yousef
yousef
أعمدة

النوبة: حضارات متلاحقة

02 يونيو 2017
02 يونيو 2017

يوسف القعيد -

حضارة النوبة الأولى: سكان المجموعة الأولى عاصرت العصر التاريخي المبكر في مصر القديمة «لا يختلفون في مميزاتهم الجسدية عن المصريين قبل الأسرات، ولا شك أنهم السكان الموجودون في بيئة لا اختلاف بينها». ولأن النوبة كانت قليلة السكان قبل أن يغزو جنس الأسرات مصر، ثم شهدت زيادة السكان ودخول حضارة جديدة، فإن الاحتمال الوحيد هو تسرب عدد كبير من سكان ما قبل الأسرات منسحبين تحت ضغط الشمال نتيجة غزو المتقدمين من فراعنة مصر الأول.

حضارة النوبة الثانية: كانت تنحدر من المجموعة الأولى، كانت تنطوى على نواحي اختلاف كثيرة ربما كانت ترجع إلى تدهور عام أو إلى ظهور عناصر سلالية جديدة آتية من الجنوب. وقد عاصرت الحضارة الفقيرة الدولة القديمة في مصر، وكذلك عصر الانتقال الأول. وفى هذا العصر «ضاعت قوة الحكم المركزي، وأعقب ذلك فوضى في الوطن؛ مما أدى إلى نتيجة أن مصر ضيعت كل ممتلكاتها في الجنوب. وبالتالي نشأت حضارتان هما حضارة النوبة الثالثة والرابعة.

حضارة النوبة الثالثة: أعطى الفراغ الناشئ عن انسحاب القوة المصرية من النوبة، في العصر الانتقالي الأول، الفرصة للنوبيين لينشئوا حضارة مستقلة عرفت بالمجموعة الثالثة التي عاصرت الدولة الوسطى والعصر الانتقالي الثاني «ولا يزال اسم هؤلاء المهاجرين وأصلهم غير معروف، ولكن يبدو أن لهم علاقة -من ناحية الشكل والحضارة- بسكان النوبة السفلى الأوائل. فالمهاجرون والسكان القدامى ينتمون أساسا إلى المميزات الزنجية في المادة التشريحية المكتشفة في مقابرهم. وقد وصلت حضارة المجموعة الثالثة إلى ذروة نضجها في النوبة السفلى (واوات) التي لم يشملها النشاط العسكري المصري للدولة الوسطى. فظلت بعيدة عن تأثير الحضارة المصرية.

وبعد تحرير مصر من الهكسوس بدأ أحمس الحروب الجنوبية التي أسفرت عن استعادة السيطرة على النوبة وتعمير المصريين لها. وبتأثير المرور المتواصل الطويل للجيوش المصرية عبر النوبة السفلى في طريقها إلى ساحة القتال مع كوش في الجنوب، إلى جانب زيادة عدد المستعمرين المتصلين بالجيش والمحطات التجارية، على معتقدات وأسلوب حياة سكان المنطقة اختفى «كل ما تبقى.

حضارة النوبة الرابعة أظهرت الحفائر الأثرية في «كرما»، في النوبة العليا، «حضارة نوبية أخرى تشبه حضارة النوبة الثالثة»، وتختلف عنها وتنتمى إلى شعب آخر» – «ولم تعرف حدودها الجغرافية ولا تتابعها التاريخي، مثلها في ذلك مثل الحضارة الثالثة». وقد صار من الممكن بفضل الكشوف الأثرية «تأكيد الصلة بين حضارة أصحاب المقابر الناقوسية وأهل كرما واستبعاد صلتهم بالحضارة الثالثة. وبذلك يظهر أن الفرق السمراء التابعة للجيش المصري كانت تأتى من النوبة العليا.

ومنذ أواخر الأسرة الثانية عشرة تسرب الهكسوس إلى مصر ومع ضعف الأسرة الثالثة عشرة قاموا بغزوها وامتد نفوذهم فيها حتى قوص جنوبا. وسارت مصر كلها تحت حكم ملوك الهكسوس. بينما اتخذ الحكام الأصليون في الجنوب من طيبة عاصمة لهم. وحكموا محليا دافعين الجزية للمنتصر الأجنبي في الشمال. وهكذا لم تبق لمصر قوة في النوبة العليا. فامتدت سلطة الحكام الكوشيين إلى منطقة واسعة من النوبة. مع أن جزءا كبيرا من النوبة السفلى كان لا يزال تحت السيطرة المصرية. أو تحت تأثير المصريين. ولم يمتد إليها سلطان كوش. وهكذا تبدلت الأحوال وانقلبت الأوضاع. وكانت كوش هي التي ستغزو مصر.

وتوطد سلطان ملوك الأسرة المالكة قبل أن يحاولوا تأكيد سيادتهم على مصر، واستقبلت الجبانة الكبرى في «كورو» موتاهم. قبل قيامهم بغزو الشمال بأكثر من مائة سنة. على أن أسلاف الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية التي حكمت مصر في العصر التاريخي المتأخر يمتون بالصلة إلى جماعة أخذت بالحضارة المصرية مع أنها تنحدر من أصل كوشي.

ودخلت مصر بعد نهاية الدولة الحديثة عهود العصر المتأخر التي شهدت تدهور الحضارة المصرية وانهيارها. وقلت فيها فترات الازدهار. وخلال الألفية الأولى قبل الميلاد وحتى الفتح العربي تعاقب على مصر والنوبة فاتحون كثيرون: الليبيون والكوشيون والأشوريون. الذين غزوا مصر وهزموا الأسرة الكوشية وضعوا نهاية لحكمها في القرن السابع عشر قبل الميلاد. والفرس. ثم جاء المقدونيون ثم الرومان والبطالمة. على مدى قرابة 1000 سنة منذ الفتح المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد حتى الفتح العربي في القرن السابع الميلادي.

الحضارة النوبية القبطية: امتدت بين القرنين السادس والرابع عشر؛ بحلول القرن السادس الميلادي تكونت ثلاث ممالك مسيحية نوبية جديدة على الأراضي التي كانت تحت سيطرة مملكة مروى، وهى مملكة نوباتيا وهى معروفة أيضا باسم بلانة، وكانت عاصمتها فرس، ومملكة المقرة أو المغرة وعاصمتها دنقلا القديمة، في عمق مروى القديمة في الجنوب وعاصمتها سوبا، وفى الممالك الثلاث جميعا حكمت الأرستقراطية المحاربة سكانا مرويين، أما البجة الذين كان البليميون أسلافهم فقد طردهم ملوك النوبة إلى الصحراء.

وكانت هذه الدول ناطقة باللغة النوبية التي كانت تكتب بالحروف القبطية المعدلة عن الحروف اليونانية مع إدخال تعديلات نوبية عليها، ويبدو أن المروية وكتابتها قد اختفتا تماما.

وقد بلغت هذه الحضارة أوج ازدهارها في القرنين التاسع والعاشر. وقد تحول سكان النوبة إلى الإسلام بصورة تدريجية، ولم يشكل المسلمون الغالبية الدينية إلا في القرن الخامس عشر أو السادس عشر.

إن الحضارة النوبية تتميز بالصفة النوبية؛ فإننا إزاء جماعة لغوية واحدة كانت مستمرة. ومن المحتمل أن هذه الجماعة اللغوية كانت موجودة منذ زمن طويل قبل فترة. على أننا نجد أنفسنا أمام لغز كبير: إذ كان أسلاف النوبيين جماعة لغوية مختلفة عن الجماعة اللغوية التي تمثلها حضارة كوش وعن اللغة المرورية التي يعتقد أنها كانت لغة الممالك المتعاقبة لحضارة كوش، فكيف حدث أن حلت اللغة النوبية محل لغة حضارة كوش أو اللغة المروية في المنطقة النوبية السودانية؟.

هل حدث هذا من خلال غسيل دم لغوى شامل للشعب المروى بالطريقة التي حلت بها اللغة العربية محل اللغة القبطية؟ وإذا صحت. فرضية أن اللغة النوبية هي ذاتها اللغة المروية، فكيف تفسر هذا العجز المتواصل عن فك شفرة الهيروغليفية المروية بافتراض أن الحروف اليونانية القبطية حلت محلها كما كانت قد حلت قبل ذلك محل الهيروغليفية  في مصر.

ونكمل..