أفكار وآراء

مواطنون ومهاجرون رقميون... في التعلُّم والتعليم

14 مايو 2017
14 مايو 2017

د. خلف هاجم التل -

و د. فواز القرعان -

أفضى التطور السكاني والنتائج التي تمخضت عن تعليم المجتمعات إلى إقبال الجماهير بغزارة شديدة على التعليم في العالم، والذي أصبح مطلبًا ملحًا لكل فرد في المجتمع. قابل ذلك ارتفاع تكلفة التعليم المستخدم للوسائل التقليدية وتعذر وصول كافة مكونات المجتمعات إلى مصادره ومؤسساته.

ولا تختلف المجتمعات العربية عن غيرها في الإقبال على التعليم وخاصة التعليم العالي، وتعكس الأرقام والإحصاءات المتعلقة بالملتحقين في مؤسسات التعليم العالي في أغلب البلدان العربية كثافة الإقبال على التعليم وخاصة التخصصات غير الإنتاجية مثل التخصصات الإدارية.

ولمواجهة هذا الضغط فقد سعى القائمون على التعليم في أغلب البلدان العربية نحو التوسع الأفقي في التعليم العالي عن طريق إنشاء مؤسسات تعليمية جديدة، وحثت القطاع الخاص للمشاركة في تخفيف العبء عن طريق الاستثمار في التعليم. ومع أن هذا التوسع وفر فرص التعليم لشرائح كثيرة من المجتمعات إلا انه افرز معوقات جديدة من أهمها انخفاض جودة التعليم واستمرار ارتفاع تكلفته.

واجهت الدول المتطورة التحديات نفسها في توفير فرص التعليم لمواطنيها مع السعي لتخفيض كلفته، وقد عالجت تلك الدول انطلاقا من الولايات المتحدة الأمريكية تلك التحديات عن طريق الإفادة من التعليم الرقمي على الانترنت والتي أحدثت تغييرات مؤثرة في الاقتصاد والإدارة والحياة الاجتماعية بالعالم.

وقد أوجد ظهور الانترنت جيلا ينتمي إلى العالم الرقمي بما تعنيه الكلمة، هذا الجيل عند التحاقه بالتعليم العالي يكون قد أمضى آلاف الساعات في استخدام الانترنت للتراسل واستخدام وسائل التسلية الالكترونية للهو ووسائل التواصل الاجتماعي لتبادل المعلومات مما يعني استعداده العقلي للتعلم بتلك الوسائل، كما تشير الدراسات إلى هذا الجيل الرقمي (الذين ولدوا في الثمانيات) من القرن الماضي بالمواطنين الرقميين Digital Natives) ) والذين يتعلمون بطرق واليات مختلفة تمامًا عما يقوم علية التعليم التقليدي الحالي، والذي يعتمد على نموذج الصف الدراسي منذ القرن التاسع عشر، كما أن معظم المحاضرين بالتعليم العالييفتقرون للمعرفة التكنولوجية الذين يطلق عليهم لقب المهاجرين الرقميين (Digital Emigrants). ويعد هذا التباين بين المواطنين والمهاجرين أكبر مشكلة تواجه التعليم اليوم. هذه الأرضية نبهت الباحثين إلى تحويل الوسائل الرقمية إلى وسائل فاعلة في عملية التعليم لتتناسب مع تعلم المواطنين (الطلبة)، وتتناقض مع أدوار المهاجرين (المحاضرون). توجه الباحثين هذا خلق حلولا رقمية ترتكز على تطور التكنولوجيا وخاصة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إضافة إلى اتساع رقعة خدمة الانترنت ووسائل الاتصال الأخرى. وتجلى استثمار التكنولوجيا في التعليم إلى ظهور حركة الموارد التعليمية المفتوحة Educational Resources) ( Open ) في عام 2002م التي ساهمت في تحسين جودة التعليم وتخفيض تكلفته.

وقد وفرت الموارد التعليمية المفتوحة المادة التعليمية بجميع أشكالها ولكافة التخصصات بكم هائل وبشكل مفتوح يسهل على كل عناصر عملية التعليم استخدامه تحت مظلة قوانين حقوق الملكية الفكرية بواسطة رخص المشاع الإبداعي (Creative Commons) المفتوحة. وقد ساهمت مئات المؤسسات الرسمية والخاصة بالعالم في ذلك إيمانًا منها بحق الجميع في التعليم المبنى على الجودة ودون الالتفات إلى تحقيق مكاسب مالية. وتبنت منظمات الأمم المتحدة، وعلى رأسها اليونيسكو ومنظمة الكومنولث للتعليم، حركة الموارد التعليمية المفتوحة، وحثت الدول النامية على استخدامها لما لها من فوائد في تطوير التعليم وتوفيره لكافة الفئات السكانية، واستجابت الكثير من الدول لذلك ونجحت في الإفادة من الحركة.

إنَّ أحد الجوانب المضيئة من ظهور حركة الموارد التعليمية المفتوحة في فضاء الإنترنت هو الانتقال من عالم الندرة حيث كان جميع الطلبة يتشاركون في مرجع دراسي واحد متوفر في المكتبة مما يحدد مدة ومكان استخدامه، إلى عالم الوفرة حيث يستطيع الآلاف من الطلبة استخدام المرجع نفسه في الوقت نفسه وفي المكان الذي يناسب كلا منهم وبدون كلفة تذكر.

وقد كانت الملكية الفكرية تشكل عائقًا مقيدًا لاستخدام الموارد التعليمية المفتوحة المتوفرة على الانترنت، والذي تم تجاوزها عن طريق رخص المشاع الابداعي والذي وفر حرية وسهولة الاستخدام للمحتوى الموجود على الانترنت وخاصة الموارد التعليمية المفتوحة، وبطريقة ميسرة بسيطة. ويتوفر حاليا على الانترنت أكثر من مليار ونصف المليار رخصة مشاع ابداعي تستخدم من قبل أكثر من مائة دولة لترخيص المحتوى بكافة أشكاله وخاصة المحتوى التعليمي.

إلا أن حركة الموارد التعليمية المفتوحة بالرغم من تطورها الملحوظ لم تنجح لتكون شريانًا رئيسيًا في عملية التعليم والتعلم ولم يصاحبه انتشار، وتبني الموارد التعليمية المفتوحة بالعالم لتحقيق أهداف حركة الموارد التعليمية المفتوحة في تبني الحركة عالميًا. وقد سارع الباحثون في نهائيات العقد الأول من هذا القرن لمعرفة أسباب ذلك. وقامت عدة دراسات عالمية وبدعم من منظمة اليونسكو وكومنولث التعليم، لتحديد العوائق أمام انتشار تبني الموارد التعليمية في المؤسسات التعليمية في العالم. حيت قام مشروع «أوبال» (OPAL) في عام 2010، بمعاينة أكثر من 400 مبادرة للموارد التعليمية المفتوحة في 120 دولة، وتم التحليل لنحو 80 مبادرة متميزة منها، والتي توصلت إلى أنه بالرغم من توفر المحتوى التعليمي فان الفائدة المرجوة من الموارد التعليمية المفتوحة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تبني ما سمي بالممارسات التعليمية المفتوحة (Open Educational Practices) . كما أيدت ذلك دراسة:

Open e-Learning) Content Observatory Services )

العالمية في عام 2012، والتي بينت بأنه بالرغم من توفر المحتوى التعليمي فإن الفائدة المرجوة من الموارد التعليمية المفتوحة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تبني ما سمي بالممارسات التعليمية المفتوحة. وتعرف الممارسات التعليمية المفتوحة بأنها:

«عمليات استخدام وإعادة استخدام الموارد التعليمية المفتوحة ذات الجودة العالية من خلال سياسات مؤسسية تدعم بداغوجيا مبتكرة يصبح فيها الطالب مشاركًا في العملية التعليمية، وليس متلقيًا فقط. وبذلك فإن الممارسات التعليمية أصبحت تعني استخدام الموارد التعليمية المفتوحة بوسائل ترفع جودة التعليم وتعزز كفاءته».

وبذلك انتقلت حركة الموارد التعليمية المفتوحة بدءًا من عام 2010 من المرحلة الأولى والتي ركزت على توفير المحتوى التعليمي إلى المرحلة الثانية، وهي الممارسات التعليمية المفتوحة. وتعتمد الممارسات التعليمية المفتوحة على خمسة محاور أساسية لتمكين المؤسسات التعليمية من تبنى الموارد التعليمية المفتوحة. وتتطلب الممارسات التعليمية المفتوحة تصميم نظام متكامل يشمل استراتيجيات وسياسات فاعلة تحدد أدوار عناصر التعليمية المفتوحة وإدارتها وتحتاج إلى بنية الكترونية رقمية مناسبة تشمل الموارد الفيزيائية والبشرية كما تحتاج إلى سياسات تتعلق باليات تبني الموارد التعليمية المفتوحة ورخص المشاع الإبداعي وتأهيل المحاضرين بالمعرفة التكنولوجيا.

لقد غابت معظم الدول العربية عن مجتمع التعليم الرقمي بشكل عام، وعن حركة الموارد التعليمية المفتوحة والممارسات التعليمية المفتوحة بشكل خاص لأسباب يمكن تلخيصها بعدم انتشار المعرفة المتعلقة بالموضوع في مجتمعات التعليم العربية وانعدام الرؤية لدي المعنيين بذلك، فمثلًا لا تعني الموارد التعليمية المفتوحة إنشاء مستودع رقمي أو تطوير مقررات دراسية. بالإضافة إلى ذلك غياب جهات رسمية راعية تنظم استخدامها وتعد السياسيات الخاصة بها والتي تجاهلت دعوات اليونيسكو المتكررة لإعداد الاستراتيجيات المناسبة لاستخدامها والإفادة منها. من الواضح أن هذه الأسباب هي أهم ما يجذب الانتباه، ومن الواجب التركيز عليها ومعالجتها للولوج إلى المجتمع الرقمي في التعليم والاستفادة من الموارد التعليمية المفتوحة.

مبادرة عمانية

كانت سلطنة عمان سباقة في هذا الموضوع بين الدول العربية، وقد انطلقت المبادرات المتعلقة بالموارد والممارسات التعليمية المفتوحة فيها منذ أكثر من سبعة سنوات. وقد كانت بداية الانطلاقة من وزارة القوى العاملة والراعية لمؤسسات التعليم التقني والتدريب المهني والتي تستوعب العدد الأكبر من طلبة التعليم ما بعد الثانوي، وتطرح تخصصات مرتبطة باحتياجات سوق العمل من خلال كليات التعليم التقني السبع ومراكزها التدريبية. وعملت الوزارة خلال هذه السنوات على تعزيز الوعي بالموارد التعليمية المفتوحة من خلال إقامة ورشات تدريبية وحلقات عمل مختلفة لمحاضريها. وطبقت مبادرات مختلفة لتبنى الموارد التعليمية المفتوحة وكانت الأخيرة التي أطلقتها الكلية التقنية العليا من خلال مقررات دراسية محدودة كخطوة تجريبية، وقد لاقت هذه المبادرة رعاية من أصحاب القرار في الوزارة وعلى أعلى المستويات، وعرضت الوزارة تجربتها في الكلية التقنية العليا أمام الفعاليات الرسمية الراعية للتعليم حيث لاقت كل التقدير والإشادة.

كما استجابت الجهات الرسمية الراعية للتعليم العالي بالسلطنة مثل: وزارة التعليم العالي، ومجلس التعليم، وجامعة السلطان قابوس وغيرها، لمبادرة وزارة القوى العاملة وبدأت بتطويرها وتوجهت لرعايتها بأشكال مختلفة، وبدأت بوادر تبنيها تظهر للعيان.

ومن أجل أن تصبح الممارسات التعليمية المفتوحة إحدى الاستراتيجيات للتعليم في السلطنة والاستفادة من هذه الفرصة الهامة للنهوض بالتعليم، فإنه من الضروري أن تتبنى جهة رسمية واحدة هذه المسؤولية لتوحيد الجهود ومنعا للتكرار والهدر وتوحيد السياسات والتعليمات في جميع المؤسسات التعليمية بالسلطنة. علما أن القائمين على التعليم التقني والتدريب المهني مستمرون في دعم وتطوير هذه الجهود.