المنوعات

الإمام القلعي ومسيرته الفكرية والأدبية

27 مايو 2017
27 مايو 2017

عبد الله العليان -

من الكتب التي أصدرها البرنامج الوطني لدعم الكتاب بالنادي الثقافي، وصدر عن بيت الغشام للنشر والترجمة بمسقط،(سلسلة أعلامنا) كتاب «الإمام القلعي ومسيرته العلمية» والذي كان حصاد ندوة لبعض الباحثين العمانيين عن هذا العالم العماني والذي كتب عن هذه السيرة العلمية للقلعي.

وقام بإعداد الكتاب للنشر، د.محمد بن مسلم المهري، وفي كلمة النادي الثقافي للشيخ صالح بن سليم الربخي عضو مجلس إدارة النادي الثقافي، أكد فيها «أن النادي الثقافي يسلط الضوء على السيرة البحثية للشخصية، إلى جانب المقاربة النقدية لمنجزها الفكري والإبداعي، واستعراض دورها المعرفي، وأثرها في مختلف مناحي الحياة، من خلال تنظيم ندوات متخصصة تقدم دراسات شاملة ومعمقة لأهم مفاصل التجربة الثقافية للشخصية التي تتناولها الندوة. وأضاف أن هذه الندوة خصصت» لتتناول سيرة الإمام أبي عبد الله الشيخ محمد بن علي القلعي -رحمه الله- إيماناً من النادي الثقافي بشمولية دوره في تعزيز الهوية الدينية والوطنية، ودعماً لقوة النسيج الاجتماعي العماني المميز الذي يغبطنا عليه الكثيرون». وفي مقدمة الكتاب أشار د.محمد المهري بجهود الباحثين الذي أضاءوا مسيرة هذه العلامة بأبحاثهم القيمة، وقدر شكره لمجلس إدارة النادي الثقافي على رعايتهم في إقامة هذه الندوة.

وفي الفصل الأول من الكتاب ناقش الباحث سعيد بن خالد بن أحمد العمري، الحياة السياسية والفكرية للإمام القلعي في القرن الثاني عشر الميلادي. وأشار الى أن الإمام القلعي كان ذا مكانة غير منكورة ومنزلة معلومة في التاريخ العلمي والفقهي يدل عليه تكرار ذكره وترجمته في كتب الطبقات والتاريخ، ويعتبر الإمام القلعي من العلماء العاملين والفقهاء البارزين في دوائر الفقه والعلوم الشرعية والأدبية، فقد كان مدرسة تخرج منها علماء عديدون في زمانه في ظفار وعمان واليمن وغيرها، ويعود له الفضل في نشر المذهب الشافعي في ظفار وما جاورها في القرن السادس الهجري فأصبحت مذهباً واحداً وعقيدة واحدة كما ذكر.

وبالرجوع إلى قصة الحوار بين الإمام القلعي والسلطان المنجوي وأمام الإلحاح والإصرار، فقد وافق الإمام ولبى رغبة السلطان وأهل مرباط بالإقامة عندهم، فما كان منهم إلا أن سارعوا إلى نقل حاجاته إلى دار جاهزة فوراً وكأنهم بذلك يريدون ألا يتركوا له مجالاً لتغيير رأيه، وأمر السلطان بمن يقوم على خدمة الإمام ورعاية مصالحه ونفقته، ولا يخفي الجندي إعجابه بموقف السلطان أحمد المنجوي والقاضي يحيى بن أبي نصير بقوله: (فلينظر فقهاء زماننا وحكامنا كيف لم يداخل القاضي حسد كما هو في غالبهم أعني القضاة، وكذلك السلطان لم يستكبر على أهل بلده ولا على الفقيه).

وظل الإمام القلعي، كما يقول الباحث يعيش في مرباط طيلة حكم السلطان أبو الأكحل المنجوي، وتوافد طلبة العلم عليه من كافة أنحاء ظفار وعمان واليمن، ويذكر الجندي أنه عندما خرج للحج من مرباط تسامع به الناس وعقدت له حلقة في الحرم تخرج منها العديد من الفقهاء منهم الإمام ناصر بن العطار المصري الذي ذكرناه في تلاميذه.

ومن مرباط شاعت أخبار القلعي وأصبح شيخ الشافعية فيها ومفتيها وقاضيها كما يصفه ابن سمرة، وتبارى أهلها في النفقة على طلاب القلعي وزواره، ويحدثنا الجندي عن التاجر أبوفير المرباطي المحب للعلم الذي كان يتحمل نفقة كل من يفد على الإمام أبي عبدالله القلعي ويتولى معيشتهم في مرباط، فلما وافته المنية قبر إلى جوار الإمام فكان يُشم من قبريها رائحة المسك !،وفي حياة الإمام في مرباط توفى مضيفه السلطان أبو الأكحل أحمد بن محمد بن منجوه المنجوي سنة 573 هـ، فتولى الحكم من بعده ابنه محمد الأكحل.

وفي الفصل الثاني من الكتاب (محمد القلعي.. سيرته ومآثره)، يرى الباحث عمر بن عبد الله محروس الصيعري، أن هذا البحث لا يطمح أن يفي القلعي حقه..ولكنه يطمح أن يزيل بعضاً من ذلك الضيم والتجاهل الّذين لحقا بهذا العالم الجليل الذي كان ومازال له بصمات واضحة في العلم الشرعي والفقهي والذي مازال محفوراً في ذاكرة أهل مرباط على مر العصور..كما أشرنا، كما يقول الباحث الصيعري، في بحثنا ذلك إلى أنه من المرجح أن هذه المنطقة قد فيها العديد من العلماء الذين ينسبون إلى ما سمى قديماً بشحر عمان وإن كنا لا نستطيع أن ننسبهم إلى مرباط على وجه الخصوص من أمثال عمرو بن أبي عمرو الشحري ومحمد بن خوي الشحري وأبي عبدالله محمد بن عمر بن علي بن محمد بن يحيى بن مسلم الشحري المعروف بالإمام المحدث ابن الأصفر سمع من أبي عبدالله الفراوي سنة 680هـ. أما بعد ذلك في عصور الخلفاء إلى نهاية القرن الرابع الهجري فلا يوجد لدينا مصادر تتحدث عن هذه الفترة إلا أن المفهوم من سياق التاريخ العام للمنطقة أن مرباط كغيرها من حواضر الشحر القديم قد شهدت ثقافة إسلامية جديدة وأنها استمرت تابعة للخلافة الراشدة وفي هذا يقول الطبري:

«وازداد عكرمة وجنده قوة بالظهر والمتاع والأداة وأقام عكرمة حتى جمعهم على الذي يحب وجمع أهل نجد أهل رياض الروضة وأهل الساحل وأهل الجزائر وأهل المر واللبان وأهل جيروت وظهور الشحر والصبرات وينعب وذات الخيم فبايعوا على الإسلام فكتب بذلك مع البشير وهو السائب أحد بني عابد من مخزوم فقدم على أبي بكر بالفتح».

وفي الفصل الثالث للكتاب تحدث الباحث د/‏‏‏‏ أحمد بن عبد الرحمن بالخير (منهج الإمام القلعي في التأليف» تهذيب الرياسة وترتيب السياسة نموذجاً)، وقال: «ألف للإمام القلعي كتابه تهذيب الرياسة وترتيب السياسة سالكاً منهجاً يهدف إلى وعظ الملوك والحكام والولاة، عن طريق ذكر النصائح والأخبار والحكم والأمثال في فضائل الأخلاق التي يستقيم بها الملك وتصلح بها حال الرعية، كما يتعرض في كتابه إلى بيان خطر الأخلاق المذمومة وأثرها في زوال الملك وضعفه، وذكر القلعي في كتابه ما يجب أن يتصف به أعوان السلطان من الوزراء والقادة، كما يذكر الإحسان إلى الجند وفرض الأرزاق لهم وكيفية جباية الأموال، وحسن التدبير في الحروب ومكايدها. وقد خرج الكتاب محققاً في طبعته الأولى عن مكتبة المنار بالأردن سنة 1985م.

تكمن أهمية تهذيب الرياسة وترتيب السياسةـ كما يقول د/‏‏‏‏ بالخير، في كونه موجهاً إلى الحكام والسلاطين والأمراء ليكون لهم مرشداً ودليلاً فيما يقومون به من أمور دينية ودنيوية. أضف إلى ذلك فهو موجّه إلى من هم قريبون من أولئك الحكام والوزراء فدعاهم إلى أن يتحلّوا بالصفات الحميدة الفاضلة. فضلاً على أنه موجّه إلى عامة الشعب في دعوتهم إلى السمع والطاعة.

والحق أن هذا الكتاب يعتبر نموذجاً لما كان عليه العلماء العاملون الذي كتبوا في كل فن واستغلوا إمكانياتهم لخدمة العلم والإسهام في توجيه الحياة نحو الأفضل، خاصة في هذا الموضوع الحيوي الحساس الذي يهم الأمة كلها، لأنه بصلاح متولّيها تصلح. وقد تجنب ذكر الخلافات الفقهية في الفروع وهو مسلك حسن في منهجية كتب السياسة حتى لا يتشتت الذهن ويوقع المسؤول في حيرة، وإن وجد شيء من هذا أشار إليه إشارة مقتضبة كما قال وجوب نصب الإمام وما يجب أن يتوافر فيه من الأوصاف (أجمعت الأمة قاطبة إلا من لا يعتد بخلافة على الإطلاق وإن اختلفوا في أوصافة وشرائطه).

وهكذا كان منهج القلعي في التأليف مؤسساً على ثوابت علمية واضحة، تمثلت في الترتيب الواضح، والمأخذ السهل، ووحدة الموضوع، وانتفاء التكرار، والتوثيق العلمي، فظهر لنا مؤلفاً متميزاً ممكناً، توافرت لكتابه مقومات المنهج العلمي الحديث، مما يجعله يشغل منزلة رفيعة بين رجالنا العظماء وعلمائنا النوابغ، وكُّتابنا الأفذاذ، جاء بجديد في مجال التأليف والتصنيف، وأسهم في تطور منهج التأليف والبحث عند العرب.

وفي الفصل الرابع من الكتاب يطرح الباحث حسين بن أحمد علوي الذيب (المكانة العلمية للإمام محمد بن علي القلعي)، شهرة الإمام القلعي في عصره، والجهود العلمية التي وأثرها الكبير، خاصة الفقه والعلوم الشرعية، والمكانة التي ضحى بها هذا العلامة، والكتابة عنه كدليل على مآثره الهامة، من حيث الاستشهادات الكثيرة من العديد من العلماء «يمكننا الاستدلال على مكانة القلعي الفقهية من عدة أمور، منها:

-ما كتبه وخلّفه لنا. وهذا- وإن لم يكن وصل إلينا كاملا-إلا أن ما نُقل إلينا في كتب غيره شاهد على رفيع مكانته لدى من نقل عنه واستشهد بكلامه.

-الاستشهاد بكلامه والنقل من كتبه في مسائل من الفقه والحديث واللغة، خاصة وأن من فعلوا ذلك هم علماء لهم مكانتهم في هذه العلوم، وأشهرهم الإمام النووي وتقي الدين السبكي في كتاب (المجموع شرح المهذب) وتكملته.

-ذكره في طبقات الفقهاء الشافعية. وممن عده من هذا الطبقات:

الجعدي والتقي السُّبكي والإسنوي وابن قاضي شُهبة. وقد وصفه هؤلاء بأنه»إمام»، وهي كلمة لها دلالتها على العلم.

أما تأثيره، فإن ما سبق ذكره من تلاميذه وكتبه ومكانته كل ذلك من تأثيره إلا أن له أثراً آخر قد تكون له دلالة خاصة على قوة تأثيره وعمقه، وهو نشره للمذهب الشافعي في ظفار ومن حولها. وقد نص على هذا (باطحن) فيما نقله عنه الكثيري في (الدلائل والأخبار في خصائص ظفار)، وفيما نقله السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف عن ابن حجر العسقلاني». ويظل الإمام محمد لن علي القلعي من علماء عُمان الذين قاموا بدور علمي كبير في عصره في ظفار، وفي ولاية مرباط على وجه الخصوص.