المنوعات

نازك الملائكـة: نظـرة في «ســيرة شــعـريّة»

31 مايو 2017
31 مايو 2017

ماجـد صالح الســــــامرّائي -

إذا كان شعراء الحداثة العربيّة قد «نحروا التقليد» بروح التجديد، فإنّ الشاعرة نازك الملائكة (1923- 2007) فعلت العكس تماماً، إذ «نحرت التجديد» بالارتداد إلى التقليد! فهذه الشاعرة التي مالت حياةً إلى الانفراد بنفسها/‏‏ مع نفسها، والاقتصار على التواصل مع مَن تختار وتصطفي، صانعةً خصوصيّة حياتها على النحو الذي به ترغب وتريد، كانت، ذاتاً إبداعيّة، قد عُنيتْ بتنمية قدراتها الجماليّة، والاندفاع نحو العالَم الداخليّ.. أمّا العالم الخارجيّ فغالباً ما أقبلتْ عليه بشيء من الريبة والشكّ.

أمّا نظرتها إلى الفنّ، فجاءت مرتبطة بالقيَم الجمالية للحياة، أو نابعة منها. وهي في هذا كثيرة الاهتداء بذاتها، حيث التعبير الحقيقي عن طبيعتها الإنسانية. وهي خياليّة الصور الشعرية، وكثيرة التخييل في ما ترى من مشاهد عبَّرت بها حياةً وشعراً. فإذا ما قرأنا شعرها بتمعّن سنجدها تتّجه فيه إلى تأكيد دَور الخيال والأحاسيس التخييلية. ولعلّ اندفاعها في توجّهٍ كهذا جاء نتيجةً حتميّة لآثار ما كانت تحمل من قيود فرضها عليها «مُحيط العائلة»، وهي التي اكتسبت لقبها منها.

أمّا إذا تابعنا سيرتها الشعرية والنقدية، فسنجد لها في ما كَتبت، في الحقلَين، مكانةً واضحة احتلّتْ فيها القيَم الجمالية موقعها الواضح، سواء في مستوى الإبداع الشعري أم في مستوى القراءات النقدية، ما يعني أنّ تفكيرها كان تفكيراً متّسقاً مع ما اتّخذت من توجّهات في الكتابة.

فقد قالت، بدايةً، وأخذت نفسها في ما تَكتب، بقيَم جمالية أكَّدت على أنّها إنما تُعبّر بها/‏‏ ومن خلالها عن دواعٍ جديدة يستدعيها مجتمع المستقبل ثقافيّاً.. بل رأت أنّ الحالة المُثلى للإبداع هي في أن يرتبط بالمستقبل وبالرؤية المستقبلية، وليس بالماضي.ـ مهما كانت أهمّية ذلك الماضي وما توفّر عليه من قيَم إبداعية، موظفِّةً رؤيتها النقدية هذه في اتّجاهات إبداعية بنّاءة لواقع جديد فيه من الحياة ما يحقِّق المُثل العليا للحياة. وفي هذا السياق جاءت دعوتها للإبداع بسلوك طريق غير مسبوقة بنمط أو نموذج... فكانت صورة القصيدة الجديدة التي كتبتها صورة تمثَّلتها نقديّاً في مقدّمة ديوانها الثاني «شظايا ورماد»(1949) تعبيراً عن رغبة من رغبات الذّات الشاعرة، أو الاستجابة لمنطقها.. وفي الحالتَين، الشعرية والنقدية، مثلتْ قوّة حيويّة لذاتها الإبداعية، وإن كانت آفاق رؤيتها النقدية ورؤياها الشعرية آفاقاً رومانسية التكوين.

وتواصلت قصيدتها مع عناصر الرومانسية ومكوّناتها متمثّلةً في: الحلم، والخيال، والخَلْق الفنذي، متمثّلة في صُورٍ شعرية بارعة التكوينات، وقد وجدت نفسها، في غير قليل ممّا كتبت، تستجيب لدوافع الذّات (العاطفية منها بوجه خاصّ) مثّلَ البعضُ منها «رغباتٍ مباشرة».

التغيير بروحٍ رومانسيّة

إذا كان لنا أن ندخل في البحث عن السمات المميِّزة للرؤيا الشعرية عندها، سنجدها في حقبة البدايات التأسيسية، والتفوّق الشعري (في أعمالها الثلاثة الأولى) تقوم على مبدأ التغيير والمُغايرة. فإذا كانت في «التغيير» قد أخذت بمبدأ «اللّاقاعدة هي القاعدة الذهبية»، فإنّ «المُغايرة» منها ظلّت في إمكانات الانتقال بالرؤيا الجديدة في إطارها الرومانسي. ولعلّ أبرز ما اتّصفت به رؤيتها الشعرية في هذه المرحلة، ما جاء من انعكاسات تفكيرها اليوتوبي عليها، والانغمار في عوالِم الحلم، والتعبير بلغة تفرّدت بصُورها الشعرية. إلّا أنّها، من بعد هذا، ستكتب بلغةٍ على جانب من النمطية، وحتّى صُورها الشعرية فيها لم تتجاوز نمطيّة اللّغة منها، متبنّية من«أقاليم مُستعادة» ما أسلم التعبير الشعري عندها إلى سكونٍ وجمود واضحَين. فهي في أفضل ما كتبت في حقبتها الشعرية هذه (ديوان: «يُغيّر ألوانه البحر» 1970) تحوّلتْ الكتابة الشعرية عندها إلى ضربٍ بسيط من ضروب «المُتعة الجمالية» للألفاظ أكثر من المعاني، وغابت من «قولها» تلك المتعة المتحقِّقة في تعبيرها الرومانسيّ وما أخذت به قصيدتها من قيَم جمالية، وهي القيَم التي نجد بين النقّاد مَنْ يذهب إلى أنّها الأساس لاكتمال شخصيّة الإنسان، والفنّان.

لقد استقت نازك مفهومات الرؤية/‏‏ الرؤيا الرومانسية من مصدرَين أساسيَّيْن، وهما:

• المصدر العربي متمثلّاً بالشاعر علي محمود طه على نحو خاصّ. فقد شدّها إلى شعره عاملان، الأوّل، انجذابه إلى التجديد و«التجريب»، الذي كان، بدرجة أساس، بتأثير الشعر الرومانسي الإنكليزي، فالتقت تجاربه باهتمام وتأثّر واضحَيْن. والثاني، هو الإحساس بفردية الرؤية وتفردات الرؤيا، وتعبيره عنها بـ«حريّة وجدانية» عالية، فضلاً عمّا اتّسم به شعره من «نزوع انطباعي»، حتّى وُصف بـ«الانطباعي المُدهِش» بفعل ما يوقظه شعره من إحساسٍ ذاتيّ بالأشياء، مليء بالحسيّة المُثارة.

• والمصدر الغربي متمثلّاً بروّاد الرومانسية الإنجليزية (التي يُمكن تعيين مواردها بمَن تَرجمت لهم في ديوانها الأوّل «عاشقة الليل» 1964).

وفي الحالتَين، كان الجوهر التكوينيّ لقصيدتها في ما تقدّم من المعاني، فضلاً عن تمازج عالمَين: عالَم داخليّ هو مصدر الإحساس والشعور، وعالَم خارجيّ يحيط بها وجوداً إنسانيّاً. وفي هذا لم تخرج عن المفهومات المثالية للرومانسية بأبعادها التكوينية، على اختلاف المواقف والحالات التي عبّرت عنها.. وفي هذا تأتي الإشارة التأكيديّة إلى أنّ التطوّر الذي أحدثته نازك شعريّاً لم يكُن في «التجديد» بُعداً حداثياً (كما جاء في مقدّمتها لديوانها الثاني، والتي عدّها بعض النقّاد «البيان الأوّل للحداثة»..)، وإنّما كانت في إحداث ما أحدثتْ من تطوّر في الحركة الرومانسية العربية. وعلى هذا يُمكن أن نعدّها ممثِّلة البُعد الجديد لهذه الرومانسية، وإن دعت فيها إلى قصيدة ذات بُنية جديدة، لها تكاملها الفنّي المختلف عن النمط السائد شعرياً بالخروج عليه.

وإذا كانت مقدّمة «شظايا ورماد» تمثيلاً نقدياً لتمرّد شعري، كانت دعت إليه، على تقاليد القصيدة العربية، فهي في الوقت الذي كانت فيه «رومانسيّة حالِمة»، خاضت علاقات عاطفية معقّدة بقدر ما أيقظت لديها فيضاً من المشاعر والأحاسيس، فإنّها انعكست في كثير ممّا كتبت في أعمالها الشعرية: «عاشقة الليل» (1947)، و«شظايا ورماد» (1949)، و«قرارة الموجة» (1954)، وهذه العناوين بذاتها، تشير إلى مراحل مسارها العاطفي بتحوّلاته.

التحوّل عن الحداثة

في هذا، نظرت نازك إلى الشعر، وتعاطته فنّاً، من خلال النّظر إليه، برؤيتها الخاصّة، كونه معطىً من معطيات «الحقيقة الذاتية»، حتّى ما جاء من هذه الحقيقة في سياق الحلم.. مُصدرة عن قناعتها بقدرات الذات على بناء اللّغة. ومن هنا نبعت عندها أهمّية الذات في ما جعلت لها من «أبعاد موضوعية» سنجدها تنعكس، من بعد، على موقفها الشعري في التحوّل عن الحداثة ـ التي عبّرت عنها أوضح تعبير في مقدّمتها لـ«شظايا ورماد»، فلم تعُد لغتها قريبة من روح الإبداع بقدر قربها من «المعجم».

وإذا كان زملاء الشاعرة من المجدّدين الروّاد قد انتقلوا بقصيدتهم من الرومانسية (التي كانت بداياتهم منها، أو تأسَّست عليها) إلى «التجربة الرؤويّة» بما لها من أبعاد كَونية، فإنّ نازك انتقلت، قصيدةً، من الرومانسية إلى ما يُمكن أن نعدّه «تقليديّة جديدة»، من بعد أن كانت في طليعة الداعين إلى تجاوزها وتخطّيها. ومع هذا «التحوّل الارتدادي» أصبح «وعيها النقدي» وعياً محكوماً بالارتداد ذاته عن التجديد والجديد.. فإذا هي شاعرة كلّ عدّتها «عدّة بلاغية»، من بعد أن كانت قد أكّدت أنّ الجديد جديد بما يحمل من روح المفاجأة وينفتح عنه من دهشة. فإذا ما استخدمنا التعبير الإيديولوجي في توصيف موقفها التجديدي قلنا إنّها بدأت «شاعرة ثورية»، ليس في «الرؤيا المُغايرة» وحدها، وإنّما، إلى جانبها، بـ«جذريّة الرؤية/‏‏ الرؤيا» بما رفدها من خيال خلاّق.

وفي مرحلتَيها، لم تقدِّم نازك، على صعيد النقد والتنظير اللذَين مارستهما، «نظرية شعرية» يُمكن أن تُتّخذ أساساً معتَمَداً:

- ففي مرحلتها الأولى اعتمدت مقتربات جمالية قريبة من عالَم الحلم الذي تتداعى منه رؤاها الشعرية، وإن كانت في هذا لم تحقِّق عملية التغيير الجذري الذي دعت إليه.

- وفي المرحلة الثانية اندفعت اندفاعات فيها النقض (وهي النقيض) لمرحلتها الأولى. كما جاءت بمنطق مضادّ لمنطقها التجديدي، متبنّية، في عودة غريبة، الكثير من القيَم التقليدية التي كانت قد رفضتها، ودعت إلى تخطّيها. وبذلك، حكمت على نفسها بالانعزال الكلّي عن حركة التجديد، من دون أيّ إشارة منها إلى ما كانت قد أكّدت عليه في مرحلتها الأولى، مكتفيةً بالتوجّه المُعاكس اتّجاهاً، والمُغاير جوهراً ومنطقاً، ليكون هذا التوجّه السلبي منها «اتّجاهاً» و«طريقة» أكملت بهما مسيرتها الشعرية.

هنا أصبح حضورها التجديدي حضوراً ضعيفاً، وانحسر تأثيرها، وكما يبدو فإنّها أدركت حضورها الهامشيّ هذا، فارتضته.

أمّا نقديّاً، في ما قدَّمت من آراء بخصوص «الشعر الحرّ»، فجاء ما قدّمته فيه من موقع الشاعرة، وليس من موقف نقديّ. وحتّى ما جاء منها في «المقدّمة» كان من خلال «رؤية شعريّة» للشعر، تركت فيها المجال مفتوحاً أمام الشاعر ليتوازى مع تمرّدها على «التقليدية» التي وجدتها تسدّ منافذ كلّ رؤية جديدة. فهي لم تصطنع لنفسها «منهجاً نقديّاً»، وإنّما كتبت ما كتبته في سياق «نهجها الشعري»، وجاءت بآرائها «النقدية» من خلاله، فكانت بمثابة «رؤية انطباعية»، وليست «منظوراً موضوعياً» (مع أنّ بعض ما كتبت في إطارٍ نقديّ آخر جاء عميق الرؤية والامتدادات، كما في كتابها: «التجزيئيّة في المجتمع العربي»).

كما أنّ موقفها السلبي من التطوّرات التي أدركتها «القصيدة الحرّة» في معطيات زملائها من شعراء عصرها كانت ذات مردود انعكاسيّ عليها شاعرةً، فتطوّرت قصيدة الآخر، وتراجعت قصيدتها حتّى على ما كانت حقّقته في أعمالها الشعرية الأولى. كانت، كما أكّدت غير مرّة، تريد «إنقاذ» القصيدة الجديدة التي علتْ بمستويات التجديد، إلّا أنّها أغرقتها بأحكامٍ نمطيّة، رفدتها بكتابات شعريّة نمطيّة لا ترقى حتّى إلى ما كانت قد كتبت من قبل.

وعلى سلبيّة تساؤلات نازك الشعرية والنقدية بخصوص التجديد والجديد، فإنّها حرّكتْ كلّاً من الشاعر الجديد والناقد المُنحاز إلى الجديد، حركة متقدّمة.

■ كاتب وناقد عراقي

بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي