أفكار وآراء

حروب إلكترونية .. نووية !!

30 مايو 2017
30 مايو 2017

عماد عريان -

أغلب الظن أنه لا صحة لوصف عمليات القرصنة الضخمة التي تعرضت لها أجهزة الحاسوب عبر العالم في الأيام الماضية بـ «الإرهاب الإلكتروني» ولكننا بكل تأكيد أمام أمر جلل وحدث مرعب يفرض حقائق وتطورات غير مألوفة، ليس على صعيد العالم الافتراضي أو الاتصالات السيبرانية الكونية فحسب ولكن أيضا على مستوى العلاقات الدولية والمعاملات الأممية بما يغير الكثير من المفاهيم التي تحكم عمل هذا القطاع الحيوي وتطرح أسئلة ملحة حول حجم المخاطر المنظورة وغير المنظورة التي تتهدده حاليا ومستقبلا، ما يستوجب تعاملا عالميا من نوع مختلف يحفظ السلم والأمن الدوليين على شاشات الكمبيوتر!

قد يجوز القول إن استخدام فيروس «الفدية» الذي ضرب أنظمة الكمبيوتر الخاصة وفي مؤسسات وهيئات عديدة في حوالي 120 دولة أو أكثر يندرج ضمن وصف «السطو المسلح» فالإرهاب الإلكتروني قد تكون له سمات ومواصفات وممارسات مختلفة من بينها مثلا ما حدث في هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بنيويورك وواشنطن وكذلك توظيف الشبكة العنكبوتية في أحداث مماثلة لحساب تنظيمات إرهابية دون أن تتمكن جهات رقابية دولية أو محلية من فك رموزها أو تعقب مصادرها، ولكن ممارسات القراصنة كذلك لها نهج مختلف قد يتراوح بين الرغبة في ممارسة أعمال تخريبية كإرسال دودة أو فيروس مدمر للملفات والمعلومات المحفوظة لأسباب نفسية أو شخصية في إثبات القدرة الذاتية على التفوق، أو ممارسة السطو المسلح كما حدث في الوقائع الأخيرة.

وإذا ما أردنا قراءة أخرى لحجم ما حدث ووضعه في مكانه الطبيعي من حيث درجة التطور والخطورة معا، فقد نلجأ إلى بعض الأفكار أو التشبيهات البدائية، ولا غضاضة في ذلك، فجهاز الكمبيوتر -هذا الجهاز السحري مهما كان حجمه - تحول إلى ظاهرة فريدة من نوعها،ليس لأن الإنسان والمجتمعات والدول لم تعد باستطاعتها الاستغناء عنه فحسب،ولكن لأن هذا الجهاز أخذ أشكالا متعددة ككائن متحور في أشكال كثيرة،ورغم أنه صنيعة الإنسان نفسه إلا أنه أصبح مهيمنا ومتحكما في مناحي الحياة بأشكال ومهام تتجاوز حدود القدرات البشرية مما يجعل من عدم المبالغة وصفه بـ«عقل العالم» في الوقت الراهن، هذا العقل يحتويه جسم ضخم،أغلب الظن أنه يخضع لكثير من قوانين الجسم البشري،فالفيروسات والأجسام الدقيقة التي تخترق الجسم البشري وتضرب أعضاءه الحيوية تسبب له جملة من الأمراض الخطيرة التي يمكن مواجهتها بقدرات مناعية خاصة أو أدوية أو برامج علاج طويلة المدى وقد تكون أمراضا قاتلة ومميتة،هذه الأجسام الدقيقة هي نفسها الفيروسات والديدان الإلكترونية التي تقتحم الحاسوب فتدمره تدميرا جزئيا أو كليا بتخريب ملفاته وقواعد بياناته،وقد تكون الخسائر فادحة إلى حد «الموت» ما لم يكن محصنا تحصينا قويا.

ومن الأشكال المتحورة لهذا الكائن الرهيب بعدما تأكد أنه يضاهي الجسم البشري في كثير من تفاعلاته،صورة المجتمع المتكامل الذي تمارس فيه كل الممارسات الحياتية بشكل أو بآخر، من التعليم والصحة والإعلام والاتصالات والصحافة والتراسل والتراشق والأعمال الإدارية والمالية والتحليل المعملي والجنائي والتجارة بكل أشكالها بيعا وشراء وسمسرة وصفقات و مزادات وأسواق، وصولا إلى الحملات الانتخابية والسياسية وحتى الأعمال المنافية للآداب،هذه سطوة مجتمعية ضخمة جدا لم يعد في مقدور أحد أن ينكرها على أي مستوى من المستويات، ومن الطبيعي أن ممارسات مجتمعية بهذا الحجم يمكن أن تصبح مصحوبة بأشكال عديدة من الممارسات والتصرفات غير القانونية وغير المشروعة بداية من سرقة الحسابات الشخصية والاحتيال ببطاقات الائتمان أو بأشكال أخرى متعددة ومتنوعة وحتى إشعال حروب الجيل الرابع وإثارة الكثير من المشاكل الداخلية والمجتمعية للدول أو بين الدول وبعضها، وأصبح تعبير «الكتائب الإلكترونية» من المسلمات المعترف بها أو الشائعة في استخدامات الكمبيوتر،وصولا إلى «فيروس الفدية» وعمليات «السطو المسلح» التي حدثت قبل أيام وتمثل بالفعل التطور الأهم في هذا المجال والذي يفتح الباب أمام ممارسات غير قانونية أو جرائم أخرى يصعب تصورها.

فأن يتمكن قرصان أو تنظيم أو جماعة (أو جهاز مخابرات) من شل حركة مؤسسات أو هيئات أو دولة عبر مصادرة ملفاتها وقواعد معلوماتها وتشفيرها طلبا لفدية مالية لتحريرها هي بالفعل عملية سطو مسلح لا تختلف كثيرا عن عمليات اختطاف البشر طلبا للفدية المالية،وهو تطور مذهل في عالم الجريمة الإلكترونية،والجريمة الإنسانية بشكل عام والأخطر أنه يفتح الباب أمام مواجهات أشد خطورة وفتكا في مجالات أخرى،ومن هذا المنطلق يجب ألا نستهتر على الإطلاق بما نشاهده من « ألعاب الفيديو» أو «البلاي ستيشن» حيث تدور مباريات وصراعات افتراضية لا تنتهي إلا بقهر أحد الأطراف للآخر،وبشيء من الخيال وبقليل من التأمل يبقى السؤال المقرون بالفضول مشروعا؛أليس من المحتمل أن نشهد في المستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد مواجهات أمنية أو عسكرية حقيقية على شاشات الكمبيوتر؟ أليس من الممكن أن يصبح في مقدور دولة أو قوة من القوى أن تهيمن على «شفرات» الطائرات الحربية والصواريخ البالستية أو حتى الأسلحة النووية فتشل حركتها وتبطل مفعولها بشكل يجعل الطرف الآخر مجبرا على الاستسلام ، وفقا لمبدأ « جيم أوفر» ؟!

إن الطرح السابق ليس من قبيل السخرية ولا حتى المبالغة، ولكن علينا فقط أن نتذكر أن ما يحدث الآن من ممارسات - مشروعة وغير مشروعة - عبر شاشات الكمبيوتر، لو كان طرح من باب الخيال على البشر في عقود القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين لأتهم أصحابها على الفور بالجنون بكل تأكيد،ولكنها اليوم حقائق على أرض الواقع،وأغلب الظن أن التطورات المقبلة كذلك ستكون فوق مستوى تخيلنا حاليا،ما جعل خبراء الجريمة الإلكترونية يطلقون تحذيرات من هجمات جديدة واسعة النطاق وعمليات خطرة للتخريب الرقمي ربما تؤدي إلى نشر الفوضى والاضطرابات في مناطق واسعة على خارطة العالم في الأسابيع المقبلة،وكذلك تلك التطورات هي مبرر منطقي لما أعلنته دول عدة من حالات استنفار في مواجهة تلك الحملة الشرسة لأن بالفعل النتائج المتوقعة لهجمات السطو المسلح الإلكترونية تلك ستكون كارثية بعدما أكدت مجموعات من القراصنة نيتها بيع رموز يمكن استغلالها للتسلل إلى أكثر أجهزة الكمبيوتر والبرامج والهواتف استخداما في العالم،مع طرح برمجيات لكل من يرغب في الشراء من أجل الوصول إلى بعض أهم الأسرار التجارية في عالم التكنولوجيا،وكذلك بيع نقاط ضعف لم يتم الكشف عنها من قبل وتعرف باسم «الأيام الصفرية» يمكن استخدامها لمهاجمة أحدث برامج شركة مايكروسوفت. وهددت كذلك ببيع بيانات ضخمة من بنوك تستخدم شبكة دولية للتحويلات النقدية وبيانات عن البرامج النووية والصاروخية لروسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية!!

إن العالم يواجه بالفعل رعبا إلكترونيا حقيقيا وقد يشهد قريبا،على حد تأكيد عديد من الخبراء، عملية خطرة للتخريب الرقمي تؤدي إلى اضطرابات وفوضى،

وهي تهديدات إلكترونية ليست خيالية، بل يمكن أن تكون أكبر بكثير من مجرد عملية خطرة للتخريب الرقمي مما يعتقد الكثيرون،وسط توقعات باستهداف مئات آلاف الحواسيب في العالم بهدف استحداث وجمع أموال افتراضية دون علم المستخدمين.

ويبدو أن هناك استشعارا عربيا بدرجة ما لحجم المخاطر وجاء ذلك فيما بدا أنه أول اعتراف عربي ضمني بالعجز عن مواجهة تلك الحرب،إذ أكد الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب د.محمد بن علي كومان أن مواجهة «الإرهاب الالكتروني» تزداد صعوبة في العالم العربي نظرا لوجود الشركات الكبرى العاملة في مجال الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي ومزودي خدمة الإنترنت خارج حدود الوطن العربي مما يتعذر معه الحصول على معلومات تسمح بفك طلاسم الجريمة الإلكترونية واكتشاف مرتكبيها،مؤكدا في كلمته خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الـ16 لرؤساء أجهزة المباحث والأدلة الجنائية في الدول العربية في تونس:إن الدوافع المادية التي تقف وراء الجريمة الإلكترونية الأخيرة ينبغي ألا نغفل معها عن أن التهديد الأكبر الذي يتمثل في الإرهاب الإلكتروني يمكن أن يتسبب في كوارث جسيمة بتعطيل الأنظمة الآلية التي تتحكم في مرافق مهمة.

ولكن الحقائق على أرض الواقع تؤكد أن المشكلة باتت أضخم بكثير من مجرد تحكم في أنظمة آلية،إنما باتت قضية أمن وطني وقومي ودولي وعالمي، مما يستوجب تحركا دوليا يجابه بأساليب ووسائل وقيم جديدة هذا المارد المنطلق من قمقم مخيف .