أفكار وآراء

قراءة جديدة .. في « سيناريو قديم » !!

29 مايو 2017
29 مايو 2017

علاء الدين يوسف -

,, الجنون وحده فقط، وليس شيء غيره، هو الذي يمكن أن يدفع أي طرف من أطراف الأزمة الراهنة في شبه الجزيرة الكورية إلى القيام بعمل عسكري مفاجئ دون سابق إنذار ,,

ليست مبالغة بكل تأكيد، فخروج أي دولة عن حدود قواعد «اللعبة» التي تحكم الصراع في شبه الجزيرة الكورية أو تجاوز حدودها في الشرق الآسيوي بشكل عام يعد بالفعل شكلا من أشكال التهور إلى حد الجنون ، ولعل هذه الحقيقة هي التي أدت إلى تضارب الإشارات المنطلقة من داخل الولايات المتحدة على وجه التحديد خلال الأيام القليلة الماضية ما بين التصعيد الشديد ببحث الخيارات العسكرية ضد كوريا الشمالية والتهدئة إلى الحديث عن البحث عن حلول سلمية مع الأطراف الفاعلة وعلى رأسها الصين ، فبعد شد وجذب أخذ أشكالا خطيرة جدا من المظاهر العسكرية لدى طرفي الأزمة والتلاسنات الإعلامية والتهديدات والتحذيرات المتبادلة من أطراف عدة ،عاد الإعلام الأمريكي ليؤكد أن الحديث الصارم من قبل المسؤولين الأمريكيين عن كوريا الشمالية يتناقض مع تركيز واشنطن على الدبلوماسية من أجل احتواء رئيسها كيم يونج أون.

وسرعان ما تواترت الأنباء عن أنه مع صعود التوترات في شبه الجزيرة الكورية هذا الشهر أعلن الجيش الأمريكي أن حاملة طائرات أمريكية ومجموعة الحماية المرافقة لها أمرت بالإبحار شمالا من سنغافورة نحو المحيط الهادي الغربي ، لتقترب من كوريا الشمالية وترسانتها النووية المتزايدة ، إلا أن هذه السفينة التي صورها بعض المسؤولين كعلامة على تصعيد الرد الأمريكي على التهديدات كانت تعمل في المحيط الهندي على بعد آلاف الأميال من شبه الجزيرة الكورية في الوقت الذي استعرض فيه كيم يونج أون قوته العسكرية، وفي ضوء ذلك اعتبرت مصادر أمريكية أن التصريحات الغامضة للمسؤولين ، إن لم تكن مضللة بشأن مكان حاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس كارل فينسنت»،فإنها تأتي في الوقت الذي تحاول فيه إدارة ترامب توجيه رسالة مزدوجة حول واحدة من أكثر مشكلات السياسة الخارجية الشائكة، والرغبة في استخدام القوة ضد خصم خطير مع القيام بخطوات واضحة يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة.

وتظهر مجموعة من التصريحات المتضاربة أحيانا من قبل كبار المسؤولين الأمريكيين رغبة إدارة ترامب أن يكون للخطاب المتشدد تأثير في الردع ، والأكثر أهمية أنه يكشف عن غياب الخيارات العملية أمام الإدارة في التعامل مع بيونج يانج ، وفي حين أن المسؤولين يتطلعون للتعبير عن الابتعاد عن السياسة الأمريكية السابقة ، فإن إستراتيجيتهم تبدو استمرارا لمحاولات إدارة أوباما أن تستخدم الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية الدولية للحصول على نتائج مع بيونج يانج ، وفي هذا السياق تحدث الإعلام الأمريكي عن الترسانة النووية لكوريا الشمالية وإجرائها خمس اختبارات صاروخية العام الماضي وامتلاكها أربعة أنواع مختلفة من الصواريخ ، من بينها صاروخ سكود قصير المدى يصل لمسافة 500 ميل، ويمكن أن يصل إلى اليابان ، وصاروخ «نودونج» متوسط المدى القادر على ضرب أهداف فى جنوب شرق آسيا أو الصين ، وصاروخ «موزدان» يصل لمسافة 2500 ميل ، ويمكن أن يصل إلى الهند ، وصاروخ «تابودونج» الذي يصل مداه إلى خمسة آلاف ميل ، ويمكن أن يستهدف سكوتلاندا ، وألاسكا وكندا، فضلا عن أسلحتها قصيرة المدى المعروفة باسم «هواسونجس» ، والمزعج في الأمر بالنسبة لواشنطن وحلفائها إنه من المستحيل معرفة عدد الصواريخ التي تمتلكها كوريا الشمالية بالتحديد، وكان معهد الولايات المتحدة - كوريا الموجود في واشنطن قد ذكر في تقرير العام الماضي أن التقديرات تشير إلى امتلاك بيونج يانج مواد كافية لإنتاج ما بين 6 إلى 30 سلاحا نوويا ، ويعتمد ذلك على مقدار تخصيب اليورانيوم الذي تنتجه، وتوقع أن يزيد مخزونها ربما بشكل كبير على مدار السنوات القادمة.

وتثير القدرات النووية الكورية الشمالية كذلك حيرة مختلف الخبراء الإستراتيجيين في مختلف أنحاء العالم للغموض الشديد الذي يحيط بها وعدم معرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه وهو الأمر الذي يجعل المبادرة بهجوم عسكري على أراضي كوريا الشمالية عملا محفوفا بمخاطر جسيمة ، وفي الوقت ذاته من الواضح أن كوريا الشمالية لا تبدي أي رغبة أو نية في الاستجابة أو الخضوع للضغوط عليها للتخلي عن برنامجها النووي ووقف تجاربها الصاروخية والحد من تطويرها ، وبرغم الإدانات المتتالية والعقوبات المستمرة من مجلس الأمن عليها ، إلا أن نائب وزير خارجيتها هان سونج ريول قرر أن يعيد التصعيد العسكري مرة أخرى بإعلانه أن بلاده ستتمسك بالتجارب الصاروخية وأنها ستجرى مزيدا من الاختبارات في كل أسبوع وكل شهر وكل عام ، متهما الولايات المتحدة بأنها تهدد السلام والاستقرار الدوليين، وأنها تزعم بأن انتهاك أراضي الدولة ذات السيادة هو إجراء حاسم، يساهم في الحفاظ على النظام الدولي، واصفا كلامها بأنه «فارغ».

ويبدو أن رسالة هان جاءت على خلفية تشديد نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس خلال جولته الأخيرة في شرق آسيا على أن عصر الصبر الاستراتيجي ضد كوريا الشمالية قد نفد وأن كل الخيارات مفتوحة تجاهها بما فيها الخيار العسكري ، في حين أعلنت قيادة القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية عن البدء في نشر نظام الدفاع الجوى والصاروخي (ثاد) داخل كوريا الجنوبية على الرغم من اعتراضات روسيا والصين ، ومن هنا أعلنت كوريا الشمالية أنها ستواصل الاختبارات الصاروخية ، وسترد بضربة استباقية نووية على أي عمل عسكري أمريكي ضدها ، والواقع أن اليابان وكوريا الجانبية اتخذتا من جانبهما إجراءات عسكرية احترازية بعدما أعطى هذا التصعيد المستمر انطباعا خطيرا عن ذهاب شبه الجزيرة الكورية نحو حرب محتومة.

ولكن الحسابات المنطقية وفي ضوء عوامل تاريخية واستراتيجية عديدة تؤكد أننا أمام مشهد يطلق عليه في العلوم السياسية وصف « حدث من قبل - déjà vue «،وبالفعل هذا المشهد ذاته تكرر وبالطريقة نفسها ربما عشرات المرات منذ توقف القتال على الجبهة الكورية قبل نحو خمسة وستين عاما بهدنة وليس بتسوية شاملة، ولعلنا نستطيع تأكيد ذلك بالعودة إلى صورة طبق الأصل من المشهد الراهن بكل تفاصيله ولكنها وقعت قبل نحو أربع سنوات ، ومن بين تفاصيلها :

** «بان كي مون » امين عام الامم المتحدة السابق يحذر من خروج أزمة شبه الجزيرة الكورية عن السيطرة ، حيث قال إن حادثة صغيرة يمكن أن تؤدي إلى وضع يخرج عن السيطرة في المنطقة ، وذلك بعد أن حذرت كوريا الشمالية من حرب «نووية-حرارية» وشيكة ، وقال «بان كي مون» خلال زيارة إلى روما ان «مستوى التوتر حالياً خطير جداً، حادثة صغيرة ناجمة عن حسابات أو أحكام خاطئة يمكن أن تخلق وضعاً يخرج عن السيطرة».

** من جانبه حث وزير الخارجية الألماني «جيدو فيسترفيله» كوريا الشمالية على عدم الاستمرار في تأجيج الصراع في المنطقة وأدان أثناء مشاركته في مؤتمر لنزع التسلح في لاهاي الدعوة التي وجهتها كوريا الشمالية للأجانب بمغادرتها وقال مشيرا لذلك: هذا تهديد خطير ليس فقط للاستقرار في المنطقة بل للبنية الأمنية الدولية.

** من جهته أعلن قائد القوات الأمريكية في منطقة آسيا المحيط الهادئ « الادميرال سام لو كلير» أن الولايات المتحدة لن تسقط اي صاروخ باليستي تطلقه كوريا الشمالية ما لم يشكل تهديدا لحلفائها او للاراضي الامريكية ، واضاف امام اعضاء لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ « لن يستغرق منا الأمر وقتا طويلا لتحديد وجهته ومكان سقوطه» مضيفا انه «لا ينصح» باسقاط صاروخ لا يشكل تهديدا.

** في بروكسل أعلن حلف الاطلسي أن الامين العام للحلف «راسموسن» سيزور كوريا الجنوبية في الوقت الذي تصعد فيه كوريا الشمالية التهديدات بحرب وشيكة ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وقال مسؤول في الحلف ان زيارة «راسموسن» والتي ستليها رحلة الى اليابان هي زيارة مقررة منذ وقت طويل وليست مرتبطة بالوضع في كوريا الشمالية.

** نشرت بيونج يانج على ساحلها الشرقي صاروخين من نوع موزودان الذي يمكن ان يبلغ مداه نظريا اربعة آلاف كيلومتر اي ما يجعله قادرا على اصابة كوريا الجنوبية واليابان او جزيرة جوام الامريكية وقال مسؤول كوري جنوبي كبير إن «الشمال مستعد على ما يبدو لاطلاق هذه الصواريخ دون انذار».

** يوجد للولايات المتحدة اجهزة رادار لمتابعة مسار الصواريخ البالستية في اليابان وعلى متن مدمرات تجوب المنطقة اضافة الى صواريخ مضادة للصواريخ على متن هذه السفن ، كما نشرت اليابان وكوريا الجنوبية صواريخ مضادة تحسبا لإطلاق صاروخ كوري شمالي.

التفاصيل السابقة المشار إليها هي عناصر أزمة متكاملة وقعت بالضبط في ابريل عام 2013 في شبه الجزيرة الكورية وتكاد أن تكون صورة طبق الأصل من الأزمة الراهنة ، وقد انتهت وفقا لقواعد»اللعبة» الحاكمة للصراع في المنطقة ، كثير من الإدانات والإنتقادات والتهديدات لكوريا الشمالية ، وكثير من جهود التهدئة ادت إلى نزع فتيل الأزمة ، وهو ما سيحدث في الغالب مع المواجهة الراهنة التي نحسبها قراءة جديدة في«سيناريو قديم» يحمل الكثير من المخاطر ولكن الأشد خطورة منها الانتحار بعمل عسكري مباغت.