المنوعات

ضفاف :«النبيل».. إدوار سعيد

18 مايو 2017
18 مايو 2017

ماجدة الجندي -

أعتبر نفسي من المحظوظين، في الحياة، فعلا.. الحياة التي أتاحت لي تواصلا ولقاء بعدد ممن أعتبرهم «أزهارا» للعطاء الإنساني المعاصر... أو الذين منحوا الحياة وحين غادرونا جسدا، أو تركوا الحياة، صارت مختلفة.. بعد عبورهم عما كانت قبل حضورهم.. هؤلاء لا ينبغي أن تغيب عنا عطاءاتهم التي نحن في حاجة ملحة لتأملها والنهل منها.. الدكتور إدوارد سعيد، في المقدمة من هذا الفصيل النادر وهو الفلسطيني الجذور، المولود بالقدس والذي الذي تبوأ الاستاذية عن جدارة بجامعة كولومبيا، أستاذا للأدب المقارن، و دراسات ما ما بعد الكولونيالية، منطلقا من «الأدب» الى عوالم أوسع تتعلق بما كشف عنه من علاقة بين الكولونيلية وما يعكسه الآدب في النظر الى الشرق، رافعا راية أفكار لا شك وأنها لم تكن علي وفاق تام والتيار الأمريكي العام، فما البال وجامعة معروفة «بالشراسة».. واستطاع أن يؤسس لمراجعة أصيلة للرؤية الغربية للشرق، سعيد الذي حاضر فيما يقرب من مائة جامعة، كان من بينها أمهات جامعات العالم الأكثر رسوخا علميا: هارفارد وييل وستانفورد التي بدأ خلال محاضراته بها، ركيزة عمله عن الاستشراق. الدكتور إدوار سعيد التقيته أول مرة في الثمانينيات بالقاهرة، وكنت قد تعرفت عليه مسبقا عبر كتابه الفارق «الاستشراق».. ثم اغتنيت بلقاءات معه ومع «مريم»، زوجته في دبي بعد ان نال وجمال الغيطاني جائزة العويس معا في عام واحد، ثم في جامعة كولومبيا.. كان أكثر ما يمسني في شخصيته، ذلك التواضع اللافت المصفر بإنسانية نبيلة.. لم تكن مرات اللقاء لتفقد بعدا يمس العمل من جهتي، أكثر من حوار وأكثر من نقاش، لكني أحيانا كنت أني أظن، باللقاء علي أن أوظفه لغرض ولو للصحافة.. هل كان في الأمر «خيانة مهنية؟» ربما لكن يحدث في مشوار المهنة أحيانا، أن يجرفك فيض إنساني، يتجاوز حتى تلك النزعة التي يعرفها كل المهنيين من الصحافيين، والتي كثيرا ما يهون لأجلها كل غال. بالطبع أنت تكون «انطباعا» يستبق اللقاء الحي..، واعترف أن قلقا وتهيبا اعتراني بشده قبل أن ألتقيه، دكتور سعيد، بالقاهرة، وكانت دهشتي غير المحدودة لما مد يده في الدقيقة الأولى للقاء كان مرتبا لإجراء حوار: «إزيك يا ماجدة.. عاملة ايه..»، قالها كأننا لا نتعارف لأول مرة.. أو كأننا نصل ما انقطع.. كان عبقريا في الوصل الإنساني، بتجرد نزيه، و في الأمانة أو الموضوعية مهما كلفه ذلك، ربما تعد على أصابع اليد الواحدة، من حملوا هذا النوع من التجرد، والتقيتهم... أتذكر له موقفا لا يمكن أن أنساه، لما حصل علي جائزة العويس، سأل أحدهم عن القيمة المالية التي لم يكن يعرفها، دونه في ورقة.. بعدها عرفت السبب.. لم يكن الفضول أو التعرف الى القيمة، بل كان سببا بعيدا عن كل ذلك.. قال دكتور ادوارد الذي يحمل الجنسية الأمريكية إنه، يعالج على حساب التأمين الصحي، في أمريكا، أي علي حساب دافعي الضرائب، كان في ذلك الوقت قد تم اكتشاف مرضه العضال، لوكيميا الدم، وأنه لابد وأن يكتب في إقراره الضريبي، مقدار الحائزة بدقة، كدخل حصل عليه.. الحقيقة إنني وغيري استغربنا.. وكان رد الفعل التلقائي: «لكنك لم تحصل على الجائزة من داخل أمريكا وبالتالي، لما تدفع عنها ضرائب؟» كان رده كاشفا عن عمق نبله ونزعته الإنسانية التي تتجاوز في صدقها، المألوف والمتواتر.. ربما.. لم يكن لأي، في تلك البلاد البعيدة أن يعرف، أن ادوار سعيد قد حصل على جائزة، وللجائزة حصة مالية، ربما كان يمكن للأمر أن يمر، لكن الدكتور سعيد كان ملتزما كعادته بالصدق مع النفس.. وبما عرف عنه من «نزعة إنسانية» أصيلة، كانت كامنة وراء مواقفه ورؤاه، وحتى نظريات العلم التي يتبناها، ودفعه هذا الصدق مع النفس إلي تسجيل قيمة جائزة العويس المالية في إقراره الضريبي طواعية. فلسطينية ادوارد سعيد، التي لا يستطيع أحد المزايدة عليها، ونزعته الإنسانية معا، ميزته ومنحته أفقا لم يستطع الكثيرون إدراكه، في حينها.. لكن الأهم هو تمتعه بما يشبه القناعة عن وحدة المعرفة، وعلى سبيل المثال قدم لنا سعيد أوائل التسعينات عملا مزج فيه ما بين الموسيقي والبعد الثقافي العام، تحت عنوان «متتاليات موسيقية».. كان سعيد صاحب تكوين معرفي شديد الثراء، مما مكنه من تلك النظرة الواسعة المحيطة بما لا يتمكن البعض من إلمامه.. في سياق هذه النزعة أتذكر فكرته هو وقائد الاوركسترا الأرجنتيني الأصل، والذي هاجر وأسرته إلي إسرائيل في عمر العشر سنوات دانيال بارنباوم، في تشكيل أوركسترا من الشباب العربي والإسرائيلي معا، حمل اسم «اوركسترا الديوان الغربي والشرقي». (لاحظ تلك الإشارة المتضمنة لجوته) متخذين الموسيقي كمعبر سلام إنساني، يؤصل لتحاور إنساني.. الفكرة نشأت في لقاء جمع الاثنين في احتفالية بمرور مائتين وخمسين عاما على «جوته».. وتحولت الى حقيقة وواقع وجوبهت كالعادة باعتراضات البعض لكنها صمدت، كما تعمقت العلاقة ما بين رائدي الفكر حتى أنهما معا، قدما أحد أجمل الكتب والذي حمل عنوان «حوارات حول الموسيقي..»

وللحديث بقية الأسبوع القادم إن شاء الله