أفكار وآراء

ترامب والشرق الأوسط.. والبحث عن جديد!

20 مايو 2017
20 مايو 2017

د. عبد العاطى محمد -

بنهاية المائة يوم من رئاسته للولايات المتحدة، تخلص دونالد ترامب من بعض ما شاب خطابه في الحملة الانتخابية من آراء ومواقف أقلقت أصدقاءه قبل خصومه. ومع  هذا التغير، وبقدر من التجميل السياسي، تحسنت صورته جزئيا على الصعيد الداخلي، بينما تحسنت بدرجة أكبر على الصعيد الخارجي، خصوصا فيما يتعلق بالشرق الأوسط.

لقد استقبل على أبواب البيت الأبيض عددا من قيادات الشرق الأوسط بشكل متسارع ومتتال وخلال مدة وجيزة من الزمن وسط حفاوة مقصودة من جانبه، بينما لم يكن الحال كذلك بالنسبة لقيادات عالمية أخرى. وقرر أن يكون الشرق الأوسط وجهته الأولى في أولى زياراته الخارجية، على عكس ما فعله رؤساء أمريكيون كثر سابقون جعلوا دولا من أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا وجهتهم الأولى. وقد عززت هذه المواقف الانطباع بأن الرجل مهتم بشكل خاص بأوضاع الشرق الأوسط وبتحسين علاقات بلاده مع دوله المؤثرة بعد أن كانت قد تدهورت بوضوح أواخر عهد سلفه باراك أوباما.

لا يهم من الذي هرول إلى الآخر أولا، إدارة ترامب أم إدارات الدول التي حلت ضيفا عليها منذ وقت مبكر، ولا من الذي بادر بتقديم ما يجب لكي يرضى الآخر حتى تتحسن صورة العلاقات ولو على مستوى الشكل فقط. أسلوب كهذا يعني إحياء المناخ القديم الذي ساد العلاقات ثم استمرار التوتر وخلق الأزمات، كما أنه يفقد من البداية المصداقية في التحركات المتبادلة. ولا يعني ذلك مطلقا أن العلاقات تبدلت إلى الأفضل أو انتقلت فعلا من الخصام إلى التعاون أو الصداقة الوطيدة، فليس ذلك من طبائع السياسة خصوصا على الصعيد الخارجي، حيث هناك دائما نقاط للاتفاق وأخرى للخلاف. ولكن شواهد الاستقبالات الحميمة واختيار الشرق الأوسط أولى المحطات الخارجية تقول إن شكل العلاقة أصبح أفضل وأن وراء تحسن الشكل عوامل موضوعية دفعت إلى مرحلة أخرى مضادة لما كانت عليه أواخر عهد أوباما. هي عوامل «الضرورة» عند كل من الجانبين بغض النظر عن استمرار أو تراجع أو انتهاء تراث «الكراهية» الذي ألقى بظلاله على العلاقات منذ الحرب الأمريكية على العراق 2003.

علاقات «الضرورة» تعنى أن هناك رغبة متبادلة في التلاقي والعمل المشترك حول قضايا بعينها، وأن هناك عقبات تعترض هذا العمل المشترك، وأن تجاوز العقبات يفترض تنازلات متبادلة من الجانبين، ولذلك فإنه مثلما تثير مظاهر الابتهاج، تثير أيضا أهمية إدراك التحفظ وتوقع الانتكاسات تحت وقع تباين الحسابات والمصالح وحجم التنازلات وتكلفتها من وجهة نظر كل طرف.

على أجندة علاقات «الضرورة» قضايا عديدة بدا الشكل العام للمشهد بخصوصها جيدا وهو ما أعطى الانطباع بأن الأمور تتجه إلى الأحسن مقارنة بما سبق، ولكن كما يقال فإن الشيطان يكمن في التفاصيل، أي أن هناك عناصر للخلاف لا تزال قائمة، وأخرى غامضة لم يتحدد مصيرها. وحتى لا تبدو الصورة الإيجابية القائمة وكأنها حملة علاقات عامة متبادلة من الجانبين سرعان ما يخبو بريقها، تبقى مهمة الانتقال من القول إلى الفعل شاقة ومعرضة في أي وقت للأزمات التي يمكن أن تعيد العلاقات إلى نقطة الصفر.

لقد شهدت المائة يوم الأولى تغيرا في نظرة ترامب وفريقه للإسلام والمسلمين. خلال حملته الانتخابية تحدث بخطاب عدائي تجاه ما أصبح يعرف بالإسلام السياسي دون أن يميز بين الجماعات المعتدلة وتلك المتطرفة أو التي تنتهج العنف المسلح. وانتقد بشدة إدارة سلفه أوباما إلى حد اتهامها بأنها هي التي صنعت «داعش»!، واستعدى مسلمي الولايات المتحدة ذاتهم مما دفعهم إلى العمل ضده في الانتخابات، كما أثارت آراؤه السلبية تجاه المسلمين حفيظة مسلمي العالم أجمع. وهدد بأنه سيعمل على إصدار قرار يوقف نشاط مؤسساتهم السياسية داخل وخارج الولايات المتحدة، وعندما تولى الحكم سارع بإصدار قرار يمنع دخول مواطني بعض الدول الإسلامية الأراضي الأمريكية. ولكن رد الفعل المضاد من جانب المسلمين عموما ومسلمي الولايات المتحدة خصوصا، فضلا عن رفض عدة محاكم فيدرالية قرار المنع جعله يعيد حساباته هو وفريقه. وبمضي الوقت تراجع عن مواقفه وتخلى عن التعميم إلى التخصيص عندما ركز بشدة على أن «داعش» لا تمثل الإسلام ولا المسلمين وهي التي تمارس الإرهاب والتطرف، كما تبين له بوضوح خطأ التعميم في إصدار الأحكام على الجماعات الإسلامية المعتدلة. وهكذا انتهى مسار الجدل حول هذا الموضوع إلى التلاقي بقوة عند محاربة «داعش» والإرهاب عموما وتجاوز الخلاف حول الموقف من الإسلام السياسي.

لم يكن تجاوز هذه القضية هو بداية الانفراجة الجديدة في العلاقات الأمريكية العربية، وإنما كانت هناك قضية أخرى حاكمة هي حرص ترامب الشديد على أن إدارته غير معنية بتغيير الأنظمة في المنطقة كما كان الحال في عهد أوباما، وكان مفاجئا في بداية حكمه ما صدر عنه وعن فريقه بخصوص اللامبالاة ببقاء بشار الأسد في سوريا من عدمه، وهو موقف تم التراجع عنه فيما بعد. ولا شك أن هذا التوجه (بخصوص الأنظمة) قد ساهم في إحياء الكيمياء في العلاقات، وباتت كلمات مثل الصداقة والتحالف تتردد من جديد بين واشنطن وعديد العواصم العربية.

وتدريجيا تصاعدت علامات الارتياح في المنطقة مع انخراط واضح من جانب الولايات المتحدة في الملفات السورية والليبية واليمنية بعد أن كانت الشواهد تشير في بداية المائة يوم إلى عزوف إدارة ترامب عن هذه الملفات باستثناء تشديدها على أنها ستتصدى بحزم لتنظيم «داعش»، ووضح العزوف عندما تركت هذه الإدارة مثل الإدارة السابقة الملف السوري لروسيا. ولكن الموقف تغير مع قرب انتهاء المائة يوم حيث بدأت إدارة ترامب في التعبير عن رفضها بقاء الحال على ما هو عليه دون اتضاح أفق الجهود السلمية التي تصدرتها روسيا، وعدم ارتياح العواصم الأوروبية لحالة العزوف الأمريكية.

وهكذا ردا على واقعة قصف منطقة خان شيخون السورية بالكيماوي أصدر ترامب تعليماته بضرب قاعدة الشعيرات بالصواريخ متحديا روسيا قبل أن تكون الخطوة عقابا للنظام السوري.ومنذ ذلك الوقت تبدلت مسيرة الملف السوري بعد أن فرضت واشنطن وجودها ولم تعد موسكو قادرة على التحرك منفردة كما كان الحال في السابق، ولاقى هذا الموقف ارتياحا لدى أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة أسهم بدوره في تقريب المسافات وحدوث التلاقي في المواقف. وفي نفس الإطار جاء التحرك الأمريكي في الملفين الليبي واليمني معززا نفس النتيجة.

على أن الملف الفلسطيني بدا الأكثر إثارة في التعبير عن مستجدات التحول في العلاقات العربية الأمريكية عند المقارنة بين ما استجد وبين ما كان عليه الحال في عهد أوباما. ومبعث الإثارة أنه ظهر في صدر الأحداث قبل نهاية المائة يوم على غير توقع بالمرة. فحتى ذلك الوقت كان الملف قد طواه النسيان خصوصا بعد أن أعلن جون كيري وزير خارجية أوباما وقبيل الانتخابات بمدة وجيزة أنه فعل أقصى ما عنده وكانت لديه الحلول ولكن حكومة نتانياهو تعمدت إفشاله!. وكان ترامب قد أبدى اهتماما محدودا بالملف خلال حملته الانتخابية، ثم صدم الجميع مع توليه الحكم عندما قال إنه غير معني بحل الدولتين وأن هناك بدائل أخرى ثم كرر الموقف لنتانياهو وطمأنه بأن أحدا لن يفرض حلا على إسرائيل. ولكنه استقبل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بحفاوة لافتة متعهدا له بأنه سيبذل كل ما في وسعه لكي يحقق اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين وذلك بوصفه وسيطا محكما ومعززا لمسيرة السلام، وقال «إنه يأمل في أن يعود عباس إلى واشنطن لتوقيع اتفاق كهذا. وبادله الرئيس الفلسطيني بحفاوة سياسية لا تقل عن ذلك عندما قال له إننا نربي شبابنا وأولادنا (أي الفلسطينيين) على ثقافة السلام.. نحن ملتزمون بتحقيق الحرية والأمن والسلام لكى يعيش أولادنا مثل كل الأولاد في العالم إلى جانب الأولاد الإسرائيليين بأمن وحرية وسلام». كلاهما باع الأمل للثاني وفتح له الطريق للعمل المشترك، فالمهم أن يحدث التلاقي وتتحقق الكيمياء وبعدها لكل حادث حديث!.

ولكن برغم بريق الصورة بعد أن تحسنت بالفعل عبر هذه القضايا كنماذج من أجندة العلاقات الجديدة التي يجري بناؤها بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط وتحديدا العربية، إلا أنها تظل بمثابة مقدمة مضيئة لمشهد أكثر تعقيدا بكل ما يحمله من تنازلات تاريخية من المؤكد أنها مؤلمة على الجانب العربي بحكم أوضاعه المنقسمة وضعف قدراته الاستراتيجية. فترامب المولع بأسلوب الصفقات بوصفه رجل أعمال من الطراز الرفيع نجح في الترويج لنفسه كمنقذ للشرق الأوسط من أزماته الخانقة، ولكنه لم يلتزم بإجراءات محددة وترك كل الملفات مفتوحة للنقاش والتفاوض.

ليس لديه تصور محدد للقضاء على «داعش» برغم المشاركة العسكرية الأوسع في الحرب على التنظيم مقارنة بالسابق، ولا على كيفية القضاء على التطرف والإرهاب، ولا على التسوية السياسية في سوريا، بل ولا على حل القضية الفلسطينية، حيث لم يأت على ذكر حل الدولتين خلال مؤتمره الصحفي مع عباس. فقط معني ببناء تحالف إقليمي بمشاركة عربية وإسرائيلية لمواجهة إيران من جهة وللإنهاء على الصراع العربي الإسرائيلي من جهة أخرى.