المنوعات

ضفاف :في زمن نهر الحب

11 مايو 2017
11 مايو 2017

ماجدة الجندي -

«في زمن نهر الحب» او Au temps de la) riviere d amour)، هذا هو آخر اعادة طبع لرواية صدرت عام 1994 لواحد من ابرز كتاب الرواية الفرنسية في السنوات الاخيرة، بل والأكثرهم حظا. «اندريه ماكين». الطبعة الجديدة صدرت الأسبوع الماضي عن دار نشر «Le seuil»، لتؤكد ان أحدا لا يستطيع أبدا ان يتنبأ بمصير أو مسار.

التقيت اندريه ماكين في اكثر من دورة لمعرض الكتاب الفرنسي، و في كل مرة كان يخيل الي انه لم يغادر موطنه الأول، وأنه لا يكفي ان تتكلم لغة او تكتب بها لتحمل هويتها.. فأيهما يضفي الهوية: الأداة أو المضمون ؟ ماكين الذي تخطي الستين الآن، ولد في سيبيريا، ولم يأت فرنسا إلا عام ١٩٨٧ كمدرس في عملية تبادل ثقافي، تتم تقليديا مع عديد من البلدان، لكنها مع ماكين كانت لعبة الحظ الذي غيرت مصيره. سافر الى فرنسا كمدرس ليولد كروائي، ويتزوج فرنسية، ليصبح روائيا وليس أي روائي، بل قناص جوائز، وتترجم رواياته عن الفرنسية التي صار يكتب بها، الى عشرات اللغات. من ١٩٨٧ الى منتصف التسعينات كان محاصرا في الترجمة، يترجم وإلى جوار الترجمة يقدم بعض المخطوطات الى دور النشر ولا يجد إلا الرفض.. كتب ثلاث روايات باللغة الفرنسية قبل ان تأتي ضربة الحظ مع الرواية الرابعة والتي حملت عنوان «الوصية الفرنسية»، بفوزها بعدة جوائز كبيرة في نفس العام، منها الجونكور وميدسيس وهما تقريبا الأكبر في خارطة جوائز الروايات الفرنسية. يكتب ماكين بالفرنسية نعم.

لكن رأسه في سيبيريا ! مسرح أعماله، أبطال رواياته، كلها من هناك.. هذا العمل الذي أعيد طبعه، الصادر قبل عشرة أيام يقوم على فكرة متخيلة قادمة من رحم الوطن السيبيري.. فضاءات سيبيريا البيضاء وعادتها وميراث الحكي الروسي العتيق المحمل بالشجن، هو قوت أعماله، ومصدر إلهامه رغم انقضاء السنوات. لم تكن الفرنسية التي تعلمها ماكين في روسيا تساعد على التنبؤ بأنه يمكن ان يصير من كتاب الصف الأول في عقر دار الوطن الفرنسي الذي حل به، لم يترك نفسه لحيرة ومعاناة «ثنائية اللغة»، فما ان جاء فرنسا إلا وقرر الحسم، خاصة وان جزءا من نشأة علاقته باللغة الفرنسية يعود الى رغبة هيمنت عليه أيامها أنها نافذة على حريته وليس مجرد أداة. كان يكتب الروسية، ولم تخدمه ترجمات كتبه عن الروسية، لكنه حين كتب بالفرنسية تصدر الواجهة ولو بالمضمون الروسي! انه يكتب بلغة ويعتصر جذوره، يضخ كل تراثه الثقافي الروسي، يفرغ حقائبه الروسية في اللغة الفرنسية.

يقول لا يمكنني الا اكون نفسي، انا داخلي دستوفسكي وبوشكين وعشرات من الروافد الحضارية الروسية التي تحوي أوروبا وآسيا، الشمال والجنوب، الشرق والغرب. رواية دستوفسكي كما يراها ماكين ليست رواية روسية بل أوروبية انسانية ولا يهم بأي لغة كانت. يطرح نموذج ماكين أسئلة حول العلاقة باللغة هل هي مجرد اداة او جزء من مكونات العمل الفني و لا يمكن تجزئته ؟ ماكين مهموم بالحياة والموت والبطولة والمصير ويرى ان له خصوصية، هوية فنية بل وفلسفة ويضع الشعر فوق هذه الذروة، فالرواية لها من الشعر الروح و الرؤية. أصبح ماكين من ركائز الأدب الفرنسي، صار عضوا بالأكاديمية الفرنسية، وفي جعبته زاد من آداب العالم كله، اختزنه، ليتجاوز كل ما يطرح على أنه بديهيات.. لا شيء بديهيا باختصار. الأدب عنده خط دفاع إنساني للحفاظ على الخصوصية والأدب الحقيقي قادر على حماية خصوصيته. ليس مطلوبا من المبدع إلا ان يلتزم بإبداعه.

في الأدب المكتوب الانجليزي روافد ضخت فيه حيوية جديدة، جاءت من بلاد خضعت للاحتلال وبالتالي استوعب كاتبو هذا الأدب لغة الكتابة نفس التأسيس اللغوي والبلاغة كأي انجليزي، ويمكننا سحب القاعدة أيضا على كتاب مغاربة يكتبون بالفرنسية لأنهم كذلك تشربوا اللغة وخباياها.

ولعل موقع اللغة من الأدب الآن بحاجة الى وقفات اكثر تخصصا، خاصة وأننا على المستوي العربي نتأرجح ما بين وضعية تعتبر اللغة جزءا من الحالة الابداعية تتلون حسب الموضوع، بمعنى ان كل موضوع يفرض لغته، وبين فريق لا يرى دورها متجاوزا لمستوى «الأداة».