المنوعات

كيف أصبحت مائة عام من العزلة عملا كلاسيكيا ؟

29 مايو 2017
29 مايو 2017

الرواية التي نالت الخلود يوم صدورها -

ألفارو سنتانا أكيونا -

ترجمة : أحمد شافعي -

في عام 1967، نشرت دار سود أمريكانا رواية بعنوان «مائة عام من العزلة» لكاتب كولمبي مغمور يدعى جابرييل جارثيا ماركيز. لم يكن الكاتب أو ناشره يتوقعان الكثير من ذلك الكتاب. فقد كانا يعرفان أنه «كم من رواية» - على حد قول عملات النشر ألفريد آيه نوبف - «تموت في يوم نشرها». وخلافا للمتوقع مضت «مائة عام من العزلة» فباعت خمسة وأربعين مليون نسخة، ورسخت باعتبارها إحدى كلاسيكيات الأدب، وراكمت لجارثيا ماركيز من الشهرة والثناء ما جعله يعد أحد أعظام كتاب الأسبانية على مدار التاريخ.

قد تكون ثمة غواية - بعد خمسين سنة من نشرها - في الاعتقاد بأن نجاحها كان محتوما شأن مصير عائلة بوينديا التي تحتل مركز القصة، والتي كانت بلدتهم ماكوندو -على مدار قرن من الزمان- ساحة لكوارث طبيعية، وحروب أهلية، وأحداث سحرية، إلى أن خربت في نهاية المطاف إثر ميلاد آخر سلالة بوينديا بذيل خنزير، مصداقا لما تنبَّأت به مخطوطة تعاقبت أجيال من آل بوينديا على محاولة فك شفرتها. ولكن «مائة عام من العزلة» لم تتحول فور صدورها في ستينات القرن العشرين إلى إنجيل للأسلوب المعروف حاليا بالواقعية السحرية، وهو أسلوب يطرح عجائب الأحداث طرح المواقف العادية. كما لم يجمع النقاد في ذلك الحين على أن القصة فتح جديد. ولكي نقدّر الرواية حق قدرها، ونقدر طول عمرها، وفنها، وصداها العالمي، لا غنى لنا عن النظر الدقيق في جملة العوامل التي ساعدتها أن تتغلب على مناخ النشر الصعب والعداوة النسبية التي جوبه بها الكاتب في ذلك الوقت.

***

في عام 1965، كانت دار مطبعة سود أمريكانا الأرجنتينية ناشرًا رائدًا لأدب أمريكا اللاتينية المعاصر. وكان المحرر المسؤول عن الاستقطاب في الدار قد أجرى - في سياق بحثه عن موهبة جديدة - اتصالًا جافًا بجارثيا ماركيز لنشر بعض أعماله. وردَّ عليه الكاتب بحماس قائلا إنه يعمل على «مائة عام من العزلة» (رواية شديدة الطول شديدة التعقيد وضعت فيها أفضل ما لدي من أوهام). وقبل شهرين ونصف الشهر من إصدار الرواية في عام 1967، تحوّل حماس جارثيا ماركيز إلى خوف. لدرجة أنه أخطأ في تشخيص خلل في انتظام ضربات القلب متصورًا أنه سكتة قلبية، فاعترف في رسالة إلى صديق له بقوله «أنا مرعوب». ولم يكن ما يرعبه إلا مصير روايته، إذ كان يعلم أنها قد تموت في يوم صدورها. كان خوفه ناجما عن واقع صناعة النشر القاسي على الكتَّاب الصاعدين، كان يخشى ضعف المبيعات، فكتب جارثيا ماركيز الأربعة السابقة لم تكن قد باعت مجتمعة إلا أقل من 2500 نسخة.

كان خير ما يمكن أن يحدث لـمائة عام من العزلة هو أن تسير على نهج كتب مماثلة صدرت في الستينيات ضمن حركة أدبية عرفت بـالرواية الأمريكية اللاتينية الجديدة la nueva novela latinoamericana. كان النجاح لرواية أمريكية لاتينية جديدة يعني أن تباع طبعتها الأولى المتواضعة المؤلفة من ثمانية آلاف نسخة في منطقة يبلغ عدد سكانها خمسين مليونًا. وقد تجتذب المبيعات الجيدة على المستوى الإقليمي أحد كبار الناشرين في إسبانيا فيستورد الرواية وينشرها. ثم يأتي الاعتراف العالمي مع الترجمات إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية. أما النجاح الساحق في عام 1967 فكان يعني الفوز بإحدى الجوائز الأدبية المشتهاة في اللغة الإسبانية من قبيل ببليوتيكا بريفي، أو رومولو جاليجوس، أو كازا دي لاس أمريكاس، أو فورمنتور.

هذا هو المسار الذي مضت فيه روايات أمريكا اللاتينية الجديدة في الستينات مثل: «انفجارات في الكاتدرائية» لأليخو كاربنتيير، و«زمان البطل» لماريو فارجاس يوسا، و«لعبة الحجلة» لخوليو كورتاثار، و«موت أرتيميو كروث» لكارلوس فوينتس. ولقد طغت مائة عام من العزلة بالطبع على كل تلك الأعمال من مناح عدة. فبنشرها في أربع وأربعين لغة، تصبح أكثر الأعمال الأدبية الإسبانية ترجمة بعد دون كيخوته، كما صنّفها استطلاع أجري بين كتاب عالميين كأكثر الروايات تأثيرا في صياغة الأدب العالمي على مدار العقود الثلاثة الماضية.

ومع ذلك من الخطأ أن ننسب إلى مائة عام من العزلة بدايتها ثورة أدبية في أمريكا اللاتينية وما وراءها. فقد أصدرتها سود أمريكانا حين كانت الرواية الأمريكية اللاتينية المعروفة آنذاك بـالبوم أو الانفجارة قد بلغت ذروتها في المبيعات والتأثير في العالم كله. فابتداء من عام 1961، كانت الكاتب الأرجنتيني شبه الأعمى خورخي لويس بورخيس يجوب الكوكب - كأنه هوميروس وقد ردت فيه الروح - نجما أدبيا لامعا. وعلى خطاه كان ثمة نجوم ساطعة مثل خوسيه دونوسو، وكورتاثار، وفارجاس يوسا، وفوينتس. وتحقق الانتصار العالمي للانفجارة الأمريكية اللاتينية حينما منحت جائزة نوبل في الأدب لميخيل آنخل أستورياس سنة 1967. فما كان لـمائة عام من العزلة أن تصدر في سنة أفضل بالنسبة للرواية الأمريكية اللاتينية. وحتى ذلك الحين كان جارثيا ماركيز وكتاباته سادرين عمليا في الخفاء.

***

في العقود السابقة على وصولها إلى الذروة، كانت الرواية الأمريكية اللاتينية تتنافس مع اتجاهات أدبية أخرى في المنطقة، وفي إسبانيا، وفي العالم، على الحظوة بالاهتمام. وكان المنافس الأساسي لها يتمثل في كتابات المحلية indigenismo الرامية إلى أن تكون صوتا للشعوب الأصلية والتي كانت تلقى منذ العشرينات دعم كتاب كثيرين من بينهم الشابان أستورياس وخوسيه ماريا أرخويداس اللذين كانا يكتبان بالإسبانية ولغة كويتشاوا Quechua المستعملة في الأنديز. في إسبانيا خلال خمسينات القرن العشرين وستيناته تبنى الكتاب الواقعية الاشتراكية، وهو أسلوب في الكتابة يتميز بقصص الشخصيات المأساوية الواقعة تحت رحمة الظروف الاجتماعية القاسية. وكان من أبرز أنصار هذا الاتجاه في الكتابة كاميلو خوسيه ثيلا وميخيل ديليبس. وكان على أبناء أمريكا اللاتينية الطامحين إلى مسيرة أدبية في إسبانيا أن يخضعوا لهذا الأسلوب، فكان ممن سعوا ذلك السعي فارجاس يوسا الذي كتب أثناء إقامته في مدريد أولى قصصه القصيرة الواقعية الاشتراكية.

على المستوى الدولي، كان كتاب أمريكا اللاتينية يرون أنهم ينافسون الرواية الجديدة في فرنسا. كان المؤيدون - ومن بينهم جان بول سارتر - يمتحدون «اللارواية» ويرون أن غاية الأدب ليست في الحكي السردي، بل في أن يكون معملا للتجارب الأسلوبية. وكانت الأكثر إدهاشا في هذه التجارب رواية جورج بيرسي الصادرة سنة 1969 بعنوان «خواء» والمكتوبة كلها بغير استعمال حرف ال- e برغم أنه أكثر الحروف شيوعا في اللغة الفرنسية.

في عام 1967، بدا أن سوق الكتاب قد تأهب أخيرا لـمائة عام من العزلة. فبحلول ذلك الوقت كان كتاب أمريكا اللاتينية الأساسيون قد ضجروا من المحلية indigenismo، أي الأسلوب الذي استعمله «قرويّو الإذعان الفولكلوري» بحسب سخرية كورتاثار اللاذعة. استصغر جيل شاب من الكتاب في إسبانيا قصص الروايات الواقعية الاشتراكية، ورأوها مكشوفة وتفتقر تقنيا إلى الأصالة. وفي فرنسا دعا كتاب ناشئون (من أمثال ميشال تورنييه في روايته الصادرة سنة 1967 بعنوان Vendredi) إلى عودة الحكي السردي بعدما تضاءلت جاذبية الرواية الجديدة.

بين 1967 و1969، ذهب النقاد إلى أن مائة عام من العزلة تغلبت على حدود هذه الأساليب. خلافًا لكل ما في المحلية indigenismo من ضيق أفق، رأى النقاد في مئة عام من العزلة قصة كوزموبوليتانية قادرة على «تصحيح مسار الرواية الحديثة» حسبما قالت الناقدة الأدبية الأمريكية اللاتينية آنجيل راما. وخلافا للغة الدقيقة في الواقعية الاشتراكية، كان نثر جارثيا ماركيز «منقِّيا للجو» فياضًا باللغة الشعرية متوهجة الألوان بحسب ما رأى الكاتب الأسباني لويس إزكويردو. وخلافا للتجارب الشكلانية في الرواية الجديدة، رجعت روايته إلى «سردية الخيال» مثلما أوضح الشاعر الكتالوني بيري جيمفيرير. وإثر ترجمة الرواية إلى اللغات الكبرى، اعترف بمثل ذلك أيضا نقاد العالم. فوصفت الكاتبة الإيطالية نتاليا جينزبرج مائة عام من العزلة بـ«الرواية الحية» التي تهدئ المخاوف المعاصرة وتبطل دعاوى أزمة فن الرواية.

غير أن أولئك النقاد وغيرهم أشاروا أيضا إلى أن مائة عام من العزلة لم تكن بالعمل الثوري، بل هي عمل تقليدي ينطوي على مفارقة تاريخية، فهو ليس ابن زمانه، وأن جملته الافتتاحية أشبه بصيغة «كان يا ما كان» في الحكايات الشعبية. وأنها «رائعة كوميدية» لا رواية جادة بحسب ما قال كاتب مجهول في ملحق تايمز الأدبي سنة 1967.

لقد كانت أول الآراء في هذه الرواية مغايرة فعلة للآراء اللاحقة. في عام 1989 وصفها الباحث هارولد بلوم في جامعة ييل بـ «دون كيحوتة الجديدة» وفي عام 2013 اعترفت الكاتبة فرانسين بروس أن «مائة عام من العزلة أقنعتني بترك جامعة هارفرد». اليوم يرى الباحثون والنقاد وعامة القراء أن الرواية «خير مثال للواقعية السحرية». بحلول عام 1995، بات يرى أن الواقعية السحرية تشق طريقها إلى أعمال كبار كتاب الإنجليزية من أمثال جون أبدايك وسلمان رشدي بل وتعد بمثابة «عنصر من عناصر الوجود الإنساني لا سبيل إلى الخلاص منه أو الانفكاك عنه» حسبما قالت الناقدة الأدبية ميتشيكو كاكوتاني في نيويرك تايمز. لكن مصطلح الواقعية السحرية لم يكن شائعا في عام 1967 حتى في الأوساط الأدبية. ففي العقد الأول لصدور مائة عام من العزلة كان القراء في محاولة وضعهم إطارا منطقيا لهذا «العمل غير القابل للتصنيف» - على حد تعبير أحد النقاد - يعمدون إلى تصنيفه كمزيج من «الفنتازيا والواقع»، أو «الرواية الواقعية الحافلة بالخيال»، أو «الحالة الغريبة من الواقعية الأسطورية» أو «ما فوق الواقعية» أو «الرمزية الرائعة» على حد وصف ناقد في لوموند.

مائة عام من العزلة التي تعتبر الآن قادرة على مخاطبة قراء العالم، كانت في أول أمرها تستقبل استقبال قصة عن أمريكا اللاتينية. وصفها الباحث روبرت كيلي في جامعة هارفرد في استعراضه لها بنيويورك تايمز بـ«سفر التكوين لأمريكا الجنوبية». وبمرور السنين تضخمت الرواية حتى صار لها «نسيجها الخاص» على حد تعبير جون أبدايك، وقلَّ النظر إليها بوصفها رواية عن أمريكا اللاتينية وازداد اعتبارها رواية عن الإنسانية بعامة. كتب وليم كينيدي ل- ناشيونال أوبزيرفر أنها «أول عمل أدبي منذ سفر التكوين تتحتم قراءته على بني آدم جميعا».

لكن لعل الباعث على الدهشة أن كتابا وناشرين مرموقين كانوا من بين منتقدي هذه الرواية الكثيرين والثقال. إذ أعلن أستورياس أن نص مائة عام من العزلة يسطو على «السعي إلى المطلق» الصادرة لبلزاك سنة 1834. ووصفها الشاعر المكسيكي الحائز على نوبل أوكتافيو باث بأنها «شعر خفيف». وزعم الكاتب الإنجليزي أنطوني بيرجس أنه ليس من الممكن «مقارنتها بأصالة اكتشافات بورخيس و[فلاديمير] نابوكوف». ولم يكتف كارلوس بارال - أهم الناشرين الأدبيين الإسبان في الستينات - برفض استيرادها للنشر، بل كتب لاحقا أنها «ليس أفضل روايات زمنها». والحق أن المحاصرة النقدية أيضًا تساعد عملًا أدبيًا مثل مائة عام من العزلة على الظفر بمزيد من الرؤية لدى أجيال جديدة من القراء ويسهم في نهاية المطاف في مزيد من التكريس لها. وبمساعدة من منتقديها، وبعد خمسين سنة على صدورها، أصبحت الرواية جزءًا من نسيج الثقافة الشعبية، ولا تزال تقرأ في العالم كله، ولا يزال يقرأها مشاهير من أمثال أوبرا وينفرا وشاكيرا، وساسة مثل بيل كلينتون وباراك أوباما الذي وصفها بأنها «أحد أعمالي المحببة منذ صغري». وأحدث من ذلك كله، وبفضل القراء والباحثين المعنيين بالبيئة، حظيت مائة عام من العزلة على غير توقع بأهمية مجددة مع ازدياد تغير المناخ. فبعد انفجار حفار ديب هورايزون التابع لشركة بي بي سنة 2010 في خليج المكسيك (وهي من أسوأ الكوارث البيئية في التاريخ) أشار أحد أنصار السياسات البيئية إلى الكارثة باعتبارها ضربا من «الواقعية السحرية» ووصفها صحفي أمريكي بـ«ذيل خنزير العالم النفطي». فما الرابط بين الكارثة ومائة عام من العزلة؟ لقد وقع الانفجار في موقع نفطي أسمته مجموعة مهندسين قبل سنتين بماكوندو، فلما وقع الانفجار بدا أن الواقع قد لحق بالخيال. وبدأ بعض القراء والباحثين يزعمون أن لعنة حلت بالمكان مصداقا لنبوءة مماثلة للنبوءة الخفية في مخطوطة آل بوينديا، وأن في ذلك تحذيرًا من الأخطار المحدقة بالبشر ومن زوالهم. عاش جارثيا ماركيز حتى رأى اسم ماكوندو يصبح جزءًا مهمًا، بل مرعبا، من تاريخ الأرض الجيولوجي، ومات ماركيز في عام 2014، فلم يكن ذلك على سبيل الاحتفاء بمرور خمسين سنة على صدور الرواية. ولكن هذا لا يمنع أن الاحتفاء بذكرى صدور الرواية سوف يشمل العالم كله. ويأتي ضمن ذلك الاحتفاء إطلاق مركز هاري رانسم في أوستن بتكساس - الذي يحتفظ بأرشيف جارثيا ماركيز منذ عام 2015 - معرضا على الإنترنت يضم بعض المواد الفريدة. ومن بين محتويات هذا المعرض نسخة الآلة الكاتبة الأصلية من «الرواية شديدة الطول شديدة التعقيد» التي لم تمت، بل نالت الخلود، يوم صدورها.

ذي أطلنطيك