع الاقتصادي التي تبنتها منذ عدة عقود مضت ومن أجل التقليل من الاعتماد على الإيرادات النفطية كمصدر رئيسي للدخل القومي، وحثهم في الإقبال على ممارسة الأعمال التجارية ومحاربة التجارة المستترة ، الأمر الذي يساعد على تحقيق المزيد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.

ونشير هنا إلى أنه بالرغم من أن الحكومات الخليجية والمجتمع الخليجي يبديان حرصا كبيرا تجاه هذا الموضوع الذي يهم كل فرد في الأسرة، إلا أننا نرى أن العدد الأكبر من الخليجيين في المنطقة مدينين للمصارف نتيجة اتجاههم نحو الاستقراض من المصارف بدلا من التوجه نحو الادخار بسبب هذا الكم الهائل على الاستهلاك والتبذير أحيانا.

وهذا يعني أن هناك نقصا للمدخرات الوطنية للمواطنين من مختلف الطبقات في تلك المصارف، وأن غالبية الادخارات تعود لبعض المؤسسات والأفراد والشخصيات الكبيرة في المنطقة كما هو الحال في سائر الدول العربية، حيث إن الأغلبية من المواطنين يعانون من مشاكل الاقتراض بسبب حاجتهم إلى العيش والصرف على الحياة اليومية. من هذا المنطلق فان بعض المواطنين يرون أن هناك مشكلة في “الادخار”.

هناك اليوم قلة من الدراسات التي تتحدث حول هذه القضايا في المنطقة الخليجية بشكل عام، وخاصة في الجوانب التي تتناول موضوع “الادخار” سواء من قبل الأفراد أو العائلات الخليجية. وهذا المقال يهدف في الأساس إلى تسليط بعض الضوء حول مفهوم “الادخار” في المنطقة ومدى نجاح السياسات الحكومية في تعبئة الناس وتوعيتهم بضرورة الاهتمام بسياسة الادخار سواء على المستوى الرسمي الحكومي أو على المستوى الأهلي والأفراد والمؤسسات الخاصة، بالإضافة إلى ذلك إلى مناقشة المعوقات التي تواجه سياسات الادخار في المجتمع الخلجيي وكذلك معرفة السياسات التي تبنتها الحكومة خلال العقود الماضية، والمعوقات التي تواجه تلك السياسات، والتحديات التي تقف في طريقها من أجل تحقيق المزيد من الانجاز في هذا الشأن.