الملف السياسي

مخططات التقسيم الخارجية.. تستوجب حماية الجبهات الداخلية

08 مايو 2017
08 مايو 2017

طارق الحريري -

الدولة الوطنية العربية تتعرض الآن لمخاطر جمة بعد ما يعرف بثورات الربيع العربي التي أدت آثارها الجانبية التي تم استغلالها من عناصر خارجية إلى مشكلات عميقة في كثير من الدول 

ظهرت الدولة الوطنية العربية أو الدولة القومية بمفهوم العلوم السياسية في فضاء العالم العربي مع بدايات القرن التاسع عشر بعد قرابة ثلاثة قرون من نشأتها في أوروبا في أعقاب اتفاقية «ويستفاليا» التي أنهت سنوات طويلة من الحروب الدينية وكانت بداية تبلور المفهوم الجديد في المشهد السياسي العربي مع قيام دولة محمد علي باشا والي مصر الذي نجح خلال حكمه لمصر بالاستقلال والخروج من عباءة الهيمنة العثمانية التي أذاقت العرب الأمرين فاستشرى في فترة حكمهم التخلف وقمع المفاهيم والحركات الوطنية، ومنذ بداية القرن العشرين بدأت القلاقل في الشام وأعقبتها الثورة العربية الكبرى المسلحة ضد الدولة العثمانية، وبدأت من الحجاز بقيادة الشريف حسين في يونيو بدعم غير بريء من البريطانيين عام 2016 وامتدت من الحجاز حتى، وصلت إلى الشام لينتهى الحكم العثماني.

لم يكن العرب يدرون خلال هذه الفترة ما يحاك لهم في كواليس السياسة الأوربية التي أسفرت عن اتفاقية سايكس بيكو بين قطبي الاستعمار الأوروبي بريطانيا وفرنسا حيث أعيد رسم الخريطة العربية بتعسف تجاهل المصالح الوطنية لأبناء المنطقة العربية بما يحقق مصالح الاستعمار، ومع هذا فإن الدول التي نشأت في المنطقة فيما بعد اتفاق سايكس بيكو لم تشهد ضغائن وصراعات في ما بين شعوبها أو في ما بين حكوماتها، وكانت الوشائج فيما بينها أقوى من أن تتحول إلى نزاعات بين دول تتداخل حدودها وتتجاور، وتتواصل عبر الحدود الجغرافية، القبائل والأنساب دون عوائق. وقد جسدت جامعة الدول العربية، ولو شكليًا أهمية التعاون بين الدول العربية ومازال للجامعة دور مؤثر بدرجة معقولة في القرار العربي والحفاظ على وحدة الدولة الوطنية وتماسكها.

في ما بعد اتخذ المشروع القومي العربي بعد التحرر من الاستعمار الأوروبي في المنطقة العربية شرقًا وغربًا مكانة مهمة في الفكر السياسي أسست لهذا الفكر عوامل لا تتوفر لأي مجموعة بلدان أخرى من وحدة اللغة والدين وصلات القربى فظهر في سوريا والعراق حزب البعث، وفى مصر الناصرية، واحتلت القومية العربية المكانة الرئيسية في الخطاب السياسي للدولة، وترك هذا في وقته تأثيرًا مهمًا لدى الشعوب العربية.

لكن الدولة الوطنية العربية تتعرض الآن لمخاطر جمة بعد ما يعرف بثورات الربيع العربي التي أدت آثارها الجانبية التي تم استغلالها من عناصر خارجية إلى مشكلات عميقة في كثير من الدول حيث تتعرض كل من ليبيا وسوريا لمخاطر التقسيم وتواجه مصر أزمة اقتصادية عميقة، ويمر اليمن بحالة مخاض داخلي أدت لتطاحن بين أبنائه وخارج نطاق دول الربيع العربي فإن المشهد في باقي البلدان يحمل في بعضها بذور فتن وانقسام فمشكلة دارفور في السودان مازالت معلقة ويواجه العراق تحديات ضخمة مذهبية وعرقية ، وفي الجزائر يشكل الأمازيغ مشكلة كامنة وتواجه كل هذه الدول وغيرها مؤامرات إقليمية ودولية تسعى إلى تفتيت الدولة الوطنية في كثير من البلدان بما فيها تلك التي تتمتع باستقرار سياسي واقتصادي.

وحتى لا يكون الكلام مطلقا ويقع في شرك نظرية المؤامرة تجدر الإشارة إلى موضوع بالغ الخطورة نشرته صحيفة النيويورك تايمز كتبه «روبين رايت» في سبتمبر عام 2013 تحت عنوان كيف تتحول 5 دول في الشرق الأوسط إلى 14 دولة ؟ يدعو فيه إلى تفتيت 5 دول عربية في المنطقة بحسب القومية أو الديانة أو الطائفية أو الصراع على النفوذ والبترول وافتتح التحليل باعتبار أن الخطوة الأولى للتقسيم تبدأ من سوريا التي تجزأ إلى 3 كيانات سياسية مستقلة هي دولة سنية في الوسط وكردية في الشمال الشرقي وعلوية في الشمال وجزء من غرب سوري متوقعًا أن تتحول ليبيا التي تموج بالصراعات إلى 3 دول بحسب القومية والصراعات القبلية على النفوذ والنفط، دولة في الشرق، وأخرى في الغرب والأخيرة في الجنوب. وتوقع أن يتحول العراق إلى 3 دول، كردية، وسنية وشيعية، وستكون الدولة الكردية هي أجزاء من سوريا والعراق وتركيا، ونوه إلى ضرورة أن تنقسم اليمن مجددًا إلى جنوبية وشمالية.

هنا علينا أن نتذكر أن هذا المخطط بدأ التلميح له والحديث عنه منذ عقود طويلة خلت بدأه من إسرائيل «أودد يينون» وهو واحد من أخطر رجال المخابرات الإسرائيلية ويدعو في مخططه إلى تأجيج الأيديولوجيات بين الإسلاميين والقوميين والوطنيين من أجل تصعيد الصراعات الداخلية في كل دولة وعرض وقتها خطته في مجلة «كيفونيم» ويرى فيها صراحة أن للتقسيم الطائفي للمنطقة فائدة مهمة في إرساء شرعية دولة إسرائيل بما أن كل طائفة ستكون لها دولة، فوجود دولة يهودية يصبح مبررًا من الناحية الأخلاقية.

وحاليًا أيضًا تتكرر في حلقات مستمرة عملية التأكيد على الفكرة حيث عرض أحد رواد الاستشراق المعاصرين البريطاني الأمريكي «برنارد لويس» مشروع جديد للتقسيم وما خططه لمنطقة الشرق الأوسط حدث في مناطق أخرى من العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وهو صاحب خريطة أصدرها في سنة 1974 كانت تستهدف نهش أطراف الاتحاد السوفييتي. وممن يقومون بالترويج لخطط التقسيم «رالف بيترز»، العقيد الأمريكي المتقاعد ذو التوجه اليميني المساند لإسرائيل، الذي يضع في الاعتبار الأول الحدود التي توفر الأمن لإسرائيل. أما الاعتبار الثاني فهو لدولة كردية بعد توحيد سنة العراق وسوريا في دولة واحدة (كانت حدودها تتطابق مع المساحة التي كانت تسيطر عليها داعش وأعلنت فيها لأول مرة دولة إسلامية)، على أن تمتد دولة أخرى علوية من ساحل سوريا لساحل لبنان، وبالطبع دولة شيعية في جنوب العراق. أما «جيفري جولدبرج» الإسرائيلي الأمريكي فقد كتب منذ فترة قصيرة سلسلة مقالات في مجلة «أتلانتيك» ليثبت رؤية التقسيم لكن مع بعض التعديلات حيث تحدث لأول مرة عن دولة مستقلة في سيناء ووصلت الخريطة هذه المرة لعمق إفريقيا بتقسيم الصومال ونتيجة قوة حزب الله وسيطرته في جنوب لبنان اقترح له دولة شيعية مستقلة وإقامة دولة درزية في جنوب سوريا.

يجب أن ينتبه العرب إلى المخططات التى تحاك لهم والأمر بعيدًا عن أن يكون مرتبطا بفوبيا ونظرية المؤامرة فالكتابات تتعدد جهارًا نهارًا تتحدث عن تفتيت المفتت بعد سايكس بيكو الذي استقرت خريطته وهى تتعدد من مصادر مختلفة وهناك مراكز دراسات ومراكز بحثية في الغرب وتحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية تتبنى التوجه الذي يدعو للتقسيم. فخطط التقسيم التي يتبناها كلا من اليمين الإسرائيلي والأمريكي والتي تتواصل من نخب صناعة القرار لديهم ومشروعات التقسيم المقترحة تفصيلية مزودة بالخرائط في كبريات دوريات ومجلات الدراسات الاستراتيجية العالمية وللأسف دون قلق من أن يتنبه العرب لها.

إنَّ سلامة بنيان الدولة العربية الوطنية ليس ضرورة للاستقرار فقط؛ لأنه في المقام الأول ضرورة للبقاء في وجه هجمة شرسة في وقت يتعرض فيه جهاز مناعة العرب للضعف وتعانى صحتهم من الوهن. ولن يتسنى تحقيق ذلك إلا بالحفاظ على الوحدة الوطنية للدول والتصدي للمخططات الخارجية.