أفكار وآراء

مفاوضات «البريكست» إلى أين؟

31 مايو 2017
31 مايو 2017

عبد العزيز محمود -

مع الإعلان رسميا عن بدء الجولة الأولى لمفاوضات «البريكست» يوم ١٩ يونيو الجاري، تدخل العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي مرحلة حاسمة، فالخلافات حول فاتورة الخروج من الاتحاد لا تبدو بسيطة، وتداعيات الخروج لا يمكن لطرف واحد بمفرده أن يتحملها.

وتطالب بروكسل - لندن بسداد التزامات مالية قد تصل إلى مائة مليار يورو قبل إتمام عملية «البريكست»، وهو ما يرفضه البريطانيون الذين يطالبون بالدخول في مفاوضات دون شروط مسبقة، ملوحين بإمكانية الخروج من الاتحاد دون اتفاق.

ووسط جدل حول تداعيات الخروج على العلاقة بين مكونات المملكة المتحدة ، يتواصل الخلاف بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي الـ٢٧ حول ملفات أخرى عالقة، وسط محاولات تستهدف إحراز اتفاق قبل نهاية ديسمبر المقبل، تمهيدا لبدء مفاوضات اتفاق للتجارة الحرة في ربيع عام ٢٠١٨.

يأتي ذلك بالتزامن مع إجراء انتخابات عامة لتشكيل مجلس العموم في بريطانيا، والتي كانت مقررة في ٧ مايو عام ٢٠٢٠، ثم تقرر إجراؤها في ٨ يونيو الجاري، لتعزيز موقف الحكومة البريطانية في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي حسبما رغبت رئيسة وزراء بريطانيا تريزا ماي .

والمؤكد أن تقديم موعد الانتخابات، قد يؤمن وضوح الرؤية لإنجاح عملية التفاوض، وفي حالة فوز حزب المحافظين كما هو متوقع، فإن حكومة الحزب سوف تتحمل مسؤولية مرحلة حافلة بالتبعات، وسط تباين في وجهات نظر الأحزاب البريطانية حول سبل تحملها.

ويصر الأوروبيون على تسوية ثلاث مسائل رئيسية، قبل بدء أية مفاوضات، بشأن الاتفاق التجاري المستقبلي مع بريطانيا، وتتضمن حقوق مواطني الطرفين، وتسوية القضايا المالية، والحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، مع مراعاة العلاقة الخاصة بين بريطانيا وجمهورية إيرلندا وأهمية عملية السلام في أيرلندا الشمالية.

لكن بريطانيا تطالب بأن تتم مفاوضات الخروج، التي يتوقع أن تستغرق عامين، وربما أكثر إذا تم الاتفاق على تمديد المدة، بالتوازي مع المفاوضات المتعلقة بالتجارة والعلاقات المستقبلية، حتى يتوفر الوقت الكافي لحسم المسائل العالقة.

والمتوقع إجراء المفاوضات عبر أربع جولات أسبوعية، بحيث يخصص الأسبوع الأول للتحضير، والثاني لتبادل الوثائق، على أن تبدأ المفاوضات الفعلية في الأسبوع الثالث، وترفع النتائج في الأسبوع الرابع لحكومات الطرفين والبرلمان الأوروبي، تمهيدا لاستئناف الجولات التالية.

وقرر الجانبان تشكيل خمس فرق تفاوضية، لحسم نقاط الخلاف خاصة فيما يتصل بالتزامات بريطانيا تجاه الاتحاد، والتي تشمل مساهمتها في الموازنة الأوروبية، وتسديد رواتب التقاعد لموظفي أجهزة الاتحاد، وأوضاع الموظفين البريطانيين في دول الاتحاد، والمواطنين الأوروبيين في بريطانيا، والقواعد المتعلقة بالمنافذ الحدودية.

وخلال المفاوضات سوف تتولى المفوضية الأوروبية مهمة التفاوض نيابة عن الأعضاء الـ 27 للاتحاد، ويقود فريقها التفاوضي ميشيل بارنييه، كبير المفاوضين الأوروبيين، والذي سبق له أن شغل عدة مناصب من بينها المفوض الأوروبي ووزير خارجية فرنسا، بينما يقود فريق المفاوضين البريطانيين وزير شؤون الخروج من الاتحاد الأوروبي ديفيد ديفيس، والمرشح لشغل نفس المنصب في الحكومة البريطانية الجديدة.

وكان المجلس الأوروبي قد حدد المبادئ التي تحدد إطار المفاوضات، وفي مقدمتها التعامل مع بريطانيا كشريك وثيق في المستقبل، وان أي اتفاق معها يجب ان يقوم على توازن الحقوق والواجبات، وأن تجرى المفاوضات كحزمة واحدة، وألا يدخل الاتفاق أو أي ترتيبات انتقالية محتملة حيز التنفيذ، قبل إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو ٢٠١٩، على أن تعهد لمحكمة العدل الأوروبية بوصفها السلطة المختصة مهمة تفسير وإنفاذ اتفاق «البريكست».

ومن جانبها حددت بريطانيا أهدافها عبر المفاوضات والتي تستهدف إنهاء التعامل بقانون الجماعة الأوروبية الصادر في عام ١٩٧٢ والتحول إلى القانون المحلي، وإنهاء اختصاص محكمة العدل الأوروبية في بريطانيا، وتعزيز اتحاد أجزاء المملكة، وحماية نظام الهجرة، وإقامة شراكة جديدة مع الاتحاد الأوروبي، تتضمن اتفاقا للتجارة الحرة واتفاقا جمركيا جديدا، واستمرار التعاون في حماية الأمن الأوروبي ومحاربة الإرهاب، والوفاء بالتزاماتها كعضو في حلف شمال الأطلسي.

يذكر أن بريطانيا قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي عقب استفتاء أجري في يونيو العام الماضي، وصوت فيه ٥١.٩٪ من الناخبين البريطانيين لصالح الخروج، مقابل اعتراض ٤٨.١٪، مما أدى إلى استقالة ديفيد كاميرون من رئاسة الحكومة وحزب المحافظين، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة تيريزا ماي أعدت الحكومة خطة للخروج أقرها مجلس العموم.

وفي مارس الماضي دعت تريزا ماي المجلس الأوروبي لتفعيل المادة ٥٠ من معاهدة لشبونة، بهدف إطلاق عملية الخروج، على أن يتم التوصل إلى اتفاق مبكر بشأن المسائل الرئيسية، وبدء مباحثات تقنية حول اتفاق للتجارة الحرة.

وفي اجتماعها مع دونالد تاسك رئيس المجلس الأوروبي في وقت لاحق بلندن اتفق الجانبان على الانتهاء من التفاوض خلال عامين، يليهما مرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، وأن يكون أكتوبر ٢٠١٨ هو الموعد المستهدف لإنهاء إجراءات الخروج، وذلك لإتاحة الوقت الكافي لكي يصدق البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي على معاهدة «البريكست» بحلول ٢٩ مارس ٢٠١٩، أي بعد سنتين من طلب بريطانيا تفعيل المادة ٥٠ من معاهدة برشلونة، أو تمديد المهلة بناء على موافقة الطرفين.

ويسعى الاتحاد الأوروبي لإتمام «البريكست» قبل إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو ٢٠١٩، بينما تحاول بريطانيا أن تبدأ مفاوضاتها حول اتفاق التجارة الحرة بالتوازي مع مفاوضات البريكست، حتى يمكن تحقيق المهمة في الوقت المحدد.

وهو ما يرفضه الاتحاد الأوروبي الذي يطالب بريطانيا بأن تستهل المفاوضات بسداد فاتورة خروج تتراوح ما بين ٦٠ الى ١٠٠ مليار يورو، تمثل الالتزامات التي تعهدت بدفعها قبل إعلان نيتها للخروج، ومنها مساهمتها في ميزانية الاتحاد بين عامي ٢٠١٤ و٢٠٢٠، والتزامات مالية أخرى، لكن بريطانيا ترى انه لا يوجد أي بند قانوني يلزمها بدفع مقابل لخروجها من الاتحاد الأوربي.

وبدون التوصل الي اتفاق حول هذه المسألة، قد تدخل عملية التفاوض نفقا طويلا ، فالأعضاء الـ ٢٧ للاتحاد يرفضون زيادة مساهماتهم، بينما يرفض الاتحاد الأوروبي إجراء أي خفض لميزانيته قد يترتب عليه الإضرار بالمشروعات التي تم الاتفاق سلفا على تمويلها.

والحقيقة أن المادة ٥٠ من معاهدة لشبونة لا تحدد الالتزامات المالية المطلوبة من أي دولة ترغب في الخروج من الاتحاد الأوروبي، مما يثير جدلا حول ما إذا كانت تلك الدولة مطالبة بسداد التزاماتها المالية في ميزانية الاتحاد، ام تدفع تعويضات عن الخسائر المتوقعة نتيجة خروجها.

والمشكلة أن هذه القضية لا تشمل فقط الالتزامات المالية، وإنما تمتد إلى الأصول التي يملكها الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، ويطالب باسترداد قيمتها، وهي تشمل مبانيَ ومعدات وأدوات مالية، بينما تطالب بريطانيا بنسبة من هذه الأصول، بعد إعادة تقييمها.

وفيما يتعلق بحقوق المواطنين يحاول الطرفان التوصل إلى اتفاق بشأنها قبل نهاية العام الحالي، خاصة وأنها تشمل حقوق التنقل والمواطنة والسكن والتعليم والدعم الاجتماعي والعلاج الطبي والمعاشات التقاعدية، ويوجد في بريطانيا نحو ٣.٢ مليون من مواطني الاتحاد الأوروبي، بينما يعيش في بلدان الاتحاد ١.٢ مليون مواطن بريطاني، ويدرس الاتحاد اقتراحا بمنح الجنسية المشتركة لمواطني بريطانيا، إذا تقدموا بشكل طوعي للحصول على جنسية الاتحاد، حتى يمكنهم مواصلة العمل والعيش داخل القارة.

من جهة أخرى يتوقع استمرار النظام الحالي لحرية التنقل وحركة القوى العاملة ، حتى تنسحب بريطانيا فعليا من الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٩، وقد يمتد السماح لفترة إضافية مدتها خمس سنوات، لإعطاء الحكومة ورجال الأعمال الفرصة للتكيف، وتدرس بريطانيا ربط نظام الهجرة مستقبلا باحتياجات سوق العمل، مع زيادة الضريبة المفروضة على العاملين في أراضيها من خارج الاتحاد الأوروبي إلى ألفي جنيه استرليني.

ويظل وضع جبل طارق مثيرا للجدل في مفاوضات «البريكست»، فالاتحاد الأوروبي يدعم وجهة نظر إسبانيا الراغبة في مد سيادتها إليه، ووفقا للمبادئ التي حددها المجلس الأوروبي فإنه من غير الوارد الاتفاق مع بريطانيا بشأن منطقة جبل طارق، بدون اتفاق كل من بين إسبانيا وبريطانيا. كذلك تمثل اسكتلندا معضلة أخرى، فالاسكتلنديون صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهم يلوحون بإجراء استفتاء ثان للاستقلال عن بريطانيا، لكن الحكومة البريطانية تحاول تأجيل ذلك لحين إتمام مفاوضات البريكست، والمحتمل ، في حال تجاوز المفاوضات لمهلة العامين، أن تتحرك اسكتلندا للحصول علي الاستقلال، وتدخل في مفاوضات مع الاتحاد باعتبارها بلدا جديدا حسبما تأمل ولكن لندن تعارض ذلك . وهكذا تبدو مفاوضات البريكست حافلة بالألغام، وسط خلافات لا تنتهي حول ملفات ساخنة، ولعل هذا ما دفع البريطانيين للتلويح بأن عدم التوصل إلى اتفاق أفضل كثيرا من التوصل إلى صفقة سيئة، في إشارة إلى إمكانية خروجهم من الاتحاد دون دفع أية فاتورة، وهو ما قد يدفع الاتحاد الأوروبي لإبداء قدر من المرونة للاتفاق في النهاية حول المسائل العالقة.