أفكار وآراء

الأوقات الصعبة

31 مايو 2017
31 مايو 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

يواجه المستهلكون قبل كل رمضان وخلاله هجومات لا آخر لها من التجار وبائعي أو مقدمي مختلف الخدمات، حيث ترتفع أسعار كل شيء دون منطق واضح، وتعلو الشكوى ويزيد الصراخ وتكثر المقارنات مع زمان وأسعار زمان وأخلاق زمان، بل وربما دراما زمان التي لم تكن قد سيطرت عليها الإعلانات أو النغمة التجارية الفجة الخ ، ثم يأتي العيد فينشغل الجميع في دورة أخرى من الشكوى بسبب أسعار ملابس وأحذية واحتياجات العيد، وبعد ذلك تعود الأمور إلى طبيعتها، وأصبحت هناك “تيمات” محفوظة للكلام وللشكوى في مثل تلك الأيام من كل عام، وحتى مقالات الصحف والرسوم الكاريكاتورية وموضوعات النقد الإعلامي للانفلات السعري تتكرر أو تتشابه، وكأن الجميع يسحب من مخزون جاهز من مواد يتم استدعاؤها في مثل تلك المناسبات.

ومنذ عام 1991 تقريبا وأنا أسمع ذات النغمة في مصر قبيل رمضان وقبيل العيد ، سواء كان عيد للمسلمين أو الأقباط أو عيد وطني يتم خلاله استهلاك سلعة أو خدمة بمستوى أعلى من المعتاد. غير أن ما يجري هذا العام أو ما جرى مختلف بالفعل.

لقد جاء رمضان ومعدل التضخم في مصر قد بلغ ذروة لم يبلغها منذ الحرب العالمية الثانية، أي أننا إزاء حالة ارتفاع أسعار صادم ولا يمكن أن نعزوه إلى استغلال التجار فقط على وفرته، فقد كان المحرك الأساسي له هو تحرير سعر الصرف والقرارات الإدارية الخاصة برفع كلفة الطاقة أو إقرار قانون القيمة المضافة وغير ذلك.

حين تم تحرير سعر الصرف قلت في أكثر من محفل: الآن تبدأ السياسة مرة أخرى في مصر! فقد بدأ أصحاب المصالح المشتركة يتوحدون شيئا فشيئا لاحتياجهم إلى مواجهة هذا الغول بطريقة اكثر فعالية من جهد فرد أو أفراد، وأيضا لأنهم لا يملكون إلا ذلك حيث انه من الترف الاستمرار على النهج القديم في الحياة.

من هنا ظهرت مبادرات للمقاطعة وأخرى للتنبيه إلى منتجات تباع في مواقع معينة بأسعار أقل، أو التعريف ببدائل لم تكن مستخدمة، أو نقل الخبرات في التعامل مع الصعوبات المعيشية أو اقتراح عمل منتجات جديدة ليست موجودة بالأصل ومن خامات محلية لتكون أرخص وتغني عن غيرها مما يتم استيراده، أو شرح طرق مبسطة لإنتاج طعام أو حلوى في المنزل بدلًا عن الشراء.

بدأ مجتمع الصناع في مصر بعد طول ثبات يصحو ويفيق فإن ثمة تحديا وثمة فرصة أن ضاعت فلن يعوضها.

وبدأ الصناع يقلبون في دفاتر تكاليفهم وتصميمات منتجاتهم واللوائح التي يمكن أن تساعدهم في تعميق صناعاتهم ، وأثيرت مناقشات حامية جول جدوى قانون دعم المنتج المحلي.

لقد هلل الجميع للقانون وقت صدوره لكن ظهر الآن أن أحدًا لم يكن قد استخدمه حيث لم تظهر عيوب التطبيق الا في الوقت الراهن فراح الكثيرون يطالبون بتعديله لتلافي ما فيه من قصور أو ما يتصورنه قصورًا.

حالة جديدة على المجتمع الصناعي المصري تبرز المفهوم الذي ذكرته أي “من هنا تبدأ السياسة” أو بمعنى آخر يبدأ الاهتمام الموضوعي الجاد بالعمل العام، وحيث النتيجة ذات اثر مادي وذات مردود مباشر على الفرد أو المنشأة.

السياسة بهذا المعنى لم تعد كلام في كلام أو تجارة كلام.

زاد من وتيرة العناية بالعمل العام انفجار معدل التضخم.

لقد أصاب الجميع -إلا قليلًا من المترفين- بلطمة.

تغيرت سلوكيات وأفكار كثيرة، وتغيرت مفاهيم الاستهلاك والشراء، واصبح للعقل بعض النفوذ على قرار شراء هذا أو عدم شرائه.

السخرية التي ملأت الصحف من عدم استيراد “ياميش” بشكل كاف هذا العام وارتفاع أسعاره إلى حدود تفوق طاقة الطبقة المتوسطة ناهيك عما دونها لم تترك أثرا فعليا في المتلقين؛ لأن الأغلبية الساحقة قلبت الصفحة سريعًا، واعتبرت “الياميش” والمكسرات جزءًا من ماض ولى ولن يعود.

بالطبع ظل البعض يحاول التعويض عبر التوسع في استهلاك الفول السوداني (يسمى ياميش الفقراء) مع زبيب العنب الذي لا يزال منخفض السعر نسبيًا. لفت نظري خلال وجودي في واشنطن الشهر الماضي الحديث المتكرر من مراكز بحثية ومن خبراء أمريكيين عن التضخم في مصر.

.عبروا عن قلقهم -البريء أو ربما غير البريء- من مخاطره وخوفهم من أن يقود إلى توترات اجتماعية.

وتزامن مع ذلك مطالبة صندوق النقد للحكومة برفع الفائدة لاحتواء التضخم.

ومنذ أيام تابعت سلسلة من الموضوعات على قناة بي بي سي عربي عن الأسواق والأسعار في مصر.

أعرف أن الموضوع مهم داخليًا وخارجيًا.

..

فمستويات التضخم مهمة أيضا للمستثمرين بمصر أو من خارجها، ولذا فإن تطلع أي أجنبي إلى النظر في سياسة الحكومة لمواجهة التضخم هو تطلع مشروع.

تركيزي كله خلال الأيام الماضية كان على الناس.

الشعب، وكيف يتصرف في هذا الظرف العصيب؟ . إحدى الأفكار التي استلهمها المنتجون من الجمهور العادي هي فكرة الحجم الصغير من أي شيء سواء كان علبة جبن أو مكيال من الحبوب المعبأة في أكياس أو كمية من الآيس كريم.

الناس الذي لا يستطيعون أن يمنعوا أبناءها وبالذات الأطفال من أن يتوقوا إلى تذوق هذا المأكل أو ذاك المشروب ليس أمامهم إلا البحث عن الأقل حجمًا من الصنف المطلوب ليدفعوا فيه سعرًا يستطيعونه. أخيرا ظهر على “الاوت دورز” الضخمة في بعض شوارع وميادين العاصمة إعلان عن علبة جبن أبيض زنة 80 جرامًا من صنف معروف.

العلبة زنة كيلو اقتربت من 40 جنيهًا فما العمل ؟ تصغير الحجم.

الإعلان يقول إن العلبة الصغيرة التي تباع بـ2.5 جنيه “تفرد 5 فينو” أي تحشو 5 ساندويتشات.

قد تكون ثمة مبالغة في الأمر لكن الرسالة وصلت.

غير القادر على الكبير أمامه الصغير.

اشتهر المصريون بالتحايل على المعايش (بتعبير أمي)، أي أنهم يحاولون أن يسايروا الأجواء ويغالبوا الصعوبات حتى تمر الحياة.

يوم حلو ويوم مر كما كان الأمر في فيلم الراحلة العظيمة فاتن حمامة.

هذه المرة الموقف أقسى بالفعل.

فثمة برنامج إصلاح اقتصادي ممتد، ومهما كان الخلاف حوله لكن أهدافه واجبة التحقيق، وهي خفض عجز الموازنة والسيطرة على الدين العام واستعادة الثقة في مؤشرات الاقتصاد الكلي.

أمر حتمي بالفعل من أجل الغني، ومن أجل الفقير،  فاستمرار الاختلال كان يعنى الارتطام في صخر.

لا يمكن السيطرة على التضخم في مصر -والناتج عن عوامل غير الطلب- من دون سد الفتحة الأساسية التي يمرق منها ويعلو ويرتفع إلا وهي عجز الموازنة العامة.

الناس تتحمل استجابة لرئيس الدولة.

استجابة لنداء داخلي.

اقتناعا. عجزا أو صبرا،  لكن لم يفقد الكثيرون أو الأغلبية الأمل في أن الصعب فات وأن الفرج قريب.

تدل معطيات واقعية على أن الأشهر الثلاثة المقبلة هي آخر الصعب بالفعل.

. بوادر انفراج في السياحة، وزيادة الصادرات وتراجع الواردات، واستقرار سعر العملة، وبدء استقرار معدل التضخم وانخفاض البطالة جزئيا وقرب إنتاج الغاز بكميات ضخمة من حول شمال المتوسط.

الكل ينتظر الفرج، وفي تلك الأثناء حدث أمر جيد قل إلى حد ملحوظ الطلب على العمل في الحكومة ! والأغرب وفي القطاع الخاص أيضا، وزادت بشكل ملحوظ كذلك محاولات بناء بزنس خاص.

أيضا جمهرة من صناع “بير السلم” أو باعة الشارع يتكيفون في زمن قياسي مع التحولات في السوق وفي اتجاهات الاستهلاك والطلب، ويغيرون أنشطتهم المعتادة ليبدأوا من جديد.

البعض ينجح والبعض يتعثر.

الملاذ الآمن ألا وهو فعل الخير لا يزال بخير، فقد قال لي الدكتور صفوت النحاس -مدير بيت الزكاة والصدقات المصري الذي يشرف عليه الأزهر الشريف- أنه يتوقع ألا تقل التبرعات هذا العام، على الرغم من معاناة قطاعات الأعمال وآثار تحرير سعر الصرف وارتفاع التكاليف وتراجع الأرباح.