1018146
1018146
المنوعات

هل «انتحل عبد الرحمن منيف روايته «الآن هــنا» مــن حـيدر الشـيخ عـلي ؟

21 مايو 2017
21 مايو 2017

فالح عبدالجبار يتراجع: لم أكتب عنوان المقال وهدفي إرجاع الأشرطة -

حيدر الشيخ: أشعر بدنو أجلي وأريد لعائلتي أن تسمع حكاية معاناتي -

ســــعاد قوادري: مــنيف لا يســرق تجارب الآخرين -

عــــبده وازن: كــــان عليه أن يذكــر اسمه ويعطيه حقه -

تحقيق:عاصم الشيدي -

«حينما بدا موتي وشيكا.. أطلقوا سراحي!»

بهذه العبارة استهل الروائي الكبير عبد الرحمن منيف روايته «الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى» والتي ثارت حولها زوبعة صحفية وثقافية كبيرة خلال الأيام الماضية وصارت حديث الجميع: صحافة ووسائل تواصل اجتماعي وحديث المجالس والمقاهي. بدا الأمر عندما نشر الباحث العراقي المقيم في بيروت الدكتور فالح عبد الجبار مقالا في جريدة الحياة اللندنية حمل عنوان: «مذكرات السجين العراقي حيدر الشيخ علي ينتحلها عبد الرحمن منيف ويسقط الاسم». كان هذا العنوان كفيلا بأن يشعل المشهد الثقافي العربي لأنه يتهم واحدا من أهم الروائيين العرب بالانتحال. كان عنوان المقال، دون لبس، يوجه التهمة مباشرة إلى منيف بالانتحال، ومعنى الانتحال هو السرقة أيضا لكن لمزيد من التوضيح والتأكيد فإن مصطلح «الانتحال» لم يرد أبدا داخل متن المقال.. لكن ورد تأكيدا على «غياب الملكية الفكرية» في إشارة إلى أن منيف استخدم في روايته ما لم يكن ملكه.. عبر عدة مدن وعواصم عربية وغربية سواء بالسفر المباشر إلى هناك أو عبر الاتصالات ووسائل التواصل الحديثة حاولنا البحث وراء تفاصيل الحقيقية ووضعها أمام الجميع.. ومن خلال الأحداث يمكن للقارئ أن يعرف أين تقوى الحقيقة وأين تضعف وأين يبدو القول حادا وأين يبدو رخوا.

رواية الآن هنا

تتحدث الرواية عن أدب السجون، وهو أدب ثري في العالم العربي، ومثير، ويتكئ على أحداث حقيقية أو يحاكيها في الغالب. كان المشهد العربي محتقنا في النصف الثاني من القرن الماضي، في ظل ثورة شبابية متحمسة للبحث عن الحرية، ومتطلعة لعالم عربي أفضل.

كان عبد الرحمن منيف قد نشر رواية حملت عنوان «شرق المتوسط» تدور أحداثها حول ثيمة السجن والتعذيب والقهر. وبعد 15 سنة من رواية شرق المتوسط أصدر في عام 1990 رواية «الآن هنا أو شرق المتوسط من جديد» وكمثل روايته السابقة يبدو المكان والزمان غير واضحين، مغيبين تماما، فيخترع منيف دولتين تدور فيهما الأحداث «عمورية وموران» لكن ليس صعبا على القارئ الفطن تحديد هوية الدولتين.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول دهاليز، والثاني حرائق الحضور والغياب، والفصل الثالث هوامش أيامنا الحزينة.

تبدأ الرواية في فصلها الأول بحضور عادل الخالدي «الراوي» وهو سجين سياسي سابق في دولة «عمورية» قاصدا العلاج في مدينة براغ وهناك يلتقي بسجين سياسي آخر من دولة «موران» هو طالع العريفي. وسرعان ما تنشأ بينهما صداقة حميمة قوتّها روابطهما السياسية المشتركة وماضيهما في الكفاح من أجل الحرية. ينتهي الفصل الأول بمغادرة عادل الخالدي مدينة براغ إلى باريس بعد أن توفي طالع العريفي الذي دون تفاصيل تجربته المريرة في سجون «موران» على شكل مذكرات.

الفصل الثاني من الرواية تنطلق أحداثه من أوراق طالع العريفي التي تركها لعادل الخالدي. تبدأ الأحداث من حادثة اعتقاله دون تركيز على ماضيه الحركي ويمثل طالع مثقفا ثوريا يتطلع إلى وطن حر وشعب واعٍ ولكنه سرعان ما يصطدم بسلطة حادة ومتعسفة. في أوراق طالع يمكن قراءة شخصيات كثيرة في سجون موران. أما الفصل الثالث من الرواية والذي حمل عنوان «هوامش أيامنا الحزينة» فيعود دور الراوي عادل الخالدي المتواجد في باريس إلى الظهور مرة أخرى.. ويكتب الخالدي تجربته بتفاصيلها لكنه يركز على وسائل الإخضاع التي يتعرض لها السجين السياسي وكذلك أدوات التعذيب.

من هو طالع العريفي؟

لم يتساءل ملايين القراء الذين قرأوا رواية عبد الرحمن منيف «الآن هنا» على مدى عقدين ونصف منذ صدورها عن مَنْ هو طالع العريفي؟ ولا عادل الخالدي؟ ولا من هو المناضل «رجب» في روايته «شرق المتوسط» فالشخصيات الروائية وإن كانت تستند إلى الواقع لكنها تبقى شخصيات متخيلة، روائية. وعلى أرض الواقع هناك المئات مثل هذه الشخصيات في العالم العربي لاقت العذاب نفسه، والانهيار نفسه، ومحاولات التركيع، والثلم النفسي.. وتتقاطع الأحداث الروائية فيها مع أحداث الواقع التاريخي.

لكن المقالة التي نشرها الدكتور فالح عبد الجبار في الصفحة الثقافية بجريدة الحياة اللندنية وحملت عنوان «مذكرات السجين العراقي حيدر الشيخ علي ينتحلها عبدالرحمن منيف ويسقط الاسم» أعادت طرح الكثير من الأسئلة.

يقول فالح في مقاله «حتـى تعرف بطل رواية «الآن هنا» لعبد الرحمن منيف يجب أن تعرف بطلها العراقي. وحتى تعرف بطلها العراقي يجب أن تعرف ديرسو اوزالا بطل المخرج الياباني كيرو ساوا. والعراقي هو حيدر الشيخ علي».

وقصة حيدر الشيخ علي باختصار أنه كان من اليسار العربي في العراق وشارك في أول إضراب عمالي ضد حزب البعث العراقي. وفي عام 1978 هرب من العراق إلى إيران خوفا على حياته من التصفية.. ولم تكن إيران أفضل حالا في علاقتها باليسار في تلك المرحلة.. فرغم دعوة اليسار للثورة ضد الشاة ومشاركته الفاعلة فيها عبر «حزب تودة» و«فدائي خلق» إلا أن الثورة انقلبت عليهم وبدأت في قنصهم. وفي عام 1981 تم قنص حيدر الشيخ علي بتهمة التجسس لصالح العراق.. العراق التي هرب منها خوفا على حياته. وفي السجون الإيرانية تعرض حيدر لشتى صنوف التعذيب والقهر وهدر الكرامة إلى أن خرج بوساطة سورية قام بها حافظ الأسد.

حكى حيدر قصته لصديقه فالح والتي استوعبت 10 أشرطة كاسيت.. حكى كل التفاصيل عبر سرد جميل وفق ما يكتبه فالح في مقاله. وعبر مصادفة «لا يعرف فالح إن كانت حسنة أو سيئة» وصلت الأشرطة إلى عبد الرحمن منيف الذي سمع بحكاية حيدر من فالح نفسه وأراد أن يسمع قصته كما رواها في الأشرطة. وبعد قرابة العام من استلامه الأشرطة صدرت رواية «الآن هنا» وبعث منيف ثلاث نسخ منها لحيدر موقع بعبرة «ربّ أخ لك لم تلده أمك». يقول فالح في مقاله «خلت الرواية كما مقدمة ونوس من أي إشارة الى صاحبها، صحيح أن مكان وزمان الحوادث ألغيا تماما، في إطار ترميز فني أو تهرب من الواقع، إلا أن حيدر، شأني أنا، أصيب بما يشبه الصدمة بسبب إغفال ذكر مصدر القصة الذي أخذ في شكل نصيّ». ويتساءل فالح عن سبب ذلك «هل هو الاعتقاد بأن من حق الروائي أخذ كل ما يصادفه، نوع من الاعتقاد بامتلاك الأشياء بمجرد أن يقع بصر المرء عليها؟ أم الاعتقاد بأن تحرير المادة فنيا يلغي حق انتسابها إلى الآخر؟ أم هو إغفال غير مقصود؟ أم هو إقصاء لهوية الشيوعي بدافع تحزّب أيديولوجي؟

لم أكتب أنه «انتحال»!!

في مكتبه بمعهد الدراسات العراقية الكائن بشارع الحمراء بمدينة بيروت كان الدكتور فالح عبد الجبار منكبا على مراجعة بحث جديد عندما دخلت عليه في تمام الساعة الثانية عشر ظهرا.. بدا عبدالجبار منزعجا جدا من تعامل الصحافة العربية ووسائل التواصل الاجتماعي مع مقاله.. قلت له الأمر طبيعي جدا، أنت تتهم أحد أهم أعلام الرواية العربية بالانتحال/‏‏ السرقة. قال لي وهو يقطب ما بين حاجبيه: أبدا أبدا أنا لم أكتب ذلك العنوان، من حق الصحيفة أن تغير العنوان وتختار العنوان الذي تراه مناسبا. وفتح لي جهاز الكمبيوتر على مكتبه وقال: انظر هذه هو العنوان الذي اخترته للمقال: «عبد الرحمن منيف وديرسو اوزالا العراقي: قصة التعذيب في السجون» ولكن الجريدة اختارت العنوان الذي قرأه الجميع «مذكرات السجين العراقي حيدر الشيخ علي ينتحلها عبدالرحمن منيف ويسقط الاسم».

رشف رشفة طويلة من قهوته ونظر إلىّ وقال ثانية: لم أتحدث عن الانتحال، ولم أورد هذه الكلمة أبدا، الجريدة اختارت عنوانا مثيرا، وسقط الأمر على رأسي، وهو عنوان فيه إساءة للرجل «يعني عبد الرحمن منيف» وفي داخل المقال، لمن قرأه لا توجد هذه الكلمة أبدا.

يكمل فالح حديثه: نشرت إيضاحا على صفحتي في الفيس بوك واعتذرت عن سوء الفهم.

ـ ماذا تعني بسوء الفهم؟

ـ أنا لم أقصد أو أفكر في اتهام عبد الرحمن منيف بالانتحال.. وكان هدفي هو إثبات أن طالع العريفي بطل الرواية هو حيدر الشيخ علي وأن تلك المذكرات هي مذكراته، في الحقيقة وإنّ الرواية قامت على قصته التي سجلتها بنفسي على 10 أشرطة كاسيت أخذها عبدالرحمن منيف مني ليستمع للقصة ولكن لم يعدها.

في الطريق إلى غرفة الاجتماعات بالمعهد سألته إن كان يعتقد أن على عبد الرحمن منيف أن يقدم بيانا بأسماء الشخصيات والأحداث الحقيقية التي وظفها في أعماله الروائي وما إذا كان عليه أن يقول أن طالع العريفي هو حيدر الشيخ علي؟

ـ أبدا أبدا ليس عليه ذلك.

ـ ولكنك قلت في مقالك بالنص «حق الملكية الفكرية غائب» في الرواية.

ـ الروائي يعيش في هذه الحياة يسمع الكثير ثم يوظف ما يسمع في كتاباته، وهذا واجب عليه، أنا لا أتحدث عن هذا، أنا أتحدث عن وثيقة «عشرة أشرطة كاسيت» كان لطفا منه أن يرجعها إلى صاحبها، وأن يبعث له رسالة.. ربما اعتقد أن الإهداء كاف.. وربما تحرج لأن حيدر كان شيوعيا ومنيف كان مقيما في سوريا.. وأنا ملاحظتي أنه لو بعث له مجرد رسالة شخصية تثبت حقه!!.

ـ لماذا لم تردّ في جريدة الحياة حيث نشرت مقالك أنك لست صاحب عنوان «الانتحال» وأن الجريدة هي التي تتحمل التهمة إذا كنت لا تقول بالانتحال؟

ـ نشرت التوضيح في صفحتي على الفيس بوك، وأعتقد أن الجريدة، مهنيا، لها الحق في اختيار العنوان الذي تراه مناسبا.. لكن أؤكد لك أن الغرض من المقال لم يكن أكثر من تثبيت واقعة أن القصة هي قصة حيدر كما سجلتها صوتيا بغرض إصدارها بكتاب وأن منيف لم يذكر هوية السجين.

يواصل فالح حديثه فيقول: عجزت عن استرجاع الأشرطة وتنازلت عن حقي فيها إكراما لمنيف ومن ثم إكراما لذكراه بعد وفاته، لكن حيدر ما زال يطالب بالأشرطة وقد اتصل بي قبل أيام من كتابة المقال وأخبرني أنه يعاني من رابع ورم سرطاني وأن عليه أجراء جراحة خلال أيام وربما لا يعود حيا بعدها ومن حقه أن يثبت ملكيته الفكرية للنص.

قاطعته وقلت له: أي نص؟ الرواية أم النص المسجل على الأشرطة؟ فقال: النص المسجل على الأشرطة.. علما أن منيف لم يقابل حيدر قبل كتابة الرواية ولكن استفاد من الأشرطة ولم يسمع منه مباشرة.. ولم يستأذنه حتى في استخدام قصته في عمل روائي.. وهو استخدم القصة بكل تفاصيلها، ولم يكن تناصا كما أراد البعض تسميته.

وعندما قلت له لماذا الآن؟ لماذا بعد قرابة 30 سنة تتذكر الأشرطة؟ قال: ذكرياتي ملكي متى ما أريد أسردها أسردها ومتى ما أريد استرجاعها أسترجعها، وحق حيدر في الأشرطة لا يسقط.. قانونا لا يسقط. ثم إن حيدر اتصل بي وكان وضعه الصحي صعب جدا، وكان يتمنى لو ذكر منيف قصته وأنه هو صاحب القصة.. تخيل أن يتصل بك صديقك المصاب بالسرطان ويخبرك أنه قد لا يعيش إلا أياما قليلة وأنه يريد «لقصته» أن تعود ليعطيها ابنته تحتفظ بها، يريد الناس من حوله أن يعرفوا أن قصة منيف في «الآن هنا» هي قصته هو!!

وفي رد لها على جريدة.

عكاظ وصفت أرملة الروائي عبد الرحمن منيف سعاد قوادري الأشرطة متسلسلة من الرقم 1 إلى الرقم 10.. لماذا لا تعيدها إذا؟!.

ـ هل أنت معترض الآن على عدم إرجاع الأشرطة أم أن عبدالرحمن منيف لم يذكر حيدر في روايته بالاسم.. لاحظ أنا أقول لك روايته، هو كتب رواية ولم يكتب سيرة غيرية لحيدر؟

ـ كان يمكن أن يذكر اسمه في المقدمة التي كتبها سعد الله ونوس.. غير ذلك كان حيدر فرح جدا أن روائي بحجم منيف يهتم بقصته ويكتبها في رواية من رواياته.

ـ ولكن تلك الطبعة التي كتب مقدمتها سعد الله ونوس سرعان ما اختفت من الأسواق وأعدمت!

ـ نعم ولكن على الأقل يثبت فيها حق حيدر، خاصة وأنه حصل مباشرة على نسخة.. أنا لا أعترض تماما على حق منيف في التخييل الروائي، وعمله لا يصبح ملك له أو لعائلته ولكن يتحول إلى إرث ثقافي.. ولكن حتى التخييل في هذه الرواية ضعيف جدا مقارنة بروايته مدن الملح التي يصل التخييل فيها إلى قمة التخييل في الرواية العربية.

ـ هذا رأي شخصي لناقد أم لقارئ؟

ـ هذا رأي شخصي لي.. بناء الرواية ضعيف، ومنيف حتى يخفي المكان كان يستطرد لعشرين صفحة.. كان يكفي صفحة واحدة فقط.. الاستطراد في مدن الملح رغم ثقله ولكنه كان جميلا وممتعا على خلاف «الآن هنا».

سألته متى آخر مرة طلب الأشرطة من منيف؟ فقال: كان ذلك في عام 1996، وكنت أحضر معرضا للفنان جبر علوان، وجاءت بنات عبدالرحمن منيف، وأرسلت رسالة على يد ابنته عزة، ولم أحصل على رد ونسيت الأمر لاحقا.

حيدر الشيخ علي يتحدث

من أربيل وعبر الهاتف جاء صوت حيدر الشيخ علي وزير المواصلات السابق في الحكومة العراقية في كردستان، والقيادي في الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي الكردستاني قويا رغم أنه يستعد لإجراء عملية رابعة لاستئصال ورم خبيث.. عندما عرف أنني صحفي وأجري تحقيقا حول حكايته مع عبد الرحمن منيف التي أثارها فالح عبد الجبار، اعتذر عن الحديث لأن الموضوع أحدث لغطا كبيرا ولا يريد الاستمرار فيه.. وبعد إصرار ونقاش وافق على الحديث.

في البدء قال حيدر وبصوت جهوري جدا: لا أريد الحديث في هذه القضية، أنا شخص أكن كل التقدير والاحترام لعبد الرحمن منيف كمثقف وكروائي، وقد استفاد منه الكثيرون، وهو قامة ثقافية لا جدال عليها.. أنا فقط أريد الأشرطة!!، احتاج هذه الأشرطة نظرا لوضعي الصحي.. وهذا حق من حقوقي.. لا أريد أن أصفي أي حسابات مع منيف أبدا.

ـ هل أنت طالع العريفي فعلا في الرواية؟

ـ نعم أنا بطل الجزء الثاني من الرواية، شخصية طالع العريفي عبرّت عني وعن عذاباتي في السجون الإيرانية لمدة ست سنوات ثلاث سنوات منها في زنزانة انفرادية في سجن ايفين في شمال طهران.

ـ ما الذي تطلبه الآن من أسرة عبدالرحمن منيف؟

ـ أنا حزنت لأن منيف لم يذكر اسمي في الرواية رغم أنها مستوحاة من سيرتي ولكن كل ما أريده الآن إرجاع الأشرطة التي سجلتها مع الصديق فالح عبد الجبار.

ـ ألم تتواصل معك أرملة عبد الرحمن منيف سعاد قوادري بعد هذه الأحداث؟

ـ اتصلت بي وكانت مكالمتها كلها ود، ووعدتني أن ترجع الأشرطة بشكل مباشر أو عبر صديق مشترك هو انتشال التميمي المقيم في هولندا.. لكني لم أتسلم الأشرطة حتى الآن ومضى على مكالمتها أسبوعان تقريبا.

ـ هل قصة طالع في الرواية هي قصتك تماما أم تتشابه معها؟

ـ تقريبا هي قصتي لكن عبد الرحمن منيف أغفل تفاصيل مهمة في الأشرطة لها مكانتها وثقلها وتستحق أن تروى للناس.. وهدفي الآن أن أفرغ هذه الأشرطة وأنشرها كاملة في كتاب ليعرف الناس الواقع المأساوي للسجن وما لقيته هناك من تعذيب جسدي وأذى وقسوة تفض من قسوتها صم الجبال.. الآن وضعي الصحي صعب، وهذا يجعلني أصر على الأشرطة، لأن من حق أهلي وحتى من حق أصدقائي أن يعرفوا من أنا ويعرفوا سيرتي».

ـ هل التقيت بمنيف بشكل مباشر؟

ـ نعم. حدث ذلك في بيته بعد صدور الرواية وكنت فرحا جدا أن كاتبا بحجم منيف يكتب عني حتى وإن كان لم يذكرني.. ومنيف كتب عن المعتقلات والسجون وفي «حرائق الحضور والغياب» رأيت نفسي، كنت أنا تماما.. كل الشخصيات أعرفها.. هو فقط غير الأسماء.

ـ هل كنت تطالبه أن يذكرك بالاسم أو أن يشير لك بطريقة أو بأخرى؟

ـ أنا لم أطالب منيف ولا أطلب أن يكتبني في الرواية بالطريقة التي أنا أريدها أو يطابقها معي، لكن بشكل عام إذا كان قد استند على «الأشرطة» أم لم يستند عليها فمن حقي أن تعود لي حتى لو كانت بحالة سيئة كما تقول أرملته.

سألته عن صحته فكان رده سريعا: نحن أناس واقعيون جدا.. لم نذهب للمرض ولكنه هو من أتى إلينا.

بيروت مرة أخرى

عبر الهاتف أيضا جاء صوت عبده وازن، المحرر الثقافي لجريدة الحياة ومن تعامل مع المقال، هادئا ومستريحا جدا.. بعد أسئلة عامة وترحيبات سألته:

ـ فالح عبدالجبار يقول أنكم في جريدة الحياة من غيّر عنوان المقال وأضاف كلمة «انتحال» إلى العنوان.. نص المقال ليس به عبارة انتحال أبدا ولكن أنتم أضفتموها.. هل هذا صحيح؟

بهدوء أيضا رد عبده وازن: الصحف تبحث عن العناوين التي بها إثارة.. أعتقد أن العنوان كان سببا في قراءة المقال بهذه الطريقة.

«ولكن الكاتب لم يتحدث عن انتحال في مقاله كما يقول الآن!».. صمت برهة ثم قال: حرام.. الرجل قصته، حكايته لماذا لم يذكره؟ لماذا لم يقل هذه قصة حيدر؟ من حق الرجل أن يعرف الناس أن هذه قصته.

«هل على الروائي أن يرجع قراءته وتماسه مع المجتمع إلى حقيقتها عندما يوظفها في عمل روائي؟ صمت ثم قال: هذا حقه كان عليه أن يذكره بطريقة أو بأخرى!.

انتهت المكالمة.

إلى دمشق.. حيث أرملة منيف

الطريق بين بيروت ودمشق تستغرق ساعتين ونصف بسيارة أجرة في أفضل الظروف.. قلت لصديق كان معي في بيروت: فرصة نذهب للقاء أرملة عبد الرحمن منيف السيدة سعاد قوادري ونرى دمشق ونعيش تجربة مثيرة.. كان رد صديقي قاطعا في عدم الذهاب وأنه لا يريد مثل هذه المغامرة المحفوفة بالكثير من المخاطر أهونها الخطف إلى حيث التنظيمات المتشددة.

كان من الصعب أن أخوض التجربة وحدي خاصة وأن لا خبرة لي أبدا في هذه الطريق.. ولم يكن أمامي إلا التواصل مع أرملة منيف عبر الهاتف.

حاولت الاتصال أكثر من خمس مرات ولكن لا أحد يرد.. قبل أن أيأس من الرد جاء صوت شاب في عقده الثاني تقريبا:

ـ تفضل من أنت ومن تريد؟

ـ أنا صحفي من عُمان وأريد الحديث مع الأستاذة سعاد.

ـ ماذا تريد منها؟

ـ نريد الحديث عن عبد الرحمن منيف قليلا.

ـ «بارتباك» هي غير موجودة.. مسافرة.

ـ هل هي مسافرة داخل سوريا أم إلى خارجها؟

ـ «بارتباك كبير وواضح».. أآه هي مسافرة، لا أعرف متى تعود، سأخبرها.

ـ متى عليّ الاتصال ثانية؟

ـ أغلق المكالمة.

لم يعد أمامي إلا أن أستخدم نصا كتبه قوادري ووضعته على صفحتها في «فيسبوك» وتم تناقله كثيرا خلال الأيام الماضية ولكن رأيت فيه توضيحا مهما من أسرة منيف، وبعض التفاصيل المهمة وأنشر أجزاء منه هنا:

«تحياتي الأستاذ فالح يبدو من لهجتك الجديّة بالإجحاف الذي تعرض له السجين حيدر لأقول وللأسف إن ثقتك الكبيرة بما سردته من معلومات على أنها وقائع تستلزم مني بعض الإيضاح لأنني وليس بمعرض الدفاع عن عبدالرحمن، والذي كان مبدئيا يرفض أن يكتب عن أي قصة بناء على طلب أحد، وكان من المفروض حسب كلامك أن تعطي الأشرطة والمبالغ بعددها كثيرا لمن يفرغها وتنشر باسم صاحبها وتنتهي المشكلة الحقيقية. والكل يعلم من كلام عبد الرحمن المتكرر عن رواية شرق المتوسط والتي لاقت من الكثيرين ممن دخل السجن أو استمع إلى تجارب مشابهة من التأثر بهذه الرواية وكثيرا ما صادفت معه وبلقاءات مع شباب قابلوه وكانت ردة فعلهم الفرحة بلقائه وهم مندهشون وقولهم لمنيف «من أين عرفت قصتنا لأنك كتبت عنا هنا في بلدة دوكان، وكانت في المغرب فكان جوابه إنني أول مرة أقوم بزيارة المغرب ولولا بعض الأصدقاء لم أسمع بهذه البلدة، وأكمل كلامه إن السجن في عالمنا العربي أصبح الحالة المقيتة والسيئة والمشتركة في بلداننا بفظاعتها وهولها.

وقالت: «ومن معرفتي كيف كان يتابع الموضوع (منيف) بالقراءة والمتابعة والتوثيق وقوله سأعود إلى الكتابة عن هذا الموضوع في عنوان آخر هو شرق المتوسط مرة أخرى وللعلم أنه كان يتابع هذه المعلومات في أرجاء الوطن العربي وكل من قرأ (الآن هنا) وجد نفسه ولكن الكثير من التفاصيل كانت تصله عن سجون بعينها وأسمائها وأماكنها والتي ربما لم يسمع بها الكثيرون. كما أن مشاهد التعذيب في الرواية تدلل على أمكنة بعينها وسجون بعينها. أريد أن أقول بدأ منيف تجميع المعلومات والتفكير قبل البدء بالكتابة بفترة سابقة جدا جدا عما ذكرت وانتهت بأول طبعة بعام ٩١وتتابعت بإعادة الطبع مرارا ووصله عتاب من مجموعات متنوعة وفي بلدان متباعدة أنك تقصدنا وهي لمواقف وأحزاب اتخذتها في تلك الفترة».

وقالت القوادري: «ولن أتكلم عن تعامله مع الأشرطة والوقت الذي صرفه في الاستماع إليها حتى لا أسيء إلى تجربة حيدر المحترم؛ لأنه يكفي أن يحتجز شخص في سجن لساعات أو أيام أو يعذب حتى نرفع له راية الاعتزاز به وتقديره وكلنا يعرف ويسمع ما يمارس على السجين لأقول فقط إن عبدالرحمن اطّلع جزئيا وتعرف على معاناة إضافية لأن لديه من المصادر الكثير».

هل كان انتحالا ؟!

يبدو المشهد الآن واضحا جدا ولا يحتاج إلى تفسير كثير.. ومطالب فالح عبدالجبار وحيدر الشيخ علي تضاءلت إلى حدود عودة الأشرطة فقط والانسحاب عن تهمة «الانتحال» التي كانت جريدة «الحياة» وراءها رغم تلميح فالح لها خلال حديثه عن الملكية الفكرية في متن المقال.. أما حق عبدالرحمن منيف في توظيف الواقع في روايته في قالب روائي متخيل فلا غبار عليه ولا ينكره عليه حتى فالح وحيدر.. بعد أن خرج الموضوع من حدوده الضيقة إلى الفضاء الثقافي العربي عامة.